ألهاكم التفاوض !.أحمد محمود كانم


إذا كان المفهوم العام للتفاوض Negotiation هو :
ذلك النشاط الذي يتضمن مشاركة طرفين أو أكثر (أفراد ، مجموعات ، وفود) ، في إطار السعي لإيجاد حل مرضي غير عنيف يسهم في تحقيق مصلحة طرفين أو أكثر يربطهم موقف مشترك ، فإن ثمة بون شاسع بينه وبين الذوبان و التماهي الذي عَرّفُهُ الدكتور مصطفى حجازي في ص 127 من كتابه: “سيكولوجية الإنسان المقهور”، بأنه “استلاب الإنسان المقهور الذي يهرب من عالمه كي يذوب في عالم المُتَسَلِّط؛ أملاً في الخلاص … و أن أقصى حالات التماهي المُتَسَلِّط تأخذ شكل الاستلاب العقائدي؛ ونقصد بذلك تَمَثُّل واعتناق قِيَم النِّظام ، والانضباط والإمتثال، وطاعة الرؤساء الكبار، وهي قِيَم تخدم – بما لا شك فيه – مصلحة ذلك المُتَسَلِّط؛ لأنها تُعَزِّز مواقعه وتصون مُكتَسَبَاتَهُ”.
فمائدة التَّفاوض إذاً هي ساحة معركة غير عنيفة تتطلب إعمال أقصى درجات الطاقة العقلية للحصول علي أكبر قدر ممكن من المصالح ، بينما التماهي هو تطابق ناتج عن رؤية مصلحية تصل إلى حد تغييب العقل، وتصل في التوصيف الأخلاقي إلى النفاق والكذب مُجْتَمِعَيْنِ.
* الملاحظ أن ثمة فئتان برزتا في الساحة السياسية السودانية بجانب المجلس العسكري الذي يمثل الوجه الجديد لنظام الرئيس المخلوع عمر البشير .. كلاهما يدعي وصلا بليلي..
إحداهما تحاول أن تجد لنفسها موطئ قدم في النظام بأي شكل كان ودون أية مفاوضات أو شروط مسبقة ، وإذا اضطرت في يوم ما علي التفاوض فينحصر الحديث علي كمية الأموال والمناصب التي يجود بهما الطرف المتسلط كثمن لذوبانها في ذاتية النظام ، علي أن تقوم بدورها في النباح بصوت النظام والدفاع عنه بشراسة تفوق ما لدي النظام نفسه ، إضافة إلي القيام بدور التطبيل وتكسير “الثلوج ” وتنفيذ مخططات النظام الرامية إلي إضعاف معارضيه وإلهاءهم بسفاسف الأمور وبث دعايات التخوين لضرب وحدة الثورة .. يجسد هذه الفئة المتساقطين من أحزاب وحركات الفكة و الطوائف الدينية المنضوية تحت مظلة جبهة نصرة الشريعة ، بجانب المخمومين والغواصات من نشطاء اللايفات والمغرر بهم من رجالات الإدارة الأهلية وغيرهم وهي بلا شك في وادي ومصالح الوطن والمواطن في وادي آخر .
أما الفئة الثانية فهي التي تسعى للحصول علي موطئ قدم لها في السلطة لكن عبر التفاوض ، وتختلف عن الفئة الأولى في كونها تهدف إلي المشاركة في صنع القرار وممارسة السلطة الدستورية بشقيها التشريعية والتنفيذية حسبما نصت عليه الاتفاقية المبرمة بينها والنظام الحاكم بما يتفق مع مطالب الشارع العام ، كما أنها تمتاز بشئ من الاستقلالية وإمتلاك كروت الضغط التي يمكنها التلويح بها علي الطرف الآخر بين كل حين وآخر .. يجسد هذه الفئة مكونات قوي الحرية والتغيير من نداء السودان وتجمع المهنيين وأحزاب سياسية أخري .
* وبما أن الفئة الأولى في ميزان المعادلة السياسية لا تعدوا كونها جزءا أصيلا من النظام ، فإن تحقيق تطلعات الثورة السودانية تظل منوطة بنجاح مساعي الفئة الثانية التي تمثل قطاعات واسعة من الجماهير الثائرة.. وهنا تبرز نقطة التحدي الحقيقي الذي يواجه هذه الفئة ، في ظل التشظي الداخلي الخفي الذي ألقي بظلال سالبة علي مجريات الأمور ، سيما بعد تعمد المجلس العسكري ترتيب لقاءات آحادية مع مكونات قوي الحرية والتغيير ، مباشرة تارة كلقاء الأمس الأول بأم جمينا ، وغير مباشرة تارة أخرى مثل لقاءات مصر والإمارات وجوبا .. إذ أن المشكلة ليست في من إلتقي بمن ، أو كيف وأين ولماذا إلتقيا ، إنما التحدي الأكبر الذي يقف أمام طرفي الصراع في السودان (الشعب_المجلس الانقلابي) يكمن في أن قوي الحرية والتغيير لم تفتطن لخطورة عدم وجود جسم تفاوضي يحوي جميع ممثلي الكتل المنضوية تحتها ، وهو ما نتج عنه إحساس جزء كبير بالتهميش والاقصاء ، وبالتالي ظهور لقاءات فردية سرية وفي العلن هنا وهنالك ، كأبرز نقطة ضعف يتراقص علي أنغامها المجلس العسكري .
* فمقابلة السيد مني مناوي رئيس حركة تحرير السودان و البروفسور الطاهر الفكي رئيس وفد حركة العدل والمساواة بالسيد محمد حمدان دقلو نائب رئيس المجلس العسكري في العاصمة التشادية ام جمينا التي أثارت جدلا واسعا في الأوساط الاسفيرية _ وإن كانت لا تعدوا كونها مناورات سياسية_ ما كان لها أن تكون إذا تنبهت قوي الحرية والتغيير لحساسية المسألة باكرا وراعت أثناء تكوين لجنة التفاوض تمثيل كل الأطراف المكونة لها وأدرجت في أروقتها قضايا ضحايا الحروب من النازحين واللاجئين والأسري .
إضافة إلي أن إحتواء قوي الحرية والتغيير علي أمثال الصادق المهدي ذا المواقف المتأرجحة الذي يجعله ضمن الفئة الأولى الساعية إلي الذوبان والتماهي في جسم النظام السابق و المجلس العسكري _ حسب التصنيف أعلاه _ يعتبر عائقا أمام تقدم أية خطوة نحو تحقيق الأهداف الثورية المرجوة .
* وحتي لا تكرر تلك الأخطاء المميتة التي أدمنتها القوى السياسية المعارضة في ظل النظام البائد يجب علي جميع مكونات قوي الحرية والتغيير إيقاف جميع أنشطتها التفاوضية الفردية فوراً ريثما يتم ترتيب البيت من الداخل و تكوين لجنة تفاوضية تضم كل ممثلي قحت من تجمع المهنيين و قوي نداء السودان والأحزاب السياسية الأخرى ، بجانب تحديد أجنداتها وتضمينها في الوثيقة التفاوضية مع تقديم مصلحة الثورة السودانية علي الأطماع الحزبية الضيقة .. كما أن الضرورة القصوى لإنجاح هذه الثورة تحتم علي قوي الحرية والتغيير تجاوز حزب الأمة وكل المتساقطين من أصحاب المواقف الضبابية .
وحينها فوراً ستنتهي جدلية من يجب أن يلتقي بمن ، وأين سيقف سقف المطالب والنقاط التي تحتمل التنازل والتي لا تحتمله .


أحمد محمود كانم
المملكة المتحدة
30يونيو 2019
Attachments area

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *