رسالة مفتوحة الى غازي صلاح الدين (1-4) .. وقفة مع النفس: هل نرغب في العيش سويا؟اا
دكتور/الواثق كمير
محتويات الرسالة:
أولاً: مأزق التباعد بين مواقف الشريكين والاستقطاب السياسي
ثانياً: مسئولية قيادة الانتقال : نحو تطوير الشراكة
ثالثاً: إشراك كافة القوى السياسية السودانية في بناء المستقبل
(خطوات مطروحة)
رابعاً: إشكالية الدين والدولة الجدل حول القانون الجنائي
خامساً: هل هناك فرصة لمصالحة تاريخية ..؟
……………………………………………………………………..
عزيزي د. غازي
سلامات من تونس الخضراء
تهدف رسالتي هذه إلى فتح حوار حقيقي حول مواضيع مؤرقة تستحق النقاش وجديرة بالتأمل العميق والتفكير بعيد النظر، وتطرح قضايا متداخلة ووثيقة الصلة بما نمر به من ظروف صعبة في طريق طويل وشاق نحو بناء الدولة السودانية الحديثة! وهذه القضايا، في ظني، هي تعبير عن وتجسيد للأزمة السياسة العامة، وما يحيط بها من مآزق تبعث على القلق في ما يخص إمكانية العبور نحو غد أفضل على خارطة طريق التحول نحو بناء دولة المواطنة السودانية القوية التي نفخر بها ونعتز بالانتماء لها جميعا إسلاميين كنا أم علمانيين، شماليين أو جنوبيين، وبغض النظر عن «أصلنا وفصلنا» أو لوننا «أصفر» كان، أم «أخضر» أم «أسود»!
لم يكن اختياري لك لمثل هذا التفاعل عشوائياً، إنما مقصوداً لأسباب موضوعية، وأيضا ذاتية، فموضوعياً، أنت تتبوأ مواقع قيادية سياسية في الحزب الحاكم ورئيس لكتلته النيابية في المجلس الوطني، والمكلف بمتابعة ملف دارفور والعلاقات السودانية الأمريكية، ومستشار لرئيس الدولة على المستوى التنفيذي. وذاتياً، لي معك تجربة في اللقاء الوحيد الذي جمعنا بمكتبك بالخرطوم، فقد استمعت لي جيداً وتوصلنا إلى فهم مشترك حول عدد من القضايا المتصلة بحرية التعبير والنشر وإعلاء قيم الحوار. وأنا من جانبي لا أخاطبك بصفتي عضواً في مجلس التحرير الوطني للحركة الشعبية أو قيادياً بها (كما يحلو للبعض) أو مروجاً لسودان جديد، فحسب، بل كسوداني أتاح له وطنه فرصة للتعليم العالي وقدر من المهارة والخبرة تفرض علىَّ أن أشارك في صنع مستقبله وأن أعبر عن خوفي وقلقي على مصيره وبلدنا يمر بأدق ظرف وأحرج الأوقات وبأهم نقطة تحول في تاريخه ليكون أو لا يكون! فوحدة السودان، سواء على أسس جديدة أو قديمة، أضحت مهددة وفى خطر عظيم أكثر من أي وقت مضى، بصورة لم يعد يجدي معها نفعا تكرارنا لـ «الوحدة الجاذبة»، في غياب تام للحوار الجاد حول المعنى الحقيقي لهذه العبارة!
حقيقة ربما لا يعلمها كثيرون هي أن اهتمامي بقضية الوحدة بين الشمال والجنوب لم يكن وليدا لتأسيس الحركة الشعبية أو مشروع السودان الجديد الذي بشر به زعيمها الراحل د. جون قرنق في 1983، إنما بدأ إنفعالى بقضية الجنوب منذ عام 1975، أي قبل أن تكون الحركة أو مشروعها موجودا. وللمفارقة، لم تكن لي أية خلفية سياسية دفعتني لهذا الاهتمام، بل كان المدخل هو دراستي لعلم الاجتماع بجامعة الخرطوم. فقد اخترت لموضوع رسالة الدكتوراة القيام بدراسة مقارنة بين العمال اليدويين في صناعة البناء، وجلهم من قبيلة النوير بجنوب السودان، والعمال من ذوى الأصول الشمالية والعاملين بالمصانع في المنطقة الصناعية بالخرطوم بحري، في سياق تحليلي لنمط التنمية غير المتكافئة بين الشمال والجنوب. وقد تعلمت كثيرا من هذا البحث، خلال مدة امتدت لأكثر من (10) أشهر قضيتها في عمل ميداني مع النوير في عمارات «الرياض» ومع الشماليين بالمنطقة الصناعية، فتوصلت إلى نتائج جعلتني أقع في أسر فكرة عظيمة لبناء دولة وأمة سودانية منيعة (السودان الجديد)، ومشروع إنساني لا يحتكره حزب أو تمتلكه فئة!
أولا: مأزق التباعد في مواقف الشريكين والاستقطاب السياسي
تشاكس الشريكين والاشتباك بينهما أضحى مشهداً مألوفاً في الساحة السياسية السودانية منذ «قولة تيت» من عملية إنفاذ اتفاقية السلام الشامل في 2005، وصل حد انسحاب وزراء ومستشاري الحركة الشعبية من حكومة الوحدة الوطنية في أكتوبر2007 ، احتجاجاً على ما وصفوه بتلكؤ المؤتمر الوطني في الإيفاء بمستحقات الاتفاقية، والذي بدوره يرفض هذا الاتهام بشدة وعادة يرجعه لما تعانيه الحركة من وهن تنظيمي وانقسام داخلي. ليس ذلك فحسب، بل لم يسلم المشهد السياسي من توتر ملحوظ في العلاقة بين الشريكين والقوى السياسية المعارضة والساخطة (بالطبع ما عدا أحزاب «الشبكة» أو «التوالي» التي تقف بقلب وعقل واحد مع المؤتمر الوطني)، من جهة، وبينها وبين كل شريك على حدة، من جهة أخرى. تسبب هذا التجاذب متعدد الوجوه والاتجاهات في خلق وضع سياسي محتقن تصاعدت وتائره بشدة في الأسابيع الماضية، خاصة في أعقاب إعلان جدول الانتخابات والبدء في الإيفاء بمستحقات التحول الديمقراطي بإيداع مشروعات القوانين البديلة والأسلوب العنيف الذي صاحب عرض وجهات النظر (قانون الصحافة، القانون الجنائي)، وتداعياته الخطيرة خارج قبة البرلمان. وفوق ذلك، جاء اتهام الحركة الشعبية لشريكها في الحكم بتدبير وتمويل ملتقى كنانة لبعض الأحزاب والشخصيات الجنوبية بقصد شق صفوف الحركة، وهو الاجتماع الذي أسفر حقيقة عن تكوين ما سمى بـ «الحركة الشعبية- للتغيير الديمقراطي».
أربعة أحداث متتالية أسهمت في تفاقم الاحتقان السياسي الماثل أولها: الخلاف حول التعداد ورفض الحركة الشعبية الاعتراف بنتائجه المعلنة، وثانيها: الاشتباك الذي حدث بينك وبين د. بيتر أدوك في إحدى جلسات مؤتمر الإعلاميين بالخارج تعبيراً عن خلافات الشريكين وإعادة تبادل الاتهامات بصورة حادة حول مسؤولية التعثر في تنفيذ الاتفاقية وعدم جدية كل طرف في الإيفاء بمستحقات التحول الديمقراطى، ثالثها: اكتشاف عبوات ناسفة بدار الحركة الشعبية-قطاع الشمال بأركويت، ورابعها: ولعله أهمها كـ (القشة التي قصمت ظهر البعير) هو اجتماع «تحالف المعارضة» الذي دعت فيه الأحزاب المشاركة بتشكيل حكومة انتقالية قومية تشرف على الانتخابات المقبلة بافتراض أن حكومة الوحدة الوطنية الحالية ستفقد شرعيتها في يوليو 2009 بحكم اتفاقية السلام الشامل التي حددت هذا التاريخ لإجراء الانتخابات العامة، كما طالبت بإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات لضمان حريتها ونزاهتها، وإلا أن أحد خياراتها قد يكون مقاطعة هذه الانتخابات. ذلك إضافة إلى عزمها للاتفاق على مرشح واحد لرئاسة الجمهورية. ولعل ما «زاد الطين بلة» هو مشاركة الحركة في اجتماع المعارضة، مقروناً بدعوتها لمؤتمر موسع بجوبا (لم تستثن منه المؤتمر الوطني) لمناقشة كافة القضايا الوطنية والاتفاق على تكوين لجنة للمتابعة وتحديد الأجندة. فقد خلق هذا التحرك من جانب المعارضة حالة من الاستقطاب السياسي الحاد، إذ قابله المؤتمر الوطني بهجوم عنيف على لسان عدد من قياداته وصموا الخطوة (خاصة الدعوة للحكومة القومية) بالمؤامرة لتغيير النظام قبل الانتخابات، وتنفيذ لسيناريو ترسمه دول أوروبية بغرض تأجيل الانتخابات، ووصفوا المتشككين في نتائج التعداد السكاني بأنهم «ينعقون بما لا يعلمون» وأن مثل هذا الحديث دليل على عدم استعداد الأحزاب المشاركة في الاجتماع للانتخابات، ومعتبرين مشاركة الحركة الشعبية في لقاء المعارضة مخالفاً لروح الشراكة لتنفيذ اتفاق السلام. وختامها مسك، فكأن الشريكين قد حملا معهما خلافاتهما إلى واشنطون إذ تبادلا الاتهامات خلال منتدى داعمي اتفاقية السلام الشامل، وعادا إلى البلاد وعلاقتهما أشد توتراً مما جعل الوضع السياسي العام يبدو أكثر قتامة، فأصبح الحديث عن الانفصال يتصدر الأخبار والأعمدة، وحتى «القعدات» وجلسات «الونسة».
إننا نعيش مناخاً سياسياً متأزماً، استقطاباً وتجاذباً بين كافة القوى السياسية، ومرشح للتصعيد إن أضفنا ملفات أخرى أكثر سخونة (أبيى، قانون الأمن الوطني، قانون الاستفتاء، ترسيم الحدود، المشورة الشعبية لجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق)، بينما جهود تسوية الأزمة في دارفور ما زالت تراوح مكانها. حقيقة، هذا هو المشهد الذي يلحظه ويراه كل مراقب حصيف ماثلا أمام أعينه، ولا تستقيم معه أية مكابرة أو إنكار! ويسفر الاستقطاب عن وجهه في حشد كل شريك لقدامى الحلفاء أو الموالين، في مؤتمر صحفي بغرض خوض معركة غامضة المعالم ومجهولة الأهداف، بدأت بكيل الاتهامات وتبادلها بين كل طرف والآخر. وبلغت الخصومة بالشريكين حدا دفعت رئيس الجمهورية نفسه، وبصفته رئيس الحزب الحاكم، بتصويب انتقادات لاذعة للحركة الشعبية متهماً لها بممارسة الحكم عبر استخباراتها العسكرية في الجنوب، وأنها تحظر الممارسة السياسية للأحزاب، بما فيها المؤتمر الوطني، بينما تمارس عملها بحرية في الشمال رغما من حديث قيادات الحركة عن القوانين المقيدة للحريات، متوعدا معاملتها بالمثل.
سببان رئيسيان يفسران هذا الوضع المتفجر، أولهما يتصل بالعلاقة بين شريكي الحكم وما يواجه كل منهما من تحديات داخلية وموقفهما من اتفاقية السلام الشامل، وثانيهما العلاقة بين الشريكين من جهة، والقوى السياسية «المعارضة» من جهة أخرى.
إن التحدي الأكبر يتمثل في أن اتفاقية السلام الشامل جمعت في الحكم بين حزبين يملكان رؤى مختلفة جذرياً لتطوير البلاد، كما أن غياب التوافق على برنامج سياسي يحكم الفترة الانتقالية قد تسبب في تفاقم الخلافات بينهما. ففي الحقيقة، لا يوجد برنامج وطني أو (سياسات قطاعية) متفق عليه بين الشريكين، أو بينهما وبين كل القوى السياسية، تلتزم الحكومة بالتقيد به في سياق تنفيذ اتفاقية السلام الشامل. وهو أمر أغفلت الاتفاقية الإشارة إليه بصورة مباشرة، مما يعده المؤتمر الوطني كسباً ونصراً يتيح له تمرير سياساته دون نص يتقيد به الحزب. وربما يكون هذا وراء التوتر الملحوظ في العلاقة بين الشريكين واتهام كل منهما للآخر بالتلكؤ والمماطلة في تنفيذ الاتفاقية، إذ لا توجد مرجعية أو إستراتيجية واضحة المعالم لسياسات الحكومة يحتكمان إليها. ولذلك دائما تجد الحركة الشعبية نفسها مطالبة بأن تبصم بالموافقة على برامج وسياسات الشريك النافذ في الحكم، والذي لا تعوزه الأغلبية لإجازتها. وهى حيال ذلك قليلة الحيلة ولا تملك إلا التذمر والاحتجاج.
فالمؤتمر الوطني حريص على متابعة تنفيذ سياساته بواجهة حكومة الوحدة الوطنية، ويستخدم في ذلك وسائل شتى، حتى في الوزارات التي تتبع للحركة الشعبية من خلال سيطرة الحزب على الجهاز التنفيذي، بينما كل منهما يجابه مشاكل داخلية تعيق عملية التنفيذ من خلال بناء شراكة صادقة و فعالة، دون حاجة لتصفية خلافاتهما عبر وسائل أخرى. فلم يعد سراً أن هناك بعض المنتقدين للاتفاقية في داخل المؤتمر الوطني نظراً لاعتقادهم أنها منحت الحركة الشعبية (والجنوب) أكثر من ما تستحق، وعلى وجه الخصوص ما وفرته لها الاتفاقية من مساحة واسعة للتحرك في شمال السودان، مما يشكل تهديداً لسلطة الحزب الحاكم، كما ينتابهم شعور بالقلق من الاتجاه الذي تسير فيه البلاد بما لا تشتهى نفوسهم.
والحركة الشعبية، من جانبها، تعانى من صعوبات مركبة في سياق الانتقال من الحرب إلى السلام، خاصة بعد الرحيل المفاجئ والمفجع لزعيمها د. جون قرنق، تتمثل في مواجهة تحولات ثلاثية المسار: من حركة عسكرية إلى حزب سياسي، ومن حركة تستند إلى قاعدة إثنية – إقليمية إلى تنظيم قومي، ومن المعارضة إلى المشاركة في الحكم. القلقون من تمدد الحركة شمالاً من عضوية المؤتمر الوطني يقابلهم الراغبون من منسوبي الحركة الشعبية ممن يميلون للتخلي عن الشمال والتقوقع في الجنوب، وتدل الشواهد أن الفريقين يشدان من أزر بعضهما البعض، ويتودد كل فريق، ويخطب ود الآخر!
أما السبب الثاني لهذا الوضع السياسي المأزوم فهو أن كل القوى السياسية الأخرى، خصوصاً التي كانت مشاركة في حكم البلاد قبل «الإنقاذ»، تذوقت وتشعر بمرارة الإقصاء والاستبعاد عن المفاوضات التي أفضت إلى اتفاقية السلام الشامل. هذه القوى تتوق وتتطلع إلى المنافسة على السلطة كأي حزب سياسي في سياق الترتيبات الدستورية التي أرست قواعدها الاتفاقية، والتي باركتها هذه القوى، وإن أبدى البعض تحفظاته عليها، كخارطة طريق يمهد للانتقال إلى ديمقراطية تعددية حقيقية. إن الأحزاب غير المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية تتطلع إلى أن «يستمع» لها الشريكان، ولا «يسمعاها» فقط، وأن يوليا تشخيصها للأزمة وتوصياتها للعلاج ما تستحقه من اهتمام، ويشركاها في اتخاذ القرارات الوطنية المصيرية، بدلا عن وضع مختلف أشكال العراقيل في طريق مشاركاتها ومبادراتها للحل. وتنبئ أحداث كثيرة بضلوع المؤتمر الوطني في محاولات لاستمالة بعض قيادات وشق صفوف الأحزاب الأخرى بدون استثناء، طالت حتى شريكه في الحكم. وأبلغ شاهد على هذا النهج هو ابتهاج قطبي المهدي، أمين أمانة المنظمات بالمؤتمر الوطني، بانشقاق لام أكول وإعلانه عن ميلاد حزبه الجديد، فعلى حد تعبيره فإن «بروز كيانات جديدة وقيادات مثل دكتور لام أكول سيعزز التعاون بين شركاء الاتفاقية ويفرز المزيد من الاستقرار في العلاقات الشمالية الجنوبية وتنفيذ اتفاقية السلام، مبيناً أن الحركة الشعبية تفتقر للقيادات الناضجة وان الفشل الذي لازمها في حكم الجنوب جعل القواعد فاقدة الثقة في قدرة قيادات الحركة». ولكن، هذا لا يعنى تجاهلاً، بل يجب الاعتراف بأن تماسك أي حزب سياسي أو تعرضه للانقسام تظل في المقام الأول مسؤولية الحزب نفسه وقياداته!
والأهم، ما هي رؤية النخب الجنوبية لمستقبل «دولة» جنوب السودان، خصوصاً لمنسوبي الحركة الشعبية من ذوى الميول الانفصالية، وهم الذين ظلوا يرددون رؤية السودان الجديد لما يفوق العقدين من الزمان؟ فإنه لمنطق هزيل أن تختزل هذه النخب مشروع السودان الجديد بحجة تطبيقه على الجنوب فقط، فرؤية السودان الجديد لا تستقيم إلا ببناء دولة المواطنة في السودان ككل، فهي لا تقبل القسمة على اثنين أو أكثر!
الرأي العام