1
ساد الجدلُ وسط الأحزاب السياسية السودانية والمتعلمين وعامة الشعب السوداني في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي حول خياري استقلال السودان والوحدة مع مصر. وبينما كانت الجمعية التشريعية في الخرطوم تناقش مسألة تقرير المصير للسودان والعلاقة مع مصر، قام الضباط الأحرار في القاهرة بالاستيلاء على السلطة وإعلان الثورة المصرية في 23 يوليو عام 1952.
وجدتْ الأحزابُ السودانية ضالتها المنشودة في التحوّل المفاجئ للموقف المصري المؤيّد لمطلب السودان لتقرير المصير، والذي تبنّاه مجلس قيادة الثورة المصري بقيادة اللواء محمد نجيب. تبلور الموقف المصري الجديد ونظّمت الأحزاب السودانية الشمالية نفسها وبدأت المباحثات بين الوفدين المصري والسوداني في نهاية عام 1952، وانتهت بتوقيع اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير في 12 فبراير عام 1953.
وفي 21 مارس عام 1953 صدر قانون الحكم الذاتي كأوّلِ دستورٍ للسودان، بغرض وضع الأسس لإدارة السودان خلال الفترة الانتقالية والتي ستقود إلى تقرير المصير. واختار السودان النظام البرلماني، وظل الحاكم العام، بموجب الدستور الانتقالي، رأساً للدولة خلال فترة الحكم الذاتي، لكن بصلاحياتٍ محدودة.
2
بعد قرار إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 19ديسمبر عام 1955 قام حزبا الأمة والوطني الاتحادي بإدخال تعديلاتٍ طفيفةٍ على قانون الحكم الذاتي، وإصداره بصورةٍ عاجلة تحت مسمى “دستور السودان المؤقت لعام 1956″، وأصبح ساري المفعول ابتداءً من الأول من يناير عام 1956. وقد استبدل الدستورُ الحاكمَ العام الذي كان رأس الدولة بمجلسٍ جماعي تمّت تسميته “مجلس السيادة.” تكوّن مجلس السيادة من خمسة أعضاء، من بينهم أحد أبناء الجنوب، على أن يتناوب رئاسةَ المجلس أحدُ أعضائه الخمسة كل شهر.
سوف نناقش في هذا المقال تجربة مجلس السيادة في السودان خلال فترات الحكم المدني الثلاثة – تكوينه وصلاحياته، وسوف نتوقّف عند الرئاسة الشهرية لمجلس السيادة، ولماذا تم إلغاؤها، ونتائج ذلك الإلغاء، وسوف نجادل أن إلغاءها كان خطأً كبيراً. ثم سوف نثير السؤال: هل يمكن أن تكون الرئاسة التناوبية الشهرية للمجلس السيادي المقترح قيامه حلّاً للأزمة التي تواجه التفاوض بين المجلس العسكري وثوار ديسمبر؟ هذا بالطبع على افتراض أن المجلس العسكري يفاوض بحسن نية، وليس لكسب الزمن حتى تعود الإنقاذ في زيٍ جديد.
3
كما ذكرنا أعلاه فقد اتفقت الأحزاب السياسية السودانية بموجب دستور عام 1956 على الاستمرار في النظام البرلماني مع قيام مجلسٍ يسمى “مجلس السيادة” كرأسٍ للدولة بصلاحيات تشريفية بحتة. وقد تمَّ تفصيل تلك الصلاحيان التشريفية في الدستور نفسه.
وقد أوضح الدستور أن المجلس يتكون من خمسة أعضاء يكون واحداً منهم من أبناء الجنوب، وتكون رئاسة المجلس بالتناوب بين أعضائه كل شهر. كان الغرض واضحاً لكل الأطراف من مسألة الرئاسة بالتناوب – رئاسة المجلس بالتناوب سوف تمنع كل طامحٍ من أعضاء المجلس من تجاوز الصلاحيات التي منحه أياها الدستور بتحديد فترة رئاسته بشهر فقط، وسوف تضمن المساواة والعمل الجماعي بين أعضاء المجلس، بلا رئيس أو مرؤوس، وتجعل كل عضوٍ رقيباً على الأعضاء الأربعة الآخرين بالمجلس. كما أن عضوية أحد أبناء الجنوب في المجلس، ورئاسته للمجلس لمدّة شهر بالتناوب مع الأعضاء الآخرين، أعطى صوتاً لأبناء الجنوب في إدارة الدولة.
كان أعضاءُ أولِ مجلسٍ للسيادة هم السادة عبد الفتاح المغربي، أحمد محمد ياسين، أحمد محمد صالح، الدرديري محمد عثمان، وسرسيو أرو.
4
ساد هذا الوضع الدستوري خلال فترة الحكم المدني الأولى من شهر يناير عام 1956 وحتى استلام الفريق إبراهيم عبود للسلطة (بناءً على دعوة وتوجيهات رئيس الوزراء السيد عبد الله خليل) في شهر نوفمبر عام 1958. وقد قام مجلس السيادة بأداء صلاحياته التشريفية بهدوء وكفاءة ولم تحدث أيّة خلافاتٍ أو مشاحناتٍ بين أعضاء مجلس السيادة، أو مع أيٍ من مجالس الوزراء المختلفة خلال تلك الفترة.
وقد سألتُ صديقي الراحل السفير صلاح أحمد محمد صالح عن تجربة الراحل والده في مجلس السيادة، فذكر لي أن المجلس أدّى صلاحياته دون خلافاتٍ أو تجاوزاتٍ لمسئولياته، وفي معظم الحالات بعد التشاور مع مجلس الوزراء. وكرّر لي أن أعضاء المجلس تدخّلوا في هدوء ومن وراء الكواليس ودون تسريباتٍ للصحف، لمحاولة فض النزاعات المتزايدة وقتها داخل مجلس الوزراء، وأيضاً بين رؤساء الوزارات وزعماء المعارضة. وذكر لي أن الرئاسة الشهرية ساعدت على العمل الجماعي دون رئيسٍ أو مرؤوس. سألته عن الاتهام أن المجلس كان يعرف عن انقلاب عبود وعبد الله خليل ولكنه آثر أن يغض الطرف، مثله مثل السيدين (السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني). أجابني بأن والده فؤجيء بالانقلاب لحظة وقوعه صباح 17 نوفمبر، وحاول الاتصال ببقية أعضاء المجلس للتحرّك، لكن الانقلابيين عطّلوا الهواتف وتمّ اعتقاله بعد ساعةٍ من وقوع الانقلاب.
5
إثر نجاح انقلاب 17 نوفمبر عام 1958 تمَّ حلّ كل المؤسسات الدستورية، بما في ذلك مجلس السيادة. وأعلن الفريق عبود تشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة من ثلاثة عشر ضابطاً من كبار العسكريين في الجيش السوداني، ومنحه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية العليا في البلاد. وقد تمّ إدخال عدّة تعديلاتٍ على عضوية المجلس خلال السنوات الأولى بعد الانقلاب بسبب الخلافات داخل قيادات الجيش، ومحاولات الانقلاب المتكرّرة. لكن المجلس ظل مكوّناً من العسكريين فقط طوال فترة حكم الفريق عبود.
إضافةً إلى هذا كان كل أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة وزراء، وشملت الحكومة خمسة وزراء مدنيين فقط (السادة أحمد خير لوزارة الخارجية، وعبد الماجد أحمد لوزارة المالية، وزيادة أرباب للتعليم والعدل، والدكتور محمد أحمد علي لوزارة الصحة، والسيد سانتينو دينق لوزارة الثروة الحيوانية). عليه فلم يكن هناك مجال لأيّة خلافات بين المجلسين حتى سقوط نظام الفريق عبود في ثورة أكتوبر عام 1964.
6
اتفّق قادة الأحزاب والنقابات والاتحادات التي قادت ثورة أكتوبر عام 1964، والتي سمّت نفسها “جبهة الهيئات”، على وثيقةٍ سموها “الميثاق الوطني” يوم 27 أكتوبر عام 1964، تضمّنت خارطة طريق لعودة الديمقراطية، شملت إلغاء الأحكام العرفية وعودة جميع الحريات التي صادرها نظام الفريق عبود. تمّ الاتفاق أيضاً على العودة لدستور السودان المؤقت لعام 1956 والذي كان قد انبنى على إعادة صياغة بعض مواد قانون الحكم الذاتي على عجل في الاسبوع الأخير من شهر ديسمبر عام 1955 كما ذكرنا أعلاه، وتمّت تسمية الدستور الجديد “دستور السودان المؤقت لعام 1964.”
تشكّلت يوم 30 أكتوبر عام 1964، أي بعد عشرة أيام من اندلاع الثورة، حكومةٌ عريضة من ممثلي منظمات جبهة الهيئات برئاسة السيد سر الختم الخليفة، وكان كل وزراء الحكومة من المدنيين.
تمّت إعادة مجلس السيادة بموجب دستور السودان الجديد المؤقت لعام 1964 كرأسٍ للدولة. وكان الفريق إبراهيم عبود قد شغل منصب رأس الدولة لفترةٍ قصيرة بعد سقوط نظامه في أكتوبر عام 1964، بناءً على طلب جبهة الهيئات، حتى يتم الاتفاق على دستور عام 1964، والتوافق على أعضاء مجلس السيادة الجديد. قامت جبهة الهيئات بإبعاد الفريق عبود من منصب رأس الدولة في 14 نوفمبر عام 1964، وتم إعلان قيام مجلس السيادة في نفس اليوم.
تكون مجلس السيادة عام 1964 من خمسة أعضاء، كما حدث عام 1956، هم السادة التيجاني الماحي، عبدالحليم محمد، مبارك الفاضل شداد، إبراهيم يوسف سليمان، ولويجي أدوك. وقد ظلّت تلك المجموعة في عضوية المجلس منذ 14 نوفمبر عام 1964 حتى قيام الانتخابات في شهر أبريل عام 1965.
7
جرت الانتخابات في الشمال في موعدها المتفق عليه في شهر أبريل عام 1965. ولم تُعقد الانتخابات في الجنوب حتى مارس عام 1967، أي بعد عامين من إجراء الانتخابات في الشمال، بسبب الوضع الأمني وتصاعد وتيرة الحرب في الجنوب. وقد دار جدلٌ قانونيٌ عن دستورية الجمعية التأسيسية المنتخبة بدون ممثلين للجنوب، وإن كان بإمكانها قانونياً وضع دستورٍ دائمٍ للسودان.
حصل حزب الأمة على 92 مقعداً وحصل الحزب الوطني الاتحادي على 73 مقعداً من مجموع المقاعد المخصّصة للشمال والبالغة 233 مقعداً، بينما نال الحزب الشيوعي السوداني 11 مقعداً كلها في دوائر الخريجين (منها ثلاثة مقاعد ليساريين خاضوا الانتخابات في قائمة الحزب). ولم يكن هناك ممثلون لجنوب السودان عدا عشرة أعضاء، جلّهم شماليون، فازوا بالتزكية في بعض الدوائر الجنوبية ممثلين لحزبي الأمة والوطني الاتحادي.
سعد حزبا الأمة والوطني الاتحادي بنتيجة الانتخابات كثيراً، فقد أعطتهما مجتمعين 165 مقعداً. وأصبح واضحاً أن قادة الحزبين الكبيرين كان في ذهنيهما برنامجٌ متكاملٌ لتوظيف هذه الأغلبية لتقوية قبضتهما على مقاليد السلطة، وتنفيذ برامجهما الإسلامية العربية في السودان.
8
كان أول تلك البرامج هو تأطير اقتسام السلطة ومقاعدها الرئيسية بين الحزبين. كانت هناك وظيفة تنفيذية عليا واحدة في النظام البرلماني السوداني (رئاسة الوزارة)، تنازع عليها السيد إسماعيل الأزهري من الحزب الوطني الاتحادي والسيد عبد الله خليل من حزب الأمة خلال فترة الحكم المدني الأولى بين الأعوام 1954 حتى عام 1958. وقد تقاسماها مناصفةً خلال فترة الحكم المدني الأول. فقد شغل السيد الأزهري المنصب من يناير عام 1954 حتى يوليو 1956، بينما شغله السيد عبد الله خليل من يوليو 1956 حتى نوفمبر 1958، عندما وقع الانقلاب الذي خطّط له هو شخصياً.
عليه فقد كانت أولى التحدّيات التي واجهت الحزبين هي كيفية تقاسم تلك الوظيفة. تفتّق ذهن الحزبين في بداية الحكم المدني الثاني عن تعديل الدستور لخلق وظيفة رئيسٍ دائم لمجلس السيادة بدلاً من الرئاسة الدورية الشهرية بين أعضائه الخمسة.
كان أعضاء مجلس السيادة الذين تم اختيارهم بعد الانتخابات هم السادة إسماعيل الأزهري، خضر حمد، عبد الله الفاضل المهدي، عبد الحليم محمد، ولويجي أدوك. يلاحظ أن الحزبين تقاسما مقاعد مجلس السيادة الأربعة – مقعدين لكل حزب – وتركا المقعد الخامس لأبناء الجنوب.
لم يُضِعْ الحزبان الحاكمان وقتاً في تعديل الدستور لإلغاء الرئاسة الدورية الشهرية واستبدالها برئاسة دائمة. فقد كان ذلك من أوائل مهام الجمعية التأسيسية الجديدة التي أدّتها بسرعةٍ فائقةٍ في الخامس من شهر يوليو عام 1965 حين صوّت 136 من نواب الحزبين مع مقترح التعديل بإلغاء الرئاسة الشهرية لمجلس السيادة واستبدالها بالرئاسة الدائمة للمجلس.
اتفق الحزبان على إسناد رئاسة مجلس السيادة الدائمة للحزب الوطني الاتحادي، وآلت إلى السيد إسماعيل الأزهري. وتمّ إسناد رئاسة الوزارة لحزب الأمة، وتولاها السيد محمد أحمد محجوب. وكان ذلك هو الغرض الأساسي من تعديل الدستور.
9
كان أحد الأخطاء الكبيرة التي أدخل فيها الحزبان السودان جراء هذا التعديل المتعجّل والأناني هي تجاهل حقوق أبناء الجنوب في المشاركة في إدارة الأمور السيادية للدولة. فقد تجاهل حزبا الأمة والوطني الاتحادي، من خلال تعديل الدستور هذا، حقوق أبناء الجنوب في الرئاسة الشهرية لمجلس السيادة التي جرّدهم منها هذا التعديل الدستوري.
وقد قابل الجنوبيون هذا الإجراء بغضبٍ كبير، واستقال السيد لويجي أدوك من عضوية مجلس السيادة احتجاجاً على هذا التعديل الذي حرمه وحرم الجنوبيين من رئاسة مجلس السيادة على الأقل شهرين كل عام. كانت تلك أول استقالة من مجلس السيادة.
الشيء الغريب لهذا التعديل أنه تمّ في الوقت الذي كان فيه مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر يبحثان عن حلول لقضية الجنوب ومنح الجنوبيين مزيداً من السلطات السياسية. أرسل التعديل رسالة إقصاء واضحة للجنوبيين، وقرأوا فيه غياب الجدية والندية والاحترام في التعامل معهم، وفي حلِّ قضية الجنوب.
وقد أدلى السيدان أقري جادين وغوردون مورتات بتصريحاتٍ أدانا من خلالها ذلك التعديل وأوضحا أنه لا معنى للتفاوض مع السياسيين الشماليين الذين يقلّصون في مشاركة الجنوبيين السياسية المحدودة أصلاً، ويدّعون في نفس الوقت أنهم يبحثون عن حلول لقضية الجنوب تضمن المساوة للجنوبيين في إدارة شئون السودان. وقرر السيدان أقري جادين وغوردون مورتات، لهذا السبب وأسباب أخرى، الانسحاب من مؤتمر المائدة المستديرة ومغادرة السودان.
وقد استغل جنوبيو الخارج الذين قاطعوا مؤتمر المائدة المستديرة هذا التعديل لتأكيد رسالتهم أنه لا يوجد مكان للجنوبيين في إدارة دولة السودان الشمالية العربية الإسلامية، وأن الانفصال أو تقرير المصير هو ما يجب أن يسعى إليه الجنوبيون. وقد خلف السيد لويجي أدوك بعد عدة أسابيع السيد فيلمون ماجوك.
10
الغريب أن التعديل رغم إجازته بتلك الأغلبية، وتطبيقه بتلك السرعة، لم يحل مسألة تقسيم السلطة بين الرجلين (السيد إسماعيل الأزهري والسيد محمد أحمد محجوب) والتي كان قد تمّ أساساً من أجلها. بل وفي حقيقة الأمر زاد التعديلُ الدستوري مسألةَ تقاسم السلطات بين الرجلين تعقيداً.
فقد رأى السيد إسماعيل الأزهري أنه أصبح بمثابة رئيسٍ للجمهورية بموجب هذا التعديل، بينما لم ير فيه السيد محمد أحمد محجوب غير تعديل الرئاسة الدورية إلى رئاسةٍ دائمة. وقد نتج عن ذلك الوضع تنافسٌ حاد بين الرجلين في أيهما السلطة الدستورية العليا في السودان.
اندلع الخلاف بعد أقل من شهرين بعد تعديل الدستور، عندما برزت مسألة رئاسة وفد السودان لمؤتمر الجامعة العربية في الدار البيضاء في سبتمبر عام 1965. فقد أعلن السيد إسماعيل الأزهري “بأن له الحق الدستوري في رئاسة وفود السودان لمؤتمرات القمة بحكم أنه رئيس مجلس السيادة، وعيه فسيرأس وفد السودان لمؤتمر الدار البيضاء.” كان ردُّ حزب الأمة أن تلك المهمة من صميم مهام رئيس الوزراء قي النظام البرلماني وسوف يقوم بها السيد محمد أحمد محجوب. غير أن قيادات حزب الأمة أوضحت أنها حريصةٌ على الائتلاف والوصول إلى حلٍ مُرضٍ لهذه المسألة.
كان أحد الحلول المقترحة رئاسة السيد الأزهري لوفد السودان لمؤتمر الدار البيضاء حيث سيعقد مؤتمر الجامعة العربية، على أن يرأس السيد محمد أحمد محجوب وفد السودان لأكرا حيث سيعقد مؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية. وقد رفض السيد الأزهري هذا الحل.
وأخيراً اتفق الطرفان على رئاسة السيد الأزهري للوفد، بينما يقوم السيد محمد أحمد محجوب بتولي المداولات وإصدار القرارات، وسافر الرجلان معاً للدار البيضاء. من المؤكد أن ذلك الحل الوسط لم يرضِ أيّاً من الرجلين، ولم يُوفّقا في تطبيقه على أرض الواقع لصعوبة ذلك الأمر. فقد تداولت الصحف أن الرجلين لم يتحدثا لبعض طيلة وجودهما في المؤتمر. ولا بد أن وجود الرجلين معاً في مؤتمر القمة في الدار البيضاء قد أثار دهشة بقية الوفود وسبب حرجاً كبيراً للسودان وسمعته وحكومته وشعبه.
11
ثم عاد الخلاف إلى الواجهة مرةً أخرى عند قرب انعقاد مؤتمر أكرا عندما قرر حزب الأمة أن رئاسة مجلس السيادة مسألة تشريفية ولا تعني رئاسة الوفود للمؤتمرات، بينما أصر السيد إسماعيل الأزهري وحزبه على حق رئيس مجلس السيادة في أن يرأس وفود السودان للمؤتمرات الدولية والإقليمية.
أوشك الائتلاف بين الحزبين على الانهيار عندما قدم وزراء الحزب الوطني الاتحادي استقالاتهم للتعبير عن وقوفهم وراء السيد إسماعيل الأزهري. وبرز اتجاه بأن يعتذر السودان عن حضور القمة الافريقية. غير أن حزب الأمة تراجع وبدأت مفاوضاتٌ مكثفة حول هذه المسألة انتهت بنفس الحل المرتبك والمحرج السابق.
وقد ساهم التنافس بين الرجلين في خلق ربكةٍ في العمل داخل دواليب الحكومة نفسها بسبب التوجيهات التي كانت تصدر من كل من الرئيسين – رئيس مجلس السيادة ورئيس الوزراء. وامتد هذا الارتباك إلى إصرار كلٍ منهما على استقبال الرؤساء الأجانب كما حدث في مؤتمر القمة العربية التي عُقِدت بالخرطوم في أغسطس عام 1967، بعد شهرين من حرب يونيو عام 1967. وقد تمّت معالجة هذا الخلاف بتقسيم مقابلة الوفود القادمة للخرطوم بين الزعيمين – الأزهري والمحجوب. قابل الأزهري الرئيس جمال عبد الناصر، وقابل المحجوب الملك فيصل!!
لم يحدث مثل هذا الانقسام والتنازع على السلطة والحرج للسودان عندما كانت رئاسة مجلس السيادة تتم بالتناوب بين أعضائه الخمسة كل شهر، قبل تعديل الدستور في يوليو عام 1965.
12
ثم جاءت انتخابات أبريل عام 1968 لتخلق ارتباكاً سياسياً كبيراً في الساحة السياسية السودانية. فاز الحزب الاتحادي الديمقراطي (بعد اندماج الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي تحت ذلك الإسم عام 1967) بمائة وواحد مقعد. وفاز حزب الأمة جناح السيد الصادق المهدي بستةٍ وثلاثين مقعد، بينما فاز حزب الأمة جناح الإمام الهادي المهدي بثلاثين مقعد (كان حزب الأمة قد انشقّ إلى هذين الحزبين عام 1966). أما الأحزاب الجنوبية فقد فاز حزب سانو بخمسة عشر مقعد وجبهة الجنوب بعشرة مقاعد.
استمر الحزبان – الأمة والاتحادي الديمقراطي – في ائتلافهما، وشكّلا الحكومة في يونيو 1968 برئاسة السيد محمد أحمد محجوب ممثلاً لحزب الأمة جناح الإمام. الشيء الغريب في تكوين الحكومة بعد انتخابات أبريل عام 1968 أن رئاسة الوزارة لم تؤول للحزب الاتحادي الديمقراطي الذي فاز بأكثر من مائة مقعد، كما هو مُتّفقٌ عليه في الأنظمة الديمقراطية السليمة. بل آلت رئاسة الوزارة بمقتضى اتفاق تقاسم السلطة بين الحزبين إلى حزب الأمة جناح الإمام الذي فاز بثلاثين مقعداً فقط.
فرضت ضرورة استمرار السيد إسماعيل الأزهري رئيساً دائماً لمجلس السيادة ذلك الوضع لأنه لم يكن ممكناً للحزب الاتحادي الديمقراطي الجمع بين الأختين – رئاسة مجلس السيادة ورئاسة الوزارة – فقرّر الحزبُ الاحتفاظَ برئاسة مجلس السيادة على أن تؤول رئاسة الوزارة لحزب الأمة. وقد نتج عن هذه المعادلة الغريبة حكومة يرأسها حزب الأمة، بينما يوجّه سياستها بحكم أغلبيته البرلمانية الحزب الاتحادي الديمقراطي، مما زاد الحكومة ضعفاً على ضعف، وارتباكاً على ارتباك. لا بدَّ من التذكير هنا أن الأحزاب الجنوبية التي فازت بـ 25 مقعداً لم تحظ بوزارةٍ سيادية واحدة، بينما نال حزب الأمة الذي فاز بثلاثين مقعدا رئاسة الوزارة ونصف الوزارات.
13
حسم انقلاب العقيد جعفر نميري في 25 مايو عام 1969 ذلك الخلاف العبثي بين الرجلين والحزبين، وحسم أيضاً مسألة مجلس السيادة وصلاحياته ورئاسته.
فبعد عامين ونصف من الانقلاب، وثلاثة أشهر من المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها الحزب الشيوعي السوداني، تحوّل السودان إلى جمهورية رئاسية، وأصبح النميري أول رئيس جمهورية في تاريخ السودان. وأنهى ذلك الوضع الجدل في تقسيم المهام بين سيادية وتنفيذية، وتوزيعها بين مجلس قيادة الثورة الذي قام بالانقلاب، ومجلس الوزراء.
14
بعد نجاح انتفاضة أبريل عام 1985 في إسقاط نظام نميري، تمّ تشكيل المجلس العسكري الانتقالي الذي رأسه المشير عبد الرحمن سوار الذهب (والذي كان وزير الدفاع في حكومة نميري التي أسقطتها انتفاضة أبريل). كما تم تشكيل مجلس الوزراء المدني والذي ترأسه الدكتور الجزولي دفع الله.
أعطى المجلس العسكري نفسه صلاحياتٍ تنفيذيةٍ وتشريعيةٍ واسعة بالإضافة إلى صلاحياته كرأس دولة. لكن لم يحدث خلاف بين رئيس المجلس المشير سوار الذهب ورئيس الوزراء الدكتور الجزولي دفع الله، ولا بين المجلس العسكري ومجلس الوزراء، حول صلاحيات أيٍ منهما بسبب التناغم السياسي والفكري بين الرجلين، وتطبيقهما نفس البرنامج الذي وضعته الجبهة القومية الإسلامية للفترة الانتقالية.
وقد ناقشنا هذه المسائل بالتفصيل في مقالنا بعنوان “كيفَ ولماذا نجحَ الإسلاميون في إجهاضِ انتفاضةِ أبريل 1985؟ دُروسٌ لثورةِ ديسمبر 2018″، والمنشور على الموقع:
http://www.sudanile.com/index.php/منبر-الرأي/994-9-1-1-8-6-8-2/114700-كيفَ-ولماذا-نجحَ-الإسلاميون-في-إجهاضِ-انتفاضةِ-أبريل-1985؟-دُروسٌ-لثورةِ-ديسمبر-2018-بقلم-د-سلمان-محمد-أحمد-سلمان
15
استمرت حكومة المشير سوار الذهب والدكتور الجزولي دفع الله في السلطة عاماً كاملاً حتى إجراء الانتخابات في أبريل عام 1986. أحرز حزب الأمة مائة مقعد، ونال الحزب الاتحادي الديمقراطي 63 مقعداّ، وقفزت الجبهة القومية الإسلامية إلى المرتبة الثالثة بإحرازها 28 مقعداً، معظمها في دوائر الخريجين.
وكان الدستور الانتقالي قد تم إعداده بواسطة المجلس العسكري، وأجازه مجلس الوزراء في 10 أكتوبر عام 1985. أعاد الدستور مجلس السيادة والذي تمت إعادة تسميته “محلس رأس الدولة” بنفس الطريقة التي كانت عليه قبيل انقلاب 25 مايو 1969. تشكّل المجلس من خمسة أعضاء وآلت الرئاسة الدائمة إلى الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي عين لها السيد أحمد الميرغني. وكان الأعضاء الأربعة الباقون هم السادة باسيفيكو لادو لوليك، وعلي حسن تاج الدين، وإدريس البنا، ومحمد الحسن عبد الله ياسين. كمقابلٍ شكّل حزب الأمة الوزارة التي آلت رئاستها إلى السيد الصادق المهدي. وقد استقال السيد محمد الحسن عبد الله ياسين من عضوية مجلس رأس الدولة وخلفه السيد ميرغني النصري بعد رفض السيد الصادق المهدي تعيين الدكتور أحمد السيد حمد بحجّة أن الدكتور أحمد السيد حمد من “سدنة نظام مايو.”
لم تحدث أيّة خلافاتٍ بين السيد أحمد الميرغني رئيس مجلس رأس الدولة والسيد الصادق المهدي رئيس الوزراء طيلة فترة الحكم المدني الثالثة وحتى انقلاب الإنقاذ لأن السيد أحمد الميرغني لم تكن لديه الرغبة ولا الشهية في التدخّل في المسائل التنفيذية. وقد اكتفى السيد أحمد الميرغني بالقيام بالمهام التشريفية التي أوضحها له مستشارو القصر والتي لا تتعارض مع اهتماماته الأخرى.
بل إن المتتبع للمشاكل الاقتصادية والسياسية وحرب الجنوب التي تصاعدت خلال فترة الحكم المدني الثالثة سوف يتفهّم أسباب ابتعاد السيد أحمد الميرغني عن المسائل التنفيذية، وترك تلك المشاكل المعقدة والمتزايدة للسيد رئيس الوزراء ليحاول معالجتها مع قيادات الجبهة القومية الإسلامية الذين أشعلوا معظم تلك المشاكل، ويتحمل هو ووزارته وحزب الأمة نتائج قراراته.
لهذا السبب لم تتكرّر مسرحية الخلافات حول السلطات والمسئوليات الدستورية التي نشبت بين الأزهري والمحجوب، والتي أحكمت قبضتها على أجواء مرحلة الحكم المدني الثانية بين الأعوام 1965 و1969،كما ناقشنا أعلاه.
16
يتّضح من السرد أعلاه ثلاث ملاحظاتٍ هامة:
أولاً: إن صلاحيات مجلس السيادة أو مجلس رأس الدولة كانت وظلت تشريفية وتمّ تضمينها بالتفصيل في الدستور أو وثيقة الحكم في كل فترات الحكم المدني الثلاثة في السودان. بالطبع اختلف الأمر في تشكيلة وصلاحيات المجلس العسكري بعد انتفاضة أبريل عام 1985، كما ناقشنا أعلاه. ويبدو أن قادة المجلس العسكري الحالي يريدون تطبيق تلك السابقة واحتواء سلطات تنفيذية وتشريعية وسيادية وتشريفية، مثل المجلس العسكري الذي ترأسه المشير سوار الذهب، وليس مثل مجالس السيادة في العهود المدنية.
ثانيا: إن تشكيلة المجلس أوضحت بجلاء أن كل أعضاء مجلس السيادة في فترات الحكم المدني الثلاثة كانوا مدنيين، ولم يتضمّن التكوين أيَّ عسكريٍ.
ثالثاً: إن الرئاسة الدورية – كل شهر – قد نجحت نجاحاً كبيراً في الوقوف في وجه كل طامحٍ من أعضاء المجلس من تجاوز الصلاحيات التي منحه أياها الدستور بتحديد فترة رئاسته بشهر فقط. كما أنها ضمنت المساواة بين أعضاء المجلس، وساعدت على العمل الجماعي، بلا رئيسٍ أو مرؤوس، وجعلتْ من كل عضوٍ رقيباً على الأعضاء الأربعة الآخرين بالمجلس. تأكّدت هذه السمات الإيجابية بعد أن قام حزبا الأمة والوطني الاتحادي بتعديل الدستور لتكون الرئاسة دائمة وتؤول للسيد إسماعيل الأزهري. وقد ناقشنا أعلاه بعض الخلافات المحرجة التي نشبتْ بين رئيس الوزراء السيد محمد أحمد محجوب ورئيس مجلس السيادة السيد إسماعيل الأزهري الذي اعتقد أن الرئاسة الدائمة لمجلس السيادة قد جعلت منه بمثابة رئيسٍ للجمهورية.
17
إن الدروس والعبر التي يمكن أن نستقيها من التجربة أعلاه في المفاوضات المتعثّرة مع المجلس العسكري في مسئوليات وتشكيلة ورئاسة المجلس السيادي هي:
أولاً: ضرورة تحديد مسئوليات المجلس السيادي التشريفية بوضوح ودقّة في الوثيقة الدستورية. ثانياً: أن يكون غالبية أعضاء المجلس من المدنيين.
ثالثاً: إذا تحقّق هذان المطلبان فيمكن تطبيق الرئاسة التناوبية كل شهر لحل مشكلة من سيرأس المجلس السيادي. إن جعل الرئاسة تناوبية كل شهر سوف تحقق المساواة بين أعضاء المجلس السيادي والجهات الممثلة فيه، وسوف تحدُّ كثيراً من إمكانيات حدوث تنازعٍ بين رئيس الوزراء والمجلس السيادي.
هذا بالطبع مبنيٌّ – كما ذكرنا من قبل – على افتراض أن المجلس العسكري الحالي ليس وجهاً آخر لمجلس المشير سوار الذهب، وأنه يفاوض حقيقةً بحسن نية، وليس لكسب الزمن حتى تعودَ الإنقاذ في زيٍّ جديدٍ.
[email protected]