كان معظم الدوائر السياسية يتوقع أن تصبح منطقة أبيي قنبلة تنسف اتفاق السلام، الموقع بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في كانون الثاني (يناير) 2005، لكن جاء حكم محكمة التحكيم الدولية في 22 تموز (يوليو) الجاري ليقلب التوقعات السابقة. فبدلاً من صدور حكم على قاعدة غالب ومغلوب، بدا الحكم توافقياً، وطغت فيه الخلفيات السياسية على نظيرتها القانونية والاقتصادية على الاجتماعية. وربما تكون هذه المرة الأولى التي يصدر فيها حكم يقبله الطرفان المتخاصمان بصدر رحب. فقد نظر كل طرف إلى الزاوية التي يبتغيها ويطمئن إليها ليحصل منها على ما يريد، وسط حرب سياسية طاحنة سبقتها مقدمات معارك عسكرية ضارية، من الصعوبة أن يربحها طرف بمفرده، في ظل توازنات داخلية دقيقة وحسابات خارجية عميقة، واستخدمت فيها أدوات مشروعة وغير مشروعة. لذلك كان القبول بنتيجة التحكيم رضائياً أفضل من قبوله قسرياً.
حقق حزب المؤتمر الوطني ما أراده عندما لجأ إلى المحكمة الدولية للتعرف الى مدى صواب تقرير لجنة الخبراء بخصوص منطقة أبيي، لأن المحكمة أكدت حدوث تجاوزات ارتكبتها اللجنة، التي ضمت خبراء من أفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة فضلاً عن ممثلين للجانبين الأساسيين، في شأن الحدود الشمالية والشرقية والغربية وطالبت بإعادة ترسيمها. وهذا الاعتراف في حد ذاته انتصار لرؤية المؤتمر الوطني، الذي زاد بإخراج حقول النفط في “هجليج” عن أبيي وضمها للشمال، وهي تمثل الركيزة الأساس في مجموع ما يستخرج من هذه المنطقة، ويقدر بنحو نصف العائدات المادية للنفط السوداني عموماً.
من وراء الحكم القانوني أيضاً، حقق المؤتمر الوطني مكسباً سياسياً مزدوجاً، داخلياً وخارجياً، لأنه عزّز صواب رؤية الحزب في اللجوء إلى المحكمة والتي شككت قوى سودانية كثيرة في جدواها، استناداً إلى تقرير لجنة الخبراء الذي أيّد وجهة نظر الحركة الشعبية وعدم الثقة في توجهات الحزب أصلاً، سواء كانت سياسية أو قانونية. كما أن الترحيب بالحكم، يمكن أن يوجد مساحة من الثقة الخارجية في تصورات حزب المؤتمر الوطني، الذي يواجه أحد أكبر تحدياته المتمثلة في إحالة رئيسه عمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية. ومع أن الفارق شاسع بين المحكمتين، إلا أن الحكم الأخير سيعطي في النهاية رسالة قبول ضمني بالتحكيم الدولي، الذي أثبت قرار أبيي أن المكونات السياسية قد تكون لها أولوية عن مثيلتها القانونية، بما يفتح الباب لما يوصف بالصفقات السياسية، التي تقوم على التنازلات المتبادلة لتعظيم المكاسب وتقليل الخسائر.
في المقابل ربحت الحركة الشعبية الماء والأرض وجملة كبيرة من الفوائد السياسية. على المستوى الأول (الماء والأرض) ضمنت قبيلة الدينكا الافريقية السيطرة على أجزاء مهمة من الأراضى الخصبة وموارد المياه العذبة، التي طالما كانت مجالا للنزاع والصراع مع قبيلة المسيرية العربية التي تشاركها غالبية شؤون الحياة الاقتصادية والاجتماعية في أبيي. واذا كان الحكم أرضى الطبقة السياسية في الخرطوم، فإنه أغضب الطبقة القبلية المنتمية إلى الشمال في أبيي. فالأولى كانت تبحث عن مغانم نفطية ومكاسب سياسية وحققتهما تقريباً، بينما الأخيرة (المسيرية) التي تعتبر الأرض بمثابة عرض خسرت جزءاً مما كان في حوزتها لعشرات السنين. بالتالي فالأسابيع المقبلة ستكشف عن الشياطين الكامنة في تفاصيل هذا الحكم، خصوصاً أن سكان أبيي من القبيلتين مطالبون بعد أقل من عامين بتحديد مصيرهم، بالاستمرار في كنف الشمال أم الانضمام إلى حضن الجنوب؟
في ظل ما ظهر من عدم ارتياح لدى قطاع في المسيرية، قد يكون اتجاه هذه القبيلة للانضمام للجنوب لا يقل عن حماسة الدينكا نقوق، للحفاظ على ما تبقى من حقوق ثانوية للقبيلة في هذه المنطقة.
على المستوى الثاني (السياسي) حققت الحركة الشعبية قائمة طويلة من النجاحات السياسية. أبرزها، التأكيد على تمسكها بخيار السلام ونبذ الحرب وتغليب الحوار على الصدام. وإرساء سابقة في اللجوء الى التحكيم في القضايا الخلافية، لا سيما أن مسألة إعادة ترسيم بعض الحدود لاحقاً والتي نوهت إليها محكمة التحكيم من الممكن أن تصبح محل أخذ ورد وشد وجذب. كما أن الحركة الشعبية أفلحت في الحفاظ على ما أنجزته من هدوء وأمن واستقرار في الجنوب، حيث أكد قبول الحكم وتمريره بسلام قدرتها على الامساك بزمام الأمور وضبط ايقاع الأحداث بغير انفعال أو انفلات، ما يعنى أن القوى الجنوبية المناوئة للحركة الشعبية وتحاول مناطحتها سياسياً وعسكرياً قليلة التأثير، لأنها فشلت في تحريك الشارع الجنوبي على رغم خسارة الحركة الجولة القانونية للتحكيم.
ينطوى ضبط النفس الذي بدت عليه كثير من قيادات الحركة الشعبية على رغبة واضحة في استكمال الفترة الانتقالية بأقل خسائر ممكنة، ومحاولة تسهيل الأجواء أمام عدد من الاستحقاقات المصيرية، التي يمكن أن تتأثر سلباً بحدوث قلاقل أمنية أو منغصات سياسية. فهناك أربع انتخابات مقبلة، الرئاسية والبرلمانية والولاياتية وبرلمان الأقاليم، في نيسان (أبريل) المقبل. من المهم إجراؤها وقطع الطريق على محاولات التسويف التي يمكن أن يلجأ إليها حزب المؤتمر الوطني وظهرت ملامحها في تأجيل هذه الانتخابات مجتمعة من تموز (يوليو) 2009 إلى شباط (فبراير) 2010 ثم إلى نيسان (أبريل) من العام نفسه، وغير مستبعد استثمار أي مطبات أو خلافات لتتوالى حلقات التأجيل. كما أن الحركة الشعبية تسعى إلى تمرير حق تقرير مصير الجنوب للاختيار بين الوحدة والانفصال، بعد أقل من عامين والذي سيجري بالتوازي مع استفتاء تحديد مصير أبيي. وهذه خطوة مهمة على طريق إعادة ترسيم الحدود السياسية للسودان، وتلقي دعم دولي لافت. الأمر الذي يفسر تحذيرات الأمم المتحدة، عشية صدور الحكم في شأن أبيي وقيامها بنشر عدد كبير من قواتها في المنطقة. فقد أرادت الحفاظ على اتفاق نيفاشا ومنع انهياره على صخرة أبيي.
الحاصل أن الدوافع السياسية للحكم تبدو واضحة في مجموعة من التحركات التي التزم أصحابها الحفاظ على هذا الاتفاق أو على الأقل توافقوا على التمسك به. في مقدمها، ما قامت به الولايات المتحدة من جهود في هذا الاتجاه. تمثلت في تعيين سكوت جرايشن كمبعوث نشط خاص للسودان، وعقد لقاءات في الولايات المتحدة والسودان بين شريكي الحكم من أجل سد هوة الخلافات وتقريب المسافات بينهما. كما أن تدخل واشنطن على خط أزمة دارفور في الأشهر الماضية من خلال مبعوثها الخاص لم يخل من أهداف جنوبية، حتى أن غرايشن حضر إلى السودان قبل أيام من صدور حكم أبيي. وهو ما يشير إلى أن واشنطن كانت ترمي بثقلها للخروج بحكم متوازن ليقبله الطرفان، منعاً للتشويش على قضايا أخرى أكثر حيوية. كما أن حزب المؤتمر الوطني يواجه تحديات في دارفور وتتكاتف عليه غالبية القوى الشمالية التي شككت في شرعية الرئيس عمر البشير بعد انتهاء ولايته في 9 تموز (يوليو) الجاري. علاوة على أن خوف جهات كثيرة من عودة الحرب الأهلية كان زاوية أساسية في القبول بصيغة حكم قانونية توافقية لها خلفية سياسية.
الواقع أن هذه الخلفية كانت ذات طبيعية ودية وقسرية في آن واحد. أولاً، لأن طاقم المحكمة يختاره الطرفان المتنازعان. وقام هذا الطاقم بالاستماع إلى شهادات وتلقي وثائق من الطرفين. وثانياً، أن رفض الحكم من أي طرف سيعيد الأوضاع في الجنوب إلى المربع الأول. بالتالي فالصبغة التوافقية جاءت لتتجنب هذا الخيار وتبتعد عن تحميل مسؤولية الرفض لطرف يمكن أن يواجه عقاباً يلحق أذى به وبالطرف الآخر. ففتح ملف المحكمة الجنائية الدولية على مصراعيه وتفجير أزمة دارفور حتماً سيلقيان بظلال سلبية على الجنوب.
كما أن اهتزاز تحالف الحركة الشعبية مع دوائر غربية (في حالة الرفض) يتسبب في خسائر سياسية ومصيرية للجانبين. من هنا أرسى الحكم في شأن أبيي قاعدة تعلي من قيمة الدوافع السياسية للوصول إلى صيغة قانونية يقبلها الطرفان بصورة رضائية.