من لا يستطيع أن يتخطى الماضي لا يمكن أن يصنع المستقبل
” أيقونة إلى مؤسسة الرئاسة ”
أود في البدء أن أزجي الشكر أجزله وأرسل التحية لصاحب هذه العبارة احتفاظا له بحقه الأدبي فيها ومن ثم استأذنه في أن أرسلها أيقونةً أرجو أن تُعلق في رقاب سياسينا السودانيين اللذين قتلوا الأحلام في دنيا الصبايا وحرموهم حتى معنى الابتسام , إذاً فالشكر أجزله للعماد وحالياً الفريق ” ميشيل عون ” ذلك السياسي اللبناني المحنك , الذي اكتشفَ أن صناعة المستقبل تكمن في تجاوز عقبات الماضي , ولعله من محض الصدف أن يكون هنالك توافقاً أشبه بالتماثل بين حال البلدين ـ أعني السودان ولبنان ـ فكلاهما قد اكتوى بجراحه , وكلاهما أصطرع فيه الأخوة لحد العداء , وكلاهما طحنته الطائفية لدرجة الموت الأحمر , وكلاهما له جنوب يحن إلى شماله وأخيراً بكليهما ترتفعُ بناياتٍ سامقاتٍ لمساجد وكاتدرائياتٍ وكنائس , وعلى هامش ذكر لبنان ـ وصدقوني هذا أيضاً من قبيل الصدفة ـ أذكر في وقتٍ سابق من العامين الماضيين وحينها كانت الأزمة اللبنانية بين المعارضة والموالاة على أشدها , طار الأخ الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل وزير خارجية السودان الأسبق ومستشار رئيس الجمهورية حالياً إلى بيروت عارضاً خدمات بلاده لأجل تسوية الأزمة بين الفرق اللبنانية المتناحرة , أغدقت الحكومة اللبنانية في الكرم إلى ضيفها وأحسنت وفادة ركبه الميمون وحَمَلَته التحيات الطيبات للأخ الرئيس البشير راجية له طيب المقام على كرسي الرئاسة وللشعب السوداني الشقيق التئام جراح دارفور النازفة ! , وفي شأنٍ سوداني داخلي خالص : لم تبق زاوِّية مهما صغرت ودقت من ثنايا الوجه القبيح للسياسة السودانية لم يتعرف العالم عليها , فالبلد الوحيد من بين جميع بلدان الدنيا الذي كشف عن عورته بالكامل ولم يستحِ من ذلك هو السودان , البلد الوحيد الذي يقتل الجوع مواطنوه وأراضيه الزراعية تكفي حاجة مليار نسمة حسب تقارير منظمة الفاو هو السودان , البلد الوحيد الذي يقاسي شعبه وأنعامه من العطش وهو يمتلك أكبر احتياطي مياه في المنطقة هو السودان , البلد الوحيد الذي يخرج فريقه القومي لكرة القدم من المنافسات القارية دون أن يحرز هدفاً واحداً هو السودان , البلد الوحيد الذي نال شرف رئاسة مجموعة السبعة وسبعين زائد الصين وترتيبه في التنمية بعد المائة بسبعة وسبعين زائد اثنتان وعشرين هو السودان , البلد الوحيد الذي جعل الله لأيٍ من حكامه قلبين في جوفٍ واحد هو السودان , وها هو الدليل : البلد الوحيد الذي تقطع كل فضائياته جميع برامجها لتبث شعائر صلاة الجمعة وهو الأول في الفساد هو السودان إذ أن : ” قلبٌ للفساد وآخر للصلاة ” , البلد الوحيد وعلى مرّ التاريخ الذي يصبح رئيسه مطلوباً للعدالة وهو على رأس السلطة لأنه قتل شعبه أو أبادهم هو السودان , البلد العربي الوحيد الذي بادر لاستقبال الفلسطينيين العالقين وجميع مواطنيه ” مُعَلَقَين ” هو السودان , البلد الوحيد في الدنيا الذي يفوق فيه عدد الباعة المتجولين جماهير المشترين هو السودان , البلد الوحيد في العالم الذي يتحول فيه المتقاعدين من جنرالات الجيش إلى سماسرة ومسببين هو السودان , البلد الوحيد الذي تُلعبُ فيه مباراة من فريق واحد هو فريق ” المؤتمر المسمى بالوطني ” وبقية السكان مُعَلِقين هو السودان , وأخيراً ـ وهذا من باب الإيجاز لا النهاية ومن باب الحقيقة لا الحنقِ وليس من باب الباطل بل الحق ـ البلد الوحيد الذي يحشر حكامه أنوفهم فيما يعنيهم ولا يعنيهم هو السودان , ونعود مرة أخرى للمستقبل الذي شرط صناعته هو تخطي عقبات الماضي , وبتأمل هذه العبارة نلحظ أنها تتأرجح حول محور يتألف من حقبتين من الزمن هما آلام الماضي وآمال المستقبل , وإذا افترضنا أن هذا يمثل قانوناً سليماً ومجرباً لتطور الشعوب ونهضة بلدانها فإننا نكاد نجده صحيحاً وينطبق عليها جميعاً بلا أدني ريب ـ عدا السودان ـ فاليابان هذا البلد الذي يتربع حاضراً على عرش التكنولوجيا العالمية كان هو الأول في الماضي الذي جعلت منه الولايات المتحدة الأمريكية حقلاً للتجارب الذرية , وأمريكا نفسها التي كانت أكبر سوقٍ للرقيق السمر والحمر في الماضي هي الآن الأول في الاقتصاد العالمي وأكبر موطنٍ للحرية وهي التي تمنح ثقة رئاستها لشابٍ أفريقي كان أجداده بالأمس ” عبيداً ” , وعلى هذا المنوال قس تجد جميع شعوب العالم قد صنعت حاضرها وتأهبت لمواجهة مستقبلها حينما نجحت في تجاوز عقبات ماضيها الأليم , وهنا نعود ونختتم مرة أخرى بالسودان هذا البلد الذي لا يطوي صحائف أزمة إلا ويعود وينتجها من جديد بل بأسوأ مما كانت عليه , فحرب الجنوب التي ظللنا نعاني منها لأكثر من نصف قرن أرواحاً وأموالاً وبتر أطرافٍ وألغام ما زالت مدفونة لم تنزع حتى اللحظة , ها هي اليوم تنتهي لتفتح صفحة أكثر سواداً مما شهدنا في الماضي , وليس الحال في دارفور سيكون بأفضل مما يحدث في الجنوب حيث أن كل المؤشرات لا تنبئ إلا عن أحقادٍ وضغائن قليل منها ظاهر وأكثرها مستتر باطن ستنفجر كلها في حينها وبأشكال مختلفة سواء كانت بين قبائل وقبائل بصراعات دوافعها أراضٍ وظعائن , أو بين قبائل وأخرى بدوافع تحركها مطامع أحزابٍ وسياسيون يجيدون مثل هذا النوع من الصناعة أو خلاف ذلك من أشكال الصراع , إذاً فالواقع السياسي الراهن والذي نشهده أمامنا لا يمثل إلا بيئة غير صحية تماماً يتحرك خلالها سياسيون غير قادرين على تخطي ما تحت أرجلهم من أزمات ناهيك عن أن يتطلعون إلى بناء المستقبل , وهنا ربما ينهضُ سؤالاً عريضاً ومشروع وهو إلى متى هذا الضياع ؟ وهل لكي يستقيم حال السودان فإننا نحتا
ج أن نبيد كل هؤلاء الساسة الحاضرين ونستبدلهم بقومٍ آخرين ؟ وهل هذا الإجراء ـ إن حدث ـ يقع في إطار الممكن أم أنه ضربٌ من المستحيل ؟ للأسف الشديد إنَّ شيئاً من الفرضية الأخيرة التي أشرنا إليها هو ما يسود اليوم ونعني بها روح الإقصاء التي تسيطر على عقلية من يديرون الدفة وعلى وجه التحديد حزب الرئيس البشير , وأنَّ هذه العقلية هي السبب الرئيس وراء كل هذا التأخر ووراء كل هذا التراكم المذهل للأزمات , هنالك قانون واضح بل مجموعة قوانين ” سماوية وأرضية ” تحكم تطور المجتمعات واطراد نموها , لكنها ـ في واقعنا السياسي ـ قد وضعت جميعاً في الرف ولم يتم العمل بموجبها , وإلا فكيف يغيِّر الله ما بقوم لم يغيِّروا ما في أنفسهم ؟ وكيف يكون البقاء للأصلح ونحن نصرُ على التمسك بالفاسد من القادة والأسوأ ؟ السودان سادتي تحكمه الحالة المزاجية لهذا الحاكم أو ذاك , لهذا القائد أو ذاك , بل تحكمه الآن حفنة أو طبقة صغيرة جداً من البرجوازية الطفيلية التي نشأت نشوءاً فطرياً بين عشيةٍ وضحاها , والتي سيطرت على ثروات البلاد وقدمت من ثم نفسها مشروعاً أصولياً شمولياً باسم الإسلام ” حزب المؤتمر الوطني ” فهو الذي يتحكم بكل شيء وهو الذي يحوز على الكرة في ملعبه الآن وهو الذي يجب أن يمتلك الجرأة إذا عاد قادته إلى رشدهم وعرفوا أين صوابهم ـ وهذا مناط برئيسه عمر البشير ـ ويعلن من بعدُ الحزب توبته بالصوت العالي ويعقد ساعة محاسبة للنفس , يجب عليه أن يفعل ذلك اليوم قبل الغد هذا إذا أراد الخير لهذه البلاد , بأي منظور يختار باسم الإسلام أو باسم المنظور النقدي الذاتي بالمعنى الفلسفي للكلمة هو حُر في ذلك , ثم يتجه بضمير مفتوح للشعب السوداني بجميع قطاعاته وفئاته أحزابه ونقاباته ويدعوهم جميعاً لردم الماضي في هوة سحيقة لا مرد منها ولا رجوع ثم يُعلن فتح صفحة جديدة يوقع الجميع عليها ميثاق رسم طريق المستقبل , وهنالك ضمانة كبرى لما طرحنا من إجراء تلك الضمانة هي هذا الشعب السوداني الذي من المستحيل أن يوجد له مثيل في العالم لما يتميز به من نبيل الخلق وسعة الصدر والقدرة على تحمل الشدائد والصبر ونسيان الإساءة إليه والعفو والصفح فحرام ألا يهنأ بموارده وحرام أن يظل أبد الدهر يندب حظه ويبكي الخوالي من الليالي ….
حاج علي ـ Saturday, November 14, 2009
[email protected]