صلاح شعيب
الميديا الحديثة خادعة، أحيانا. ولكن فيها بعض خير وفير، ومنافع للناس، وأفراح. تأثيرها الموجب مما لا يختلف حوله راشدان، وهذا ليس الموضوع في حد ذاته. فهذه الميديا مثلما نعلم دخلت حجرات بيوتنا، ورواكبنا. وبعضنا ينتظر أن تدخل جامعاتنا فترقيها، وتسهل على الطلاب حتى يقبلوا على العلم من منازلهم، وفي سفرهم. بل نريدها أن تدخل سوقنا. وكذا مؤسساتنا الحكومية فلا يأتي مواطن تنقاسي – السوق الى الخرطوم ليقف في صف الجنسية ثم تنتاشه سياط جنجويدي ينظم التراتب بصوت العنج. فحسب مواطننا أن يقدم الطلب عبر الانترنت، وما أيام إلا ويفاجأ بساع للبريد يسلمه المظروف.
الميديا – بوسائط تواصلها الاجتماعي – تنوعت ثم تفرعت، واختصرت تباعد الأمكنة كذلك. وكان علمنا المحدود أن “السكة حديد قربت المسافات”، كما جاء في مسرحية د. عبدالله علي إبراهيم. سوى أن الميديا إذ هي نوارة الانترنت طوت الأرض طيا حتى صار مرقد الناس النهود عوضا عن الخوي، مع تحريف لقصيدة الشاعر خلف الله بابكر. ومع سير الحياة في عمقها الزمني المديد ستفعل هذه الميديا بالبشر الأفاعيل. ولئن كنا محظوظين أننا عاصرناها فإنه سيفوتنا الكثير بعد نصف قرن من الآن. والأعمار بيد الله.
فهي لا بد أن تعيد تفكيك الثابت والمتحول أيضا في مجالات لانطلاق الإنسان فيها رحابة. ستدخل على المعتقد الديني الراسخ بالساحق والماحق، وستهجم على الأكاديميات المؤثثة لتنقض غزلها، وستعيد تحكيم الأساسيات التي نقيس بها الفنون، والآداب، جميعها. ثم ماذا عن تأثيرها في الذوق الاجتماعي، وهندامنا؟ ألا تعيد تعريف الشؤون القومية أو الوطنية إن لم تعمل بالمرزبة على تحطيم رموز راسخة؟. أكثر من ذلك أن ميديا النصف الأول من القرن الحادي والعشرين ستقدم نماذج جديدة للعلاقات الدولية، والإقليمية، والقارية، والتي لن تعدها مجال التغول للطفيلية الرأسمالية العالمية والمحلية. فربما تعيد تعريفها على نحو يشئ بأنها مجال مص دماء البشر، لا أكثر ولا أقل. أما عمل الاستخبارات، أو “السايبر سيكيورتي”، فسينطلق إلى أقصى مدى. وفي المجال الطبي سيتجاوز الناس علم الخلايا الجزئية الذي ما يزال تحت التجريب. وعلى صعيد التقنيات العسكرية سيصحو البشر يوما على سباق تسلح أساسه أن القوى العظمى الفاعلة هي من تمسح الأرض كله في ثوان.
-٢-
كان محمد المهدي المجذوب في منتصف القرن الماضي قد خرج بمعانيه الثاوية في العمق: “أيكون الخير في الشر انطوى والقوى خرجت من ذرة هي حبلى بالعدم؟”. وكذا انبهر التيجاني يوسف بشير بالصحافة الورقية في فترة العشرينيات، وناجاها بقوله: الصحافة يا بنت السماء ونزيلة الأرض.. ويا سِر التقدم الإنساني.. موقظة الأجيال من سبات الغفلة والجمود .. الصحافة هي النور المنبعث على سماء الفضيلة والملقي بدلائلها على أرض بسطتها أيدي العقول وفضاء دبجته يد العبقرية على طريق وعر وشائك لا تعبده المعاول ولا تصلحه البنادق”.
صحافة التيجاني صارت في خبر كان ثم جاءت الميديا بما لا تستطعه وسائط التواصل البشري من قبل. ومن ضمنها الأخطر كان حوار اللايف.
فمن خلال أداة التلفون انتشر جمهرة الليفة، أو اللايفون، واللايفات إن صح الاصطلاح. ومع تكرارهم لتجارب التواصل مع الجمهور، ونتيجة للقاعدة العريضة التي بنوها من متابعين، صاروا يرنون لتطور أفضل. بعض الليفة، وليس كلهم، صدروا من موقع المعرفة بمجال السياسة. وربما عزز موقفهم بعض تجارب في العمل العام، ومعظم هؤلاء لا يريدون جزاء، ولا شكورا. فقط انحصر همهم في التنوير، ومحاربة الاستبداد، وطرح رؤاهم الهادفة، وهؤلاء لا خوف عليهم، ولا يحزنون.
ولكن هناك الذين غمرهم صيت جنوه من اللايف، وبالتالي خدعتهم الجماهيرية العريضة التي وجدوها فظنوا أن حالة “السليبريتي” ينبغي أن تتطور في اتجاه طلب النفوذ السياسي. وهناك رجاحة لهذا الطموح ومشروعيته، ولكن المشكلة تكمن في أن صيت الميديا الحديثة محدود التأثير إذا أدركنا أن كتل المشهد السياسي أفرزها عمل جمعي، جانب منه تاريخي وآخر متصل بنفوذ السلطة، وكاريزما القبيلة، أو الحزب مثلا، والحقل المهني، والشوكة العسكرية، ومختلف القدرات المجتمعية.
وكان بشير محمد سعيد في عز صيته في مؤسسة الأيام، ولكنه لم يوظف هذا لطلب تمثيله حتى في لجان حكومية إلى أن أتته وظيفة المستشار الصحفي لمجلس سوار الذهب تجرجر أذيالها فقبلها على مضض. وهناك نفر من صناع اللايف عديمو الخبرة السياسية فينشدون الاعتراف بهم حالا، ويطلبون بتمثيلهم، وإلا وصفوا الآخرين بأنهم إقصائيون. والمؤسف أن لا سبيل آخر لأولئك النشطاء سوى الارتماء في أحضان الضد من حيث يشعرون، ولا يشعرون. ومن هنا ينشأ التدحرج السريع إلى القاع فتبور تجارة اللايف.
-٣-
لقد تابعنا عددا من اللايفجية الذين ساهموا في تثوير الواقع بعد ثورة التاسع عشر من ديسمبر. والحقيقة أن ليس باللايف وحده يعرف المناضل. فكثير من الكتاب، والصحافيين، والروائيين، والطلاب، والفنانين، ونشطاء السياسة، وهواة المجتمع المدني المستقلين، ظلوا منذ الثلاثين من يونيو يقدمون مجهودات في مقاومة النظام الباطش ودفعوا أثماناً باهظة. وهناك الذين استشهدوا، وجرحوا في الاعتصام، وهم ينازلون النظام، ومع ذلك لم يطالبوا بأن يكونوا جزء من حراك التمثيل السياسي في هذه المرحلة.
بل إن وسط هؤلاء المناضلين من هم أصدق وطنية، ومساهمة بالمال، ومعرفة من كثير من اللايفجية المطالبين بأخذهم في الاعتبار التفاوضي. سوى أنهم ظلوا قانعين بأدوارهم في المحفل الوطني ليتحقق النظام الديموقراطي المنشود وكفى. ولكنه صيت الانترنت الذي يعمي البصيرة، ويخلق هالة من النرجسية، حتى يظن أحد اللايفجية أنه أعلى كعبا في تفجير الثورة، ويمكنه بالتالي أن يحل كل قضايا البلاد إن وجد فرصة التغيير.
ما ضر اللايفجية الباحثين عن كسب سياسي بعد الثورة أن يواصلوا تطوير قدراتهم في التنوير الاجتماعي والسياسي إذا كان هذا يجلب لهم المزيد من التعمق في تحصيلهم المعرفي والعلمي حتى يصيروا رموزا للتنوير في المستقبل، خصوصا أن أمامهم متسعا من الزمن كي يكشفوا مغاليق الأزمات السياسية. ولكن كيف يتخلص اللايفجية من خدع جماهيرية شبكات التواصل الاجتماعي التي تنمي في بعض نشطائها نوعا من تفخيم الذات حتى إذا هبطوا من هامش الفضاء إلى رحابة الأرض عجزوا عن حيازة النفوذ في البيئة السياسية والثقافية التي تحتشد بأصحاب القدرات الخلاقة.
لا شي ينجي الناشطون في ضخ اللايف، وبعض الفيسبوكيين، من الوقوع في مواقع النرجسية الإعلامية إلا التواضع بأننا كلنا بحاثة للمعرفة في عمق ازماتنا أكثر من كوننا بحاثة عن مواقع نفوذ سياسي، أو سيادي، أو غيره.