مقتل السلطان تاج الدين فى شعر الفيتورى/ شاكر عبدالرسول

مقتل السلطان تاج الدين فى شعر الفيتورى/ شاكر عبدالرسول
قد أتاح الحظ لمهيرة بنت الشيخ عبود بأن تصل صوتها إلى نافذة أي بيت سوداني. وهي الزغرودة التي تقول الروايات بانها أطلقتها عندما شقت الصفوف والهبت مشاعر المقاتلين السودانيين في معركة كرري .هذه الرواية احتلت حيزا كبيرا في تاريخ بلادنا ، ولعبت دورا مهما في تشكيل الوعي الجمعي لمجموعة مقدرة من المواطنيين في حقل محاربة الاستعمار . بالمقابل لم يتيح الحظ على الكثيرين من اهل السودان بان يعرفوا او يسمعوا شيئا عن ثلاث تكبيرات التي قيل بان السلطان تاج الدين اطلقها في معركة دروتي.لاسباب غير معروفة الجمت كتب التواريخ والتراجم السودانية الصمت ازاء تلك الاحداث ، وجاراهم في ذلك ايضا النظام الرسمي على اختلاف الأنظمة المتعاقبة. وفي خلف جدار الصمت غاب عن السودانيين فصل مهم من فصول تاريخهم ، وهو مقاومة اجدادهم للغزو الفرنسي في غرب وطنهم.
لقد قدم ابناء الشريط الحدودي الغربي اثنين من قادتهم قربانا لهذا الوطن الكبير وهما: السلطان تاج الدين( المساليت) بلدة الجنينة والسلطان عبدالرحمن فرتي( الزغاوة )بلدة طينة. بقت تضحياتهم فقط في الوجدان الشعبي هناك تتناقله الاجيال جيلا تلو جيل . ومن حسن الحظ ان يتضامن الشاعر محمد الفيتوري مع هذا الوجدان الشعبي ويترك لنا في ديوانه (اذكريني يا افريقيا ) قصيدة بعنوان (مقتل السلطان تاج الدين) تعد بمثابة وثيقة ادبية وتاريخية مهمة، نستشف عبرها تفاصيل واحداث معركة وادي دروتي . التي لولاها لما كان السودان الذي يعرف بعد الاستقلال بأرض المليون ميل مربع كما قراناه او شاهدناه في الخرائط.لو تمكن الغزو الفرنسي وقتذاك بأن يتقدم إلى الأمام ربما اليوم كاتب المقال نفسه يخاطب القارئ السوداني باللغة الفرنسية مثل أي شخص ينتمي إلى افريقيا الفرنكوفونية.
الفيتوري صاحب القصيدة بلا ادنى شك وهو شاعر مشهور ، ونحن هنا لسنا بصدد تعريفه او تقديمه للقارئ . كل ما يهمنا هنا و يلزمنا أن نشر اليه انه عاش جزءا مهما من حياته في دار المساليت .وفي تلك الديار قرات له جدته الكف ، وتنبأت له بمستقبل ، يمكننا ان نصفه بصاعد لا تخلو من العواصف. ففي حاضرة دار المساليت الجنينة أمسكت العجوز بيد الفتى ونظرت اليها بتمعن، ثم نظرت إلى السماء ,ثم نطقت بعبارات وجمل فهم منها الفيتوري ( إن اسمك سينتشر, ولست أدري أستكون حاكما أم رجل دين أم شيئا اخرا, وسيكون لك أعداء كثر, لكن لن ينالوا منك شيئا ) .فسيرته الذاتية أصبحت نسخة كربونية من تلك النبوءة. فكانت حياته كلها عبارة عن سلسلة من الخصومات مع الانظمة العربية ومناكفات ومجادلات مع كتاب ونقاد من العرب فهذا بالطبع مجال اخر .
وقصة قراءة جدته للكف يؤكد لنا بانه اخذ غذاءه الفكري المبكر من الموروث الشعبي المسلاتي ، عن طريق الاحاجي او القصص او الاغاني الشعبية التي كانت تحكيها له جدته .وظهر هذا التاثير جليا في شعره خصوصا قصيدته مقتل تاج الدين.
ويبدو أنه كان معجبا بالسلطان تاج الدين وتضحياته ، فمن اجل هذا سمى نجله الاكبر بتاج الدين متيمنا بهذا البطل المسلاتي الكبير .واهم من ذلك خلد اسمه في ديوانه إلى جانب قادة كبار غنى لهم الفيتوري من أمثال المجاهد عمر المختار ولوممبا والقائد عبدالخالق محجوب وآخرين .لاعتبارات عديدة من بينها المذكورة أعلاه يمكننا أن نقول بإن قصيدته في مقتل السلطان تاج الدين تعتبر من اروع قصائده. وهي القصيدة التي عبرها نتتبع تفاصيل أحداث معركة وادي دروتي و نعتمد في ذلك ايضا على الروايات والقصص الشعبية القادمة من دار المساليت.

في المقطع الاول من القصيدة ، يصور لنا الفيتوري الظروف المحيطة حول مسرح الأحداث مستخدما الرمز تارة ومستفيدا من المعتقدات المحلية تارة اخرى.
الشفق الاحمر تعني , الدماء او امر جلل قد يقع ، ودوران الريح حول البيت دلالة على عدم الاستقرار او شيطان مدمر قادم إلى المنطقة .يقول الفيتوري:
فوق الافق الغربي سحاب احمر لم يمطر……..
والشمس هنالك مسجونة…….
تتنزى شوقا منذ سنين…….
والريح تدور كطاحونة……
حول خيامك يا تاج الدين……
ثم ينتقل بعد ذلك الى مدح السلطان تاج الدين مستخدما نفس الاوصاف القديمة التي
استخدمها شعراء العرب .
بيتك عالي الشرفات /نارك لا تخبو لا تسود / و جارك موفور العرض / يا فارس .
وفي المقطع الثاني ,يطالعنا صورة السلطان وهو يقود الجيش بنفسه ويؤزره من خلفه شقيقه بحرالدين.
كان السلطان يقود طلائعنا…….
نحو الكفار…….
وكان هنالك بحرالدين…….
واشار الينا تاج الدين…….
وينتهز السلطان هذه المناسبة التاريخية ، ويخطب في الجيش مقدما لهم رؤيته للحرب ونتائجها للطرفين معا ، وهي رؤية واقعية صادرة عن رجل
عرك الحياة وجربها لايزدهيه فرح ولا تستخفه عاطفة.
ومضى السلطان يقول لنا…….
ولبحرالدين…….
هذا زمن الشدة يا اخواني…… هذا زمن الاحزان ……..
سيموت كثير منا…….
وستشهد هذي الوديان…….
حزنا لم تشهده من قبل ولا من بعد…….
وفي المقطع الثالث ، ينقل لنا الشاعر جوانب من حوار طريف دار بين السلطان واحد ضيوفه. حيث طلب السلطان المشورة من الضيف فجاء رايه يميل الى الاستسلام أو إلى الواقعية بمقاييس اليوم .يبدو أن الضيف نفسه شخص غير عادي اي شخصية مؤثرة في قومه ومن خلال الإجابة يتضح بأنه قادما من الممالك المجاورة أي الممالك التي خاضت الحروب ضد الاستعمار .
يا تاج الدين………
الاعداء امامك.. فارجع…….
لهب.. وقذائف حمر…….
وخوذات تلمع…….
والحربة مهما طالت…….
لن تهزم مدفع…….
لن تهزمهم يا تاج الدين…….
بسلاح كزمانك مسكين…….
وياتي رد السلطان مسرعا وقويا كالعاصفة ، معبرا عن دور القائد المؤمن الصادق فى مثل هذه المواقف.
يا ويلك لو لم تك ضيفى ياعبدالله…….
ما اقبح ما حركت به شفتيك……
ما ابشع مامنيت به عينيك…….
عار ما قلت…….
وعار ان نستمع إليك. ……
فاثن زمام جوادك…….
وخذ الدرب الاخر…….
يا بحرالدين اعده للدرب الاخر…..
وتفاصيل هذا الحوار متداولة في ثنايا القصص الشعبية حيث تقول الروايات بان السلطان تاج الدين بعد ان صلى بالجيش ، جمع من حوله مجموعة من العلماء واستشارهم ،فجاء رد احدهم مخالفا عما كان يتوقعه.
وفي المقطع الرابع ، يصور لنا جحافل الفرنسيين القادميين بمدافعهم وبنادقهم ويصفهم بالشياطين.
ها هم قدموا يا تاج لدين…….
فانشر دقات طبولك ملء الغاب..
حاربهم بالظفر وبالناب…….
طوبى للفارس……
إن الحرب اليوم شرف …..
إن الموت اليوم شرف. ….
فاضرب .. اضرب .. يا تاج الدين
اضرب .. اضرب .. اضرب
وفي المقطع الخامس تبدا المعركة، ويبلي فيها السلطان ومن وراءه الابطال.
بالسيف وبالحربة…….
وبايمانك قاتلت………
يا فارس تسحق اعداءك……
باسم بلادك ناديت……
لن يحجبني عن حبك شيء……
انك ملء دماي وعيني……
يا دار مساليت انا حيّ………
وتعتبر المقطوعة السادسة من اهم المقاطع ،وسرد الفيتوري الشعري ، يكاد يتطابق مع الرواية الشعبية، وهذه الرواية ليست منحصرة في دار المساليت وحدها,بل تنتشر بشكل واسع في كل انحاء الاقليم،واحيانا تختلط احداثها مع الايام بالاساطير والقصص.
تقول الرواية في يوم دروتي عندما اشتدت الحرب اوزارها، واستحر القتل في وسط الجنود ،وثب السلطان من حصانه ورمى نفسه في مركبة القائد الفرنسي،ووقع به في الارض ثم تصارعا وبعد ذلك سمع الناس ثلاث تكبيرات ،تبعتها ثلاث طعنات ،فوقع القائد الفرنسي الجنرال( مول) مصرعا. يقول الفيتوري في ذلك .
وهجمت فاجفل قائدهم. ……
وانشق ستار…….
كان ستار رصاص……
كان ستارا من نار…….
فوق المدفع بالسيف مشيت……
ولحقت بقائدهم فانهار…….
القائد ذو الجبروت انهار
ذو المركبة النارية والخوذات انهار……
هذا الصدر العاري المنهار……
من قبل لقائك زانته نياشين الاكبار…….
لكنك يا فارس اَليت……
ان لاتهب الكافر صفحك…….
ان تسقي من دمه رمحك……
ان تصلبهم عبر الفلوات….
ان تجعل موتاهم مثلا……
لزمان عبر زمان آت. ……
اليوم على رغم من ان اغلبية الشباب السوداني يحفظ اسماء القادة من الغزاة من امثال كتشنر ودفتر دار وغردون وغيرهم للاسف انهم لم يعرفوا شيئا عن القائد الفرنسي الجنرال مول الذي قتل في الحدود الغربية. كما أنهم لم يسمعوا عن أسماء القادة الوطنيين الذين قاوموا الاستعمار في الحدود الغربية من امثال السلطان تاج الدين وعبدالرحمن فرتي وآخرين كثر .وأسوأ من ذلك في بعض الأماكن نجد أحفاد تلك الممالك في موقف يدافعون أنفسهم حتى انتمائهم للسودان أمام الآخرين. وهذا أسوأ مكان يمكن أن يضع فيه الإنسان نفسه وهو في داخل وطنه . فبعد سقوط قائدهم لازوا بالفرار، وبدا تاج الدين يطاردهم.
صاروا بعد القائد…….
قطعان غنم……..
طاردهم بجنودك…….
عبر الفلوات……..
عبر( دروتي) عبر الاكمات……
وفي المقطع الاخير،يعيدنا الفيتوري الى أجواء مقدمة القصيدة ،الشمس,المسجونة , الريح الحبلى، دوران الريح حول الخيام، اي كانه يريد ان ينبه السلطان بان الحرب لم تنته بعد.
يا فارس خذ حذرك……….
من طعنات طعينك………..
يا فارس خذ حذرك……….
ويبدو ان السلطان لم ياخذ بهذه النصيحة،فاستمر في ملاحقة الجنود الفرنسيين الهاربين الى ان وقع في كمين نصب له.
ليتك لا تتحرك……….
وتحرك تاج الدين……….
وأتت بضع رصاصات……
خجلات مضطربات………
اقبلن من الظلمات…………
فرأينا تاج الدين…………..
يبدو كأن قد مات………….
ففي اليوم التاسع من نوفمبر عام 1910 استشهد السلطان تاج الدين في معركة وادي دروتي شرق مدينة الجنينة وأستلم الراية من بعده شقيقه بحرالدين.
وتساقط تاج الدين……….
لم يقو الفارس ان يرجع……..
لبكاء الشعب عليه……………
فرصاصات خمس صدئات……
تسكن في عينيه…………..
لكن احدا لم ير رايته……..
تسقط من كفيه………….
لم تسقط الراية لان شقيقه بحرالدين خطفها ، وحارب الفرنسيين في مواقع عدة حتى هزمهم في معركة (عكري ) .وفي عهد بحرالدين تم ترسيم الحدود السودانية الحالية في الجانب الغربي، وانحسر النفوذ الفرنسي على مدينة (أدري ) التشادية. واليوم عندما يحدد السودانيون حدود بلادهم جغرافيا من كسلا الى الجنينة او الطينة ، يجب عليهم ان لا ينسوا بان البلدتين الاخيرتين ، قد تمت تثبيتهما في الخريطة بعد تضحيات كبيرة قدمها ابناء الشريط الحدودي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *