المعضلة التي يتهرب منها كثيرون هي استحالة التغيير بأيدي “صناع الأزمة التاريخية”.! إن مشكلة “المعارضة الرسمية” بكل فصائلها الرئيسية ليست في عدم وحدتها. بل في عدم أهليتها لمواجهة التحدي الراهن.!
رشا عوض
ما زال موضوع وحدة الم
عارضة ومشاركتها في الانتخابات المزمعة في 2020 يثير جدلا كبيرا في سياق معضلة التغيير في السودان. وهو جدل ارتفعت وتيرته على خلفية إخفاق “المعارضة الرسمية” بشقيها المدني والمسلح في “إسقاط النظام”. أو حتى في إجباره على تسوية محدودة توقف الحرب وتتيح هامشا لحرية العمل السياسي.وكذلك حسابات “المجتمع الدولي” التي استقرت منذ بداية الألفية على استبعاد خيار “إسقاط النظام”، والعمل على تعديله شكليا وترويضه.
هذه المعطيات دفعت بعض المثقفين في اتجاه تبني استراتيجية جديدة في مواجهة النظام. تستند إلى العمل من داخل الأطر الدستورية والقانونية القائمة رغم عيوبها وخوض الانتخابات على علاتها. وأجمع أصحاب هذا الخيار على انعدام الحدود الدنيا من شروط الانتخابات الحرة والنزيهة في البيئة السياسية والقانونية الماثلة. وتلخصت حجتهم في الدعوة لخوض انتخابات “الخسارة فيها حتمية”، في أن الهدف أساسا ليس الفوز. بل الالتحام بالجماهير وتنظيمها وتدريبها على خوض معارك انتزاع الحقوق والحريات مما يؤدي إلى التغيير تدريجيا.
نعم للالتحام بالجماهير،لا لانتخابات المشير
المشاركة في انتخابات 2020 من وجهة نظري المتواضعة، عبث لا طائل من ورائه. والسؤال ما العمل إذن؟ ما هي الخيارات الواقعية لتحريك الركود السياسي في البلاد؟ إذا أخذنا في اعتبارنا المعطيات الماثلة: هشاشة تحالفات المعارضة وعزلتها الجماهيرية، الضغوط الدولية الكثيفة على قوى “نداء السودان” في اتجاه الحوار المباشر مع النظام دون قيد أو شرط وطي صفحة “خارطة الطريق”، التي كانت تتضمن بعض التدابير التحضيرية تحت إشراف الوساطة الافريقية بقيادة ثابو مبيكي قبل الدخول في الحوار المباشر مع النظام. ليس هذا فقط بل هناك تهديدات جدية لقادة الحركات المسلحة بفرض عقوبات من مجلس الأمن الدولي حال إصرارهم على مواصلة العمل المسلح ، رغم أن عملهم المسلح نفسه في حالة تراجع كبير.
الإجابة ببساطة هي “الالتحام بالجماهير”! ولكن ليس بهدف المشاركة في “الانتخابات العبثية” .بل من أجل حشد طاقاتها وتنظيمها لتصعيد المقاومة ضد النظام.
الانتقال إلى خانة “القابلية للتغيير”
أكثر ما يتردد الآن في ضفة “نداء السودان” عبارات التسوية السياسية، وتحقيق الحل السياسي الشامل والسلام العادل. أما في ضفة تحالف قوى الإجماع فالحديث عن الانتفاضة وإسقاط النظام. والقاسم المشترك بين الضفتين هو انعدام الفعل المنظم لتعديل ميزان القوى على الأرض.
فالتسوية السياسية ليست خيارا مجانيا، بل تحتاج إلى ضغوط كثيفة جدا على النظام تجبره على تقديم تنازلات معتبرة تنقل البلاد إلى خانة “القابلية للتغيير”، عبر تحقيق السلام وانتزاع حرية التعبير والتنظيم والعمل السياسي والنقابي ومن ثم الشروع في فرض التحول الديمقراطي تدريجيا.والنجاح في ذلك غير مضمون ورهين للمثابرة السياسية واستمرار النضال اليومي، والعمل وسط الجماهير. أما إسقاط النظام فيتطلب مستوى أعلى من التنظيم والاستعدادات وتصعيد المقاومة.
وما دام الجميع ينشدون التغيير نحو السلام والديمقراطية واقامة نظام بديل فالمنطقي هو تنسيق الجهود وتكثيفها لا الاستعاضة عن العمل بالضجيج الخطابي وتبادل اتهامات التجريم والتخوين.
عجز عن الحد الأدنى!
ما يحدث حاليا في ضفتي المعارضة الرسمية شاهد على عجزها. ليس فقط عن الأهداف الكبيرة التي تدعيها مثل “إسقاط النظام” وإقامة البديل الديمقراطي وتحقيق الحل السياسي الشامل والعادل. بل هي عاجزة عن الحد الأدنى من وحدة الصف ومن ثم التأثير والفاعلية للانتقال بالبلاد إلى خانة “القابلية للتغيير”.! ونتيجة لذلك ظلت خياراتها تتراوح بين “الاستسلام” لتسويات المحاصصة في السلطة، أو ممارسة “الوعظ السياسي” مجردا من الفعل والفاعلية. أو ممارسة “التهريج الثوري” من مواقع المزايدات.!
وحدة المعارضة تفكير خارج الصندوق
السودان يحتاج إلى “نقلة تاريخية” .. ثورة فكرية سياسية اجتماعية شاملة. تستبدل مناهج الحكم المأزومة منذ الاستقلال وعلى رأسها منهج “الإسلام السياسي” وتفتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد..
والمعضلة التي يتهرب منها كثيرون هي استحالة فتح هذه الصفحة بأيدي “صناع الأزمة التاريخية”.!
إن مشكلة “المعارضة الرسمية” بكل فصائلها الرئيسية ليست في عدم وحدتها. بل في عدم أهليتها لمواجهة التحدي الراهن.!
المشكلة هي عدم بروز معارضة جديدة بقيادات جديدة. وذات تأهيل فكري وقدرات سياسية وتنظيمية لتأخذ بزمام المبادرة وتشكل تيارا بديلا مسنودا بقاعدة جماهيرية معتبرة.
مشروع وطني جديد
لن يتحقق اختراق نوعي في السياسة السودانية إلا بصياغة مشاريع وطنية ملهمة. وبشرط أن تقودها قيادات جديدة، لا قيادات مثقلة بتاريخ طويل من الاخفاقات الاستراتيجية، التي تجعل الشعب يتردد ألف مرة في الرهان عليها!
المعارضة الرسمية ممثلة في “نداء السودان” و”قوى الاجماع” سواء توحدت أو ظلت متشاكسة كما هو حالها الآن. هي معارضة عديمة الجدوى في تحقيق “الانتقال التاريخي” او “التحول النوعي” المطلوب في السياسة السودانية. والسبب هو العيوب البنيوية في مكوناتها سواء كانت أحزاب أو حركات مسلحة!
عودة الحركات المسلحة إلى الداخل
بعد شروع المجتمع الدولي عمليا في الدفع باتجاه تسوية النزاعات المسلحة في السودان، تواترت الأنباء عن لقاءات واتصالات بين الحكومة وبعض قادة الحركات المسلحة.
يرجح أن الحصار الدولي والإقليمي سوف يدفع الحركات للتسوية مع النظام في نهاية الأمر وبشروط بائسةجدا.
وسيكون الغطاء الأخلاقي لهذه التسوية هو ضرورة تحقيق السلام. ولكن هذا الغطاء، رغم أخلاقيته الأكيدة باعتبار ان أجمل ما في الحرب هو لحظة توقفها. فإنه يعري خيار “العمل المسلح” تماما وينزع المشروعية السياسية عن قادته.!
بداهة السلام لم يكن هو الهدف من إشعال الحرب.! لأن السلام هو الحالة الطبيعية التي كان يعيش فيها المواطنون قبل أن تقرر نخبة سياسية أن هذا السلام مهين ومذل. لأن هناك غياب للعدالة والحرية والكرامة، وتختار بكامل وعيها وإرادتها ان تضحي بالسلام وتواجه الدولة عسكريا في مغامرة خطيرة، نظرا لأن الدولة محكومة بنظام قمعي ودموي ومستبد، ليس لديه أي سقف اخلاقي في التعامل مع مواطنيه. !
توقيع واعتذار وانصراف!
بعد عشرات السنين من الحرب بكل ويلاتها يصبح تحقيق السلام هو الغاية!
بالنسبة للمواطنين العاديين فإن حالة السلام التي كانوا يعيشونها قبل عشرين او ثلاثين عاما كانت أفضل بما لا يقاس من حالة السلام الذي يقدمه لهم “أبطال الكفاح المسلح” الآن كفتح مبين ومعجزة كبرى بعد قتل وتشريد وإعاقة ملايين البشر وتعطيل حياتهم الطبيعية لسنوات طويلة!
ولكن السلام الآن بالنسبة للمواطنين هو أفضل خيار على الإطلاق، فعقارب الساعة لن تعود إلى الوراء ، إلى ما قبل إشعال الحرب، وعليه فلا بد من وقف النزيف الآن وتكريس الأفكار والمفاهيم واتخاذ التدابير السياسية والاقتصادية والتنموية لمنع اشتعال أي حرب جديدة في المستقبل!
ولكن لضمان ذلك يجب ان يكون توقيع السلام هو العمل السياسي الأخير لقادة “العمل المسلح”! بعده ينصرفون إلى كتابة مذكراتهم وقبل ذلك كتابة اعتذار للمناطق التي كانت مسرحا للحرب اللعينة!
يجب ان يتنازلوا عن “فوائد ما بعد النضال” ممثلة في محاصصات قسمة السلطة والثروة!
المشهد الثوري الأخير
يجب أن يتحول قادة العمل المسلح إلى مواطنين عاديين زاهدين مع سبق الإصرار والترصد في القيادة السياسية لأنهم ببساطة فقدوا المشروعية لذلك!
وما ينطبق على قادة العمل المسلح ينطبق على كل النادي السياسي القديم!
لا جديد لديهم واجترارهم لذات المقولات والمواقف والاخفاقات بات عاملا قاتلا للطموح وكابحا للأمل!
اعترافهم بالفشل كقادة وانخراطهم الايجابي في مجتمعاتهم كمواطنين صالحين هو “المشهد الثوري” الوحيد الذي ما زال متاحا لهم! وتكمن ثوريته في أنه سيقلل من حالة “الغثيان الوطني” السائدة حاليا بسبب نظام البشير وعجز المعارضة وسعي بعضها لاقتسام السلطة معه. !
وتقليل حالة الغثيان هذه، سيصب إيجابيا في رفع وتيرة الأمل في غد مختلف!
أما إعادة مأساة اقتسام السلطة مع النظام، وبروز “ثوار الأمس” في القصر الجمهوري ومجلس الوزراء والبرلمان المزعوم فسوف تضاعف حالة “الغثيان الوطني” الراهنة.!