1
بدأنا في هذه السلسلة من المقالات في الردِّ على مقال الدكتور عبد الله علي إبراهيم الذي نشره على عددٍ من المواقع الالكترونية في 11 يوليو 2018 بعنوان “تقرير المصير للجنوب وانفصاله: ولا جميلتنا” يعقّب فيه على مقالاتنا الخمسة بعنوان “مَاذا حَدَثَ لِكِتابِ الإسلاميين عن اتفاقيةِ نيفاشا؟”
وقد كانت مقالاتنا الخمسة رداً على مقال الأستاذ خالد موسى دفع الله الذي نشره في 16 مايو عام 2017 على عددٍ من الصحف الالكترونية والورقيّة بعنوان “الإسلاميون وانفصال جنوب السودان.”
وقد بدأنا في ردّنا على د. عبد الله علي إبراهيم في المقال السابق بتوضيح ما شمل وارتكز عليه كتابنا “انفصال جنوب السودان – دور ومسئولية القوى السياسية الشمالية” (صدر الكتاب عام 2015 من مركز أبحاث السودان بفيرفاكس بولاية فيرجينيا ويشتمل على 908 صفحة) من أن الحركة الشعبية نجحت في انتزاع حق تقرير المصير من حكومة الإنقاذ والمعارضة في ذكاءٍ وحنكةٍ كبيرين، وأن ذلك لم يكن تنازلاً أو جميلاً من الأحزاب الشمالية.
كما أوضحنا أن اللجوء بواسطة الفصائل الجنوبية جميعها إلى حق تقرير المصير كان نتيجةً حتميةً لغطرسة وفشل الأحزاب الشمالية في التعامل مع قضية الجنوب، ورفضها بعنادٍ ولامسئولية لمطلب النظام الفيدرالي الذي كان غاية ما يتطلّع إليه الجنوبيون.
وقد شرحنا في المقال السابق هذا الفشل في التعامل بجدّية مع مطلب الفيدرالية خلال فترة الحكم المدني الأولى (1954 – 1958) والتي تولى رئاسة الوزارة فيها مناصفةً السيدان إسماعيل الأزهري (1954 – 1956)، وعبد الله خليل (1956 – 1958).
2
سوف نواصل في هذا المقال والمقالات القادمة شرح ونقد مواصلة الحكومات المتعاقبة – عسكريةً كانت أم مدنية – لرفض مطلب الفيدرالية. وسوف نجادل أن ذلك الرفض المتغطرس لمطلب الفيدرالية كان السبب الرئيسي لرفع سقف مطالب أبناء الجنوب إلى حق تقرير المصير وانتزاعه في حنكةٍ وذكاء. وقد قاد تقرير المصير بدوره إلى انفصال جنوب السودان.
وسوف نوضّح أن نفس الأحزاب السياسية التي رفضت منح الجنوب النظام الفيدرالي، عادتْ ووافقت صراحةً وبصورةٍ غير مشروطة في بداية التسعينيات على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.
وسوف يبدأ نقاشنا في هذا المقال بشرح سياسات حكومة الفريق عبود التي جاءت للسلطة عام 1958، منهيةً مرحلة الحكم المدني الأولى في السودان. وقد انبنت تلك السياسات على الرفض الكامل لمطلب الفيدرالية وجعله جريمة يحاكم عليها القانون كما حدث فعلاً. كما انبنى على الدمج الثقافي والديني للجنوب بقوة السلاح وعنف الدولة.
3
وجّه رئيسُ الوزراء السيد عبد الله خليل الفريقَ إبراهيم عبود باستلام السلطة وإنهاء الحكم المدني للسودان. وقد كتب الكثير من الأكاديميين الجنوبيين أن أحد الأسباب الرئيسية لتوجيه السيد عبد الله خليل للفريق عبود باستلام السلطة هو إعطاء الجيش السوداني السلطات العسكرية المطلقة لإنهاء الحرب الأهلية في الجنوب. هذا بالطبع بالإضافة إلى السبب الرئيسي وهو قفل الطريق لإقصاء السيد عبد الله خليل من رئاسة الوزارة كما كان متوقّعاً.
4
لم يخيّب الفريق عبود ورفاقه توقعّات السيد عبد الله خليل، وأعلنوها حرباً شعواء على أبناء الجنوب. فقد نُسِب إلى اللواء حسن بشير نصر، الرجل الأكثر قوّةً في نظام الفريق عبود، القول: “إذا كان لا بُدَّ مما ليس فيه بُدٌّ فستُضرم الحرائق في النبات والشجر والإنسان في الجنوب، ولن يبقى في تلك الأرجاء ديار، ولن تقوم بعدها لعقارب الأنيانيا السامة قائمة.”
5
وقد سارت حكومة الفريق إبراهيم عبود في نفس نهج الأحزاب السياسية الشمالية في رفضها للنظام الفيدرالي لجنوب السودان. بل إن الحكومة الجديدة حذّرت ساسة وسلاطين وأبناء الجنوب من المطالبة بالنظام الفيدرالي، وقرّرت أن يكون ذلك النوع من المطالب السياسية جريمةً يعاقب عليها القانون.
وقد نشرت الصحف ووكالات الأنباء تصريحاتٍ للواء محمد طلعت فريد، عضو المجلس العسكري العالي، ووزير الاعلام والعمل والناطق الرسمي بلسان الحكومة بأن الحكومة لن تعترف بأيِّ مطالب للنظام الفيدرالي، ولا تعترف بأن أيّة منطقة هي ملكٌ لأبناء تلك المنطقة دون سواهم، وستقاوم أيّةَ دعوة لتقسيم السودان. وواصل اللواء محمد طلعت فريد “إن حكومة الثورة لن تتهاون مطلقاً مع كل من يحاول تمزيق وحدة البلاد وستضرب بشدّة على كل من تسوّل له نفسه أن يسعى لذلك.”
وقد سار السيد علي بلدو مدير المديرية الإستوائية على ذلك المنوال عندما صرّح أنه على “الجنوبيين الذين يريدون الفيدريشين أن يبحثوا عن شيءٍ مفيدٍ يفعلونه وإلا سيعرّضون أنفسهم للعقاب.”
6
وقد انفتح باب العقاب للمطالبة بالنظام الفيدرالي لجنوب السودان الذي وعد به اللواء طلعت فريد والسيد بلدو الجنوبيين واسعاً على مصراعيه عندما أعلن الحاكم العسكري للمديرية الإستوائية في 8 فبراير عام 1959 عن تشكيل محكمة عسكرية لمحاكمة المواطن عمر سليمان، وهو سائق شاحنة جنوبي، بتهمة طلب النظام الفيدرالي لجنوب السودان. وقد أدانت المحكمة المتهم عمر سليمان وحكمت عليه بالسجن خمس سنوات.
وامتدت الإدانات وعقوبة السجن إلى عددٍ من أبناء الجنوب الآخرين الذين طالبوا بالنظام الفيدرالي. وكان السياسي الجنوبي السيد أزبوني منديري وقتها في السجن أيضاً بعد إدانته بالمطالبة بالنظام الفيدرالي، وبقي بالسجن حتى قيام ثورة أكتوبر عام 1964.
7
ورغم أن حكومة الفريق عبود لم تتبنّى نظام الإسلام السياسي كفلسفةٍ لحكم البلاد، أو تصدر قوانين إسلامية، إلّا أنها تحرّكت بسرعة في اتجاه أسلمة وتعريب جنوب السودان باعتبار أن المشكلة هي قضية تكامل ثقافيٍ بين شطري البلاد سوف يحلّها اعتناق الجنوبيين للديانة الإسلامية وتحدثهم اللغة العربية.
وقد قرّر النظام الجديد في الخرطوم فرض الاثنين – الإسلام واللغة العربية – بالقوّة في جنوب البلاد كحلٍ طويل المدى لمشكلة الجنوب. من هنا أخذ الحل العسكري في الجنوب بُعداً إسلامياً عربياً حتى مع غياب أي ادعاء أو مناداةٍ بدولةٍ إسلاميةٍ في الشمال. وقد رأت حكومة الفريق عبود في فرض الهوية الشمالية في الجنوب وسيلةً للاندماج والتكامل بين شطري البلاد، وحلاً لمشكلة الجنوب.
ولتطبيق هذا التوجّه فقد أصدرت الحكومة قراراً بأن تحلَّ اللغةُ العربية مكان اللغة الإنجليزية واللغات المحلية في الجنوب، وأن تكون اللغة العربية هي لغة التدريس في المدارس ولغة التعامل في المكاتب. نتج عن هذا القرار إبعاد الموظفين والمدرسين الجنوبيين الذين لم يكونوا يتحدثون اللغة العربية. وهكذا أصبحت اللغة العربية في سنوات الفريق عبود هي اللغة الوحيدة المسموح تدريسها والعمل بها في مدارس ومكاتب الجنوب.
8
لتطبيق برنامجها الإسلامي فقد قامت حكومة الفريق عبود بطرد كل المنظمات الكنسية والتبشيرية والبالغ عددها أكثر من 300 منظمة من الجنوب، وإغلاق الكنائس والمدارس التابعة لها. وصدر في عام 1962 قانون الجمعيات التبشيرية والذي يتطلّب من كل جمعية الحصول على إذنٍ قبل ممارسة أيِّ نوعٍ من النشاط في جنوب السودان.
وقد تقرّر أيضاً أن تكون عطلة نهاية الأسبوع هي يوم الجمعة بدلاً من يوم الأحد الذي كان العطلة منذ دخول الحكم الثنائي جنوب السودان. كما بدأت الحكومة في مشروعٍ متكامل لإرغام الجنوبيين على تغيير أسمائهم المسيحية والمحلية بأسماء عربية إسلامية، وفي فتح مدارس تعليم القرآن (المعروفة بـ “الخلاوي”) والمساجد (مع إغلاق الكنائس) وتدريس المواد الإسلامية في كل مدارس الجنوب. وقد تمّ تطبيق هذه الإجراءات بقوة السلاح التي منحتها الحكومة بدون قيود لحكام الجنوب العسكريين الجدد.
وهكذا تزامن التصعيد العسكري لهزيمة التمرد مع تطبيق برنامج التكامل الثقافي بفرض اللغة العربية والديانة الإسلامية في كل أنحاء جنوب السودان.
9
لقد كان الغرض من قانون المناطق المقفولة الذي صدر عام 1922 هو منع الشماليين – تجاراً وزوار ودعاة دين وموظفين – من زيارة جنوب السودان والإقامة والعمل هناك إلّا بإذن، وفتح الجنوب للمنظمات الكنسية والتجار الأجانب.
وبالمقابل فقد كان الغرض من قانون الجمعيات التبشيرية عام 1962 هو فتح أبواب الجنوب أمام الشماليين فقط، ومنع كل الآخرين من زيارة الجنوب أو الإقامة فيه إلّا بإذن. وقد كان من الصعوبة بمكان الحصول على هذا الإذن. عليه فقد انقلب الوضع رأساً على عقب بعد أربعين عام على إصدار قانون المناطق المقفولة. وقد اعتقلت حكومة الفريق عبود المئات من السياسيين والمتعلمين الجنوبيين الذين بقوا في السودان وعارضوا هذه الإجراءات.
10
نتج عن تلك الإجراءات العسكرية القاسية وإجراءات دمج الجنوب ثقافياً مع الشمال هروب عشرات الآلاف من السودانيين الجنوبيين (الذين لم يتم اعتقالهم) إلى دول الجوار – كينيا ويوغندا وتنزانيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، واكتظت معسكرات اللاجئين في هذه الدول بهؤلاء اللاجئين. وقد رحبت بهم تلك الدول وفتحت لهم مدارسها ومكاتبها وسمحت لهم بالعمل السياسي من هناك.
وقد أدّت هذه السياسات الظالمة القاسية الخرقاء إلى انخراط عشرات الآلاف من الشباب الجنوبيين في حركة المقاومة في الجنوب التي أطلقت على نفسها الأنيانيا (الثعبان السام)، والتي واصلت الحكومة تسميتها بحركة التمرّد والخوارج.
11
وقد قام السادة ويليام دينق وسترنينو لوهوري وجوزيف أدوهو من منفاهم في شرق أفريقيا بإنشاء حزب الاتحاد الوطني الأفريقي السوداني، أو ما عُرف بحزب سانو – وهي الكلمة التي تكوّنها الأحرف الأولى لاسم الحزب باللغة الإنجليزية. وقد تبنّى هذا الحزب مطلب النظام الفيدرالي الذي كان ينادي به الحزب الليبرالي الجنوبي في بداية الخمسينيات من الخرطوم وجوبا، رغم نمو وتصاعد النعرة الانفصالية في أوساط مقاتلي الأنيانيا والشباب في جنوب السودان. وقد مارست حكومة الفريق عبود ضغوطاً كبيرةً لإقناع الحكومة اليوغندية بتسليمها قيادات حزب سانو (باعتبار أن المطالبة بالفيدرالية جريمة بمقتضى القانون السوداني)، لكن الحكومة اليوغندية لم تذعن لتلك الضغوط.
وقد ساهمت العلاقات العرقية والثقافية وتداخل القبائل بين جنوب السودان ودول كينيا ويوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية في نمو التعاطف مع قضية مواطني جنوب السودان، وقبولهم والسماح لهم بالإقامة والعمل والدراسة في تلك الدول.
12
وقد وضح تعاطف تلك الدول مع قضية مواطني جنوب السودان في حديث أحد نواب البرلمان اليوغندي في إحدى جلسات البرلمان عندما تحدّث عن الحرب المدمرة في جنوب السودان، وتساءل: كيف نستطيع أن نتحدث عن جرائم جنوب أفريقيا العنصرية، ودولة البرتغال في انقولا وموزمبيق، في الوقت الذي يجري فيه ذبح المواطنين بواسطة حكومتهم في بلدٍ مجاورٍ لنا؟
غير أن كلّ تلك السياسات والإجراءات العسكرية القاسية من حكومة الخرطوم لم تنجح في كبح جناح التمرد في جنوب السودان أو حتى وقف نُموِّه، بل أدّت إلى عكس ذلك تماماً بهروب عشرات الآلاف من شباب الجنوب وانضمامهم إلى الحركات المسلحة.
وقد ظلّت القوات المسلحة تواجه الخسائر البشرية والمادية المتزايدة في أحراش وغابات جنوب السودان التي لم يكن لدى أفرادها أدنى تصوّر لطبيعتها القاسية. وتفشّت أمراض المناطق الإستوائية، خصوصاً مرض الملاريا، وسط الضباط والجنود.
13
بعد خمسة أعوامٍ من السياسات العسكرية ومحاولات الدمج الثقافي الفاشلة أحسّ الفريق إبراهيم عبود ورفقاؤه في المجلس الأعلى للقوات المسلحة بضرورة مراجعة تلك السياسات والبحث عن حلول أخرى. كوّن الفريق عبود في 20 أغسطس عام 1964 لجنةً من 27 شخص، 15 من الشماليين و12 من الجنوبيين للنظر في مشكلة الجنوب، ودراسة أبعادها لإعادة الثقة بين شقي البلاد والمحافظة على وحدة القطر، والتقدّم بتوصياتٍ في هذا الشأن للمجلس الأعلى للقوات المسلحة.
شملت اللجنة من الشماليين السادة سر الختم الخليفة، وأحمد محمد يس، وبشير محمد سعيد. وشملت من الجنوبيين السيد سرسيو ايرو العضو بمجلس السيادة الأول في السودان، والسلطان لوليك لادو الذي شارك في مؤتمر جوبا عام 1947. غير أن الأمر بتشكيل اللجنة ومرجعيتها وضع المسئولية على الأوضاع في جنوب السودان على عاتق تمرّد عام 1955 الذي أودى بحياة المئات من الشماليين الأبرياء، وعلى الاستعمار البريطاني الذي أغلق الجنوب أمام الشماليين ومنعهم من التداخل والتواصل مع اخوانهم في الجنوب. كما أوضح أمر تشكيل اللجنة أن الخلافات العرقية واللغوية والدينية والثقافية بين شطري البلاد لا يجب أن تكون سبباً للتمرد لأن هذه الخلافات تسود بين قبائل الجنوب الكثيرة نفسها.
14
جاء تكوين اللجنة متأخراً كثيراً وكانت صلاحياتها محدودةً، وفرضت عليها مرجعيتها الكثير من القيود. لكن قبل أن تنتهي اللجنة من أعمالها قام الشماليون الذين أرهقتهم الحرب وفقدوا فيها الكثير من أبنائهم واخوانهم وأقاربهم بالثورة على النظام.
تصاعدت الثورة التي اندلعت من جامعة الخرطوم وامتدت لكل أنحاء السودان في 21 أكتوبر عام 1964، أي بعد شهرين من تكوين اللجنة. كانت مشكلة جنوب السودان الوقود الذي غذّى الثورة، وكانت المطالبة بحلٍ سلميٍ لتلك المشكلة هي أهم وأعلى الشعارات والمطالب التي رفعها المتظاهرون. بل إن ندوة جامعة الخرطوم التي أطلقت شرارة ثورة أكتوبر كانت عن قضية الجنوب.
وقد طالب المتظاهرون أيضاً بعودة الحريات التي صادرها نظام الفريق عبود، واستقلال القضاء والتعليم الجامعي.
بعد أيامٍ من المحاولات الفاشلة لإخماد المظاهرات بالعنف والاعتقالات قام الفريق إبراهيم عبود بحلّ المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الوزراء، وتسليم السلطة لجبهة الهيئات التي قادت ثورة أكتوبر، والتي كانت تُمثّل الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات.
15
في تلك الأثناء بدأت ملامح التعاطف الدولي مع قضية جنوب السودان تلوح في الأفق. فقد أثارت بعض الدول الأفريقية تلك المشكلة والحرب الدائرة في جنوب السودان والطرد الجماعي للبعثات التبشيرية من هناك في مؤتمر دول عدم الانحياز الذي عُقِد في العاصمة المصرية القاهرة في شهر سبتمبر عام 1964. وقد قرّر المؤتمر أن يقوم الامبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي بزيارةٍ للسودان لمناقشة القضية مع الحكومة السودانية في 26 أكتوبر عام 1964.
وقد رحّبت حكومة الفريق عبود بالزيارة ووافقت على موعدها على أمل أن تخرجها تلك الزيارة والوساطة من نفق سياساتها التي أثبتت فشلها على أرض الواقع في حنوب السودان. غير أن اندلاع الثورة في السودان في 21 أكتوبر من ذلك العام حال دون قيام تلك الزيارة في ذلك الموعد. وقد رحبت حكومة أكتوبر بتلك الزيارة التي تمت بعد أشهر قليلة من نجاح ثورة أكتوبر.
ولا بُدّ هنا من ملاحظة أن اختيار امبراطور إثيوبيا لهذه المهمة كان بمثابة فتح الباب لإثيوبيا للعب دورٍ في قضية الجنوب. وقد كبر هذا الدور وتعاظم مع مرور السنوات، وتمّ في كل الحالات بمبادرةٍ من الحكومات السودانية المتعاقبة، عسكريةً ومدنيةً، كما ناقشنا بإسهاب في كتابنا “انفصال جنوب السوان.”
16
وهكذا انتهت فترة الحكم العسكري الأولى، وكانت مشكلة الجنوب والتصعيد العسكري ومحاولات الدمج الثقافي بالقوة الذي انتهجته حكومة الفريق إبراهيم عبود، والذي أدّى بدوره إلى خسائر فادحة في الأرواح ودمارٍ كبير في الجنوب، من العوامل الرئيسية للثورة.
برزت محاولات الدمج الثقافي، كما ناقشنا في هذا المقال، في فرض اللغة العربية في المدارس والمكاتب الحكومية، وفي إلغاء تدريس اللغة الإنجليزية، وكذلك في فتح مدارس تعليم القرآن والمساجد، وإغلاق المدارس الكنسية وطرد المبشرين الأجانب ووضع القيود القانونية أمام دخولهم السودان أو بقائهم فيه. وقد تواصل هذا المنهاج في تغيير يوم العطلة الأسبوعي من الأحد إلى الجمعة. واستمر ذلك النهج العبثي ليشمل تغيير الأسماء الكنسية والمحلية لأبناء وبنات الجنوب بأسماء عربية إسلامية.
وامتد ذلك المنحى الاستبدادي ليجعل مجرد المطالبة بالنظام الفيدرالي لجنوب السودان جريمةً يعاقب عليها القانون السوداني. وكان ذلك القرار امتداداً وتوسعاً في قرار الأحزاب السياسية خلال فترة الحكم المدني الأولى برفض الفيدرالية رفضاً كاملاً، كما ناقشنا في المقال السابق من هذه السلسلة من المقالات.
17
ورغم الفشل الكبير لهذه السياسات العرجاء، إلّا أن فترة الحكم المدني الثانية (التي وصلت للسلطة في الخرطوم بعد سقوط نظام الفريق عبود) لم تفكّر في أن تعي هذه الدروس على الإطلاق. فقد واصلت حكومات تلك الفترة نفس المنهاج بشقيه – التصعيد العسكري والدمج الثقافي بالقوة ورفض النظام الفيدرالي- في تعاملها مع مشكلة الجنوب.
18
فقد صعّدت حكومة أكتوبر ومن بعدها حكومتا السيدين محمد أحمد محجوب والصادق المهدي العمل العسكري في جنوب السودان وارتكبت تلك الحكومات ما يمكن أن يوصف بأنه من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يعاقب عليها القانون الدولي.
فقد وقعت خلال فترة حكومة السيد محمد أحمد محجوب في يوليو عام 1965، مجزرتا جوبا وواو واللتان راح ضحينهما أكثر من 500 من أبناء وبنات الجنوب، معظمهم من الأطفال والنساء. وقد وثّق هاتين المجزرتين القاضي عبد المجيد إمام – أحد قادة ثورة أكتوبر.
كما وقعت خلال فترة رئاسة السيد الصادق المهدي للوزارة مجزرة السلاطين التي أعدم فيها الجيش السوداني 15 من السلاطين الجنوبيين أمام أسرهم. وقد وثّق السيد أبيل ألير هذه المجزرة بتفاصيل دقيقة في كتابه نقض المواثيق.
19
كما قام حزبا الأمة والوطني الاتحادي باستخدام أغلبيتهما في الجمعية التأسيسية (بعد انتخابات أبريل عام 1965) بتعديل الدستور لجعل رئاسة مجلس السيادة (رأس الدولة لاحقاً) دائمة، بدلاً من أن تكون شهرية، مجردين بذلك القرار العضو الجنوبي الوحيد بالمجلس من رئاسة المجلس شهرين كل عام.
وقد أصبح السيد إسماعيل الأزهري بموجب ذلك التعديل رئيساً دائماً لمجلس السيادة، مقابل أن تؤول رئاسة الوزارة إلى حزب الأمة ويتولاها السيد محمد أحمد محجوب.
أغضب ذلك القرار أبناء الجنوب الذين كانوا يمنون أنفسهم بجزءٍ أكبر في قسمة السلطة، فإذا بهم يخسرون القليل الذي كان الدستور قد أعطاه لهم. وقد استقال السيد لويجي أدوك من عضوية مجلس السيادة احتجاجاً على ذلك التعديل غير الموفق للدستور.
20
حدث ذلك رغم أن الحل السلمي لمشكلة الجنوب كان مطلباً رئيسياً لثورة أكتوبر، كما سنناقش في المقال القادم.
[email protected]
www.salmanmasalman.org