امدرمانيات – رمضان في امدرمان زمان

امدرمانيات – رمضان في امدرمان زمان
هلال زاهر الساداتي

يظل شهر رمضان على مر الزمان أحب شهر الي قلوب المسلمين ويكفى انه أُنزل فيه القرآن دستور الاسلام والهادى الى سواء السبيل وخير الدارين الى ان يرث الله الارض وما عليها، ونحن فى السودان تعودنا أن نعتز بهذا الشهر ونفرح بمقدمه ونميزه بطائفة من الطقوس والعادات تزيد من بهجته وروائه، وفوق ذلك كله تجد الكل يحرص على الصيام من الصغير والكبير وحتى الفاجر يتظاهر بالصوم، وأظن ان الصوم ارتبط لدى السودانيين بالرجالة (الرجولة) والتى يقدمها السودانيون على معظم الفضائل الخلقية، فانه من العيب أو العار أن يفطر الرجل دعك عن الجهر بالفطر .. وللنساء كلف خاص برمضان لما يتميز به من أطعمة وأشربة خاصة، وتبدأ الاستعدادات له منذ شهر شعبان، فكن يشترين اللحم الذى يقطع الى شرائح ويجفف ليعمل منه (الشرموط) الذى يصنع به ملاح التقلية أو النعيمية، ويشترين الذرة والبهارات ليصنع الحلومر والأبرى وكذلك العصيدة والتى لا تكاد تخلو منها مائدة افطار رمضان. وكن يعملن ما يشبه النفير فى الزراعة فتجتمع الصاحبات والجارات فى دار احداهن (لعواسة) الابرى والحلومر ويتناوبن العمل فى جو ملئ بالفرحة والانس. وينتقلن من بيت الى آخر حتى تفرغ جميع البيوت من تحضير الابرى والحلومر وكانت اجواء الحلة تعبق بروائح هذين الشرابين الزكية وتعطرها فينشرح لها قلوب المؤمنين والناس بقرب الشهر الفضيل.. وكان الرجال بعد انتهاء العمل يقضون بقية اليوم قبل الأفطار فى الحدائق أو تحت كوبري النيل الابيض، وبخاصة فى حديقة برمبل بالموردة فى أمدرمان والتى سميت بعدئذ بحديقة الريفيرا وهو اسمها الحالى، وكانت حديقة أنيقة كثيرة الاشجار غزيرة النخيل متنوعة الزهور والورود وكانت مفتوحة لكل افراد الشعب بدون رسم دخول.
فكان الصائمون يستلقون تحت ظلال الاشجار الوريفة، فتجد منهم النائمين ومنهم من يلعب الكتشينة والبعض يذهب للعوم فى البحر خاصة الصبية والاطفال وهؤلاء كان منهم من يغطس فى الماء ويبتلع (جغمة) او اثنين منه ويتظاهرون بالصيام وذلك اتقاءُ أو خوفاً من المعايرة بالافطار فى رمضان وهذا السلوك يأتى من افتراض نقص (الرجالة) للمفطر والذى ذكرته آنفاً، وكان الاطفال يسألون بعضهم البعض: “انت صايم صيام الضب ولا صيام السحلية” ويقصدون بصيام الضب المفطر وبصيام السحلية الصائم بجد .. ولا ادرى حتى الآن أن كان الضب والسحلية يصومان! وتنشط الحركة فى البيوت قبيل الافطار، فالنساء يشتغلن باعداد طعام وشراب الافطار المتنوع والشاى والقهوة، والأطفال والصبية يفرشون البروش والبسط امام البيوت، فقد كان معظم الجيران يفطرون جماعة وكل رب بيت يأتى بصينية افطاره، فيفطرون ويصلون المغرب جماعة ويذهب البعض الى المسجد بعد ذلك لاداء صلاة التراويح .. وان كانت هذه العادة الجميلة قد اندثرت أو كادت تندثر الآن فقد شاهدت البعض القليل لايزال متمسكاً بها .. وكان هناك مظهران يتميز بهما رمضان أولهما مدفع الافطار وثانيهما المسحراتي فقد كان يوجد هناك مدفع عتيق يوضع امام النيل عند طوابي المهدية قبالة جامعة القران الكريم للبنات بامدرمان، وكان يضرب ايذاناً بالافطار وكان المدفع يضرب ايضاً عند بدء وانتهاء وقت السحور، وكان دويه يسمع فى أنحاء امدرمان القديمة اى ما بين حى ود نوباوى شمالاً الى حى الموردة جنوباً ومن حى ابوروف شرقاً الى حى العرب غرباً، ولكن أسكت هذا المدفع فى عهد جعفر نميرى عندما كثرت ضده محاولات الانقلاب العسكرية، وذهب اب عاج بلا رجعة ولا يزال المدفع صامتاً! فهل الى عودته من سبيل؟ والمظهر الثانى هو المسحراتى الذى كان يطوف على الحى على حمار أو راجلاً وفى يده طبلة يقرع عليها ليصحى الناس للقيام للسحور مردداً عبارات منغمة اذكر منها: (( قوم يا صايم وحد الدايم))، أو يشطط فيقول “صايم رمضان قوم اتسحر. فاطر رمضان نوم اتندل”، وفى وقت لاحق سمعت احدهم يعلن عن موعد السحور بالضرب على نوبة .. وكان هناك مطرب حقيبه فى الموردة يستعمل الرق فى التنبيه للسحور وهو ذات الرق الذى يضرب عليه فى حفلات الغناء .. وكان اغلب المسحرين يؤدون هذا العمل متطوعين يبتغون من وراء ذلك الاجر والثواب من عند الله، بينما القليل منهم يفدون الى البيوت صبيحة العيد للتهنئة فيجود عليهم الناس بالحلوي والتمر والفول والكعك والنقود ..
كان مسلك الناس فى رمضان مثالياً للمسلم الحق فى النقاء والطهارة والتقوى، حتى المبتلين بشرب الخمر كانوا يمتنعون عن تناولها وان كانوا يودعونها قبل الصوم بتظاهرة شرابية يسمونها “خم الرماد” يشربون فيها حتى لا يميزون بين الارض والسماء! وبالمقابل كانت هناك مناظر وسلوكيات مقرفه وقبيحة يأتيها البعض فى رمضان واظنها لاتزال موجودة حتى الآن، ومنها الذين يبصقون باستمرار وكأنهم مصابين باسهال فى أفواههم! والذين لا يستاكون ويظنون ذلك من تمام الصيام، وهذا يذكرني بالقصة التى أوردها الجاحظ عن الرجل ذى اللحمية الطويلة والذى كان يجلس بجانبه فى المسجد وتفوح من وجهه رائحة عفنه فلما نظر إليه وجده واضعاً على شاربه قطعة من خراء ولما سأله عن ذلك اجاب بانه اراد ان يتذلل لله .. أو الصبي الذى ذكره تشارلس دكنز والذى خلع ملابسه كلها ورقد عرياناً فى عز الشتاء وهو يرتجف وذلك تقرباً لله! ومن المناظر المنفرة تظاهر البعض بالزهج وسوء وضيق الخلق متعللاً بالصوم وهناك الموظفون الذين يجعلون من رمضان موسماً للكسل وعدم القيام بواجباتهم ازاء العباد والذين ينومون اثناء ساعات العمل ويفترشون التربيزات أو الارض للنوم تحت المكيفات والمراوح بعد ساعات العمل ويقفلون المكاتب عليهم .. ولست ادرى كيف يقضى معظم الناس رمضان الآن مع قلة النقود وتوحش الغلاء ؟! وربما تعودوا على شبه الصيام الاجبارى فطعامهم المتاح هو البوش والدكوه مع الطماطم اذا تيسرت والذى صار يُشّكل وجباتهم الرئيسية! ومع ما يقاسونه من سوء تغذية وأمراض!!
ولكن مما شاهدته مؤخراً من مظاهر ايمانية باذخة هو امتلاء المساجد بالشباب وحضور النساء والفتيات خاصة صلاة التراويح فى المساجد والساحات وآمل أن ينعكس هذا على سلوكنا فالدين عند الله المعاملة..
وكل رمضان وانتم وبلادنا وبلاد المسلمين فى عزة وسلام.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *