لماذا تأخرت عملية التغيير في السودان كل هذه المدة ؟!
لا شك أن الشعب السودان بمختلف مكوناته السياسية والإجتماعية قدم نضالات كبيرة منذ إنقلاب الجبهة الإسلامية في 30 يونيو 1989 ولا يزال ، حيث تشكلت جبهات مقاومة عديدة تراوحت ما بين الكفاح المسلح والحراك الجماهيري السلمي ولكن كل هذه المواجهات والملاحم لم تسفر عن التغيير وإسقاط النظام حتى الآن ، فتتصاعد وتيرة المقاومة حينا وتخبو أحيانا وفقا لعوامل عدة داخلية متعلقة بالقوي المعارضة وطبيعة النظام الإستبدادية القمعية وأخري تتعلق بالأبعاد الإقليمية والدولية ومصالحها في السودان.
إن تأخر عملية التغيير في السودان أرجه للآتي:
إن الأزمة السودانية ذات طبيعة شائكة ومعقدة ولها أبعادا تاريخية سابقة لميلاد الدولة الوطنية أي منذ فترة المهدية وما لازمها من خلافات بعيد وفاة المهدي وإستلام الخليفة عبد الله التعايشي لمقاليد الأمور والمواجهة فيما بينه والمناوئين لحكمه أي ما عرف بصراع أولاد الغرب وأولاد البحر ، وأعتقد جازما أن ممارسات النظام في دارفور وجرائمه التى وصلت مرحلة إغتصاب الحرائر مقرونا بتصريح البشير عن الغرباوية علي لسان دكتور الترابي إمتدادا لثأر قديم ومزاعم تاريخية مفادها أن التعايشي فعل ببعض نساء الوسط والشمال النيلي ما يفعله البشير الآن في دارفور ، وهذا الصراع جعل بعض المجموعات والزعماء المحسوبين علي الشمال النيلي يتحالفون مع الغزاة بغضا في التعايشي وحكمه بل عمل بعضهم جنودا في جيش الإحتلال الإنجليزى وقيل أن ستة كتائب منهم قد حاربت بجانب جيوش الغزو في معركتى كرري وأم دبيكرات وغيرهما ، من ناحية أخري مواقف بعض الشخصيات المسماة وطنية من ثورة اللواء الأبيض 1924 بقيادة الزعيم الوطنى علي عبد اللطيف وإصدارهم مكتوبا مساندا للإحتلال ومعاديا لثورة اللواء الأبيض لأسباب ودوافع إجتماعية وسياسة لا علاقة لها بمصلحة الوطن .
بعد خروج الإنجليز تمت مكافأة الذين خدموا في بلاط الإحتلال بتسليمهم مقاليد السلطة ولكن الورثة لم يستشعروا المسئولية الوطنية بل عملوا من أجل بسط نفوذهم السياسي والإقتصادي وإستأثروا بجل الوظائف الحكومية عند السودنة ولم يمنحوا الغالبية العظمى من الشعوب السودانية فرصة المشاركة الحقيقية في بناء دولتهم حديثة الميلاد وتم إقصاء أكثر من 95% من مجموع سكان السودان في غرب وشرق وجنوب السودان والنيل الأزرق ولم يعيروا إهتماما لمطالب الشعوب السودانية التى تنادي بالعدالة والمساواة والفيدرالية ، فعملت الحكومات المتعاقبة علي قمع هذه المطالبات والإحتجاجات السلمية بقوة السلطة والحلول الأمنية والعسكرية أو عبر تمثيل ديكوري شوفوني ، فتعمقت الأزمة وتبددت الثقة وضاعت فرصة إيجاد حلول حقيقية تلبي رغبات الجميع ، وإضطرت بعض الشعوب السودانية إلي حمل السلاح تعبيرا عن حالة الرفض بعد أن فشلت الوسائل السلمية في تحقيق الهدف المنشود إيذانا بدخول السودان مرحلة تأريخية جديدة عنوانها قعقعة السلاح ، وللأسف تمادت حكومات الخرطوم في مواقفها المتعسفة وحلولها الأمنية دون أن تقدم أي تنازلات جوهرية تضع حدا لحالة إستنزاف الموارد البشرية والإقتصادية.
مرت السنين دون تغييرات أو جهود تذكر لحل الأزمة السودانية عدا إتفاقية أديس أبابا 1972 التى أوقفت الحرب مؤقتا لمدة عشرة سنوات ولكنها لم تعالج الأزمة وسرعان ما تنكر لها جعفر نميري لتبدا دورة جديدة من الحرب فاقمت من الأزمة أكثر فأكثر حتى جاء إتفاق نيفاشا 2005 مفروضا من القوي الغربية ولكنه لم يصمد كسابقه بل قسم السودان إلي بلدين ولا تزال رحي الحرب تدور فيهما دون أن يتمكنا من العبور إلي جسر السلام والإستقرار ، وعشرات الإتفاقيات التى لم تلبي طموحات موقعيها ناهيك عن طموحات الوطن العريض !.
إستفاد نظام الجبهة الإسلامية من تباعد فصائل المعارضة السودانية فيما بينها ومع الشارع وهمومه من الجهة الأخري لا سيما فئة الشباب التى تدفع فواتيرا لم تستهلكها ، وكذلك تقاطعات المصالح الإقليمية والدولية والسير في نهج الحلول الأمنية والعسكرية التى جربها من سبقوه في السلطة ، ووظف النظام عوامل الدين والعرق والقبيلة والثقافة في الأزمة السودانية ليضيف لها أبعادا جديدة أكثر خطورة بل اطلق العنان لطموحاته وتوهم بأن مشروعه سوف يغزو به أدغال إفريقيا والعالم وترفرف راياته في البيت الأبيض والكرملين إتساقا مع عالمية فكر الأخوان المسلمين وعدم إيمانهم بالدولة القطرية !!
إستخدم النظام العروبة والإسلام للتقرب إلي معسكر الدول العربية والإسلامية طمعا في دعمها مع تقديم تنازلات للدول الغربية علي حساب السيادة الوطنية طمعا في نيل رضاها وشراء صمتها عن جرائمه التى يرتكبها بحق الشعوب السودانية والتدخل في شئون دول الجوار ودعم وإيواء قادة الحركات الإرهابية والإسلامية ونسيان محاولة إغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا 1995 مع تمنعه عن تقديم أي تنازلات لصالح التصالح والتعافي الوطنى، كل هذه العوامل وغيرها ساعدت النظام في البقاء كل هذه المدة عبر الفهلوة وشراء الوقت والإنحناء للعواصف ريثما تمر وليس بناءا على قوته الذاتية وقبوله الشعبي ورصيده الجماهيري.
إن بعض القوي التى تصارع النظام تنتمي إلي نفس مدرسته الفكرية ومنطلقاته الأيديولجية وصراعها معه فوقيا يتمحور حول كرسي السلطة ولتكون بديلا له وتستمر بنفس مشروعه الإسلاموعروبي الذي أثبت فشله بل أصبح واحدا من أسباب الأزمة في السودان المتعدد ، وهنالك قوي أخري صراعها فوقيا مع النظام ولكنها لا تطرح مشروعا إسلاميا بل تسعي للحفاظ علي المشروع السياسي الإجتماعي السائد الآن الذي ظل يحكم السودان منذ خروج الإنجليز وترفض أي بديل يأتي من خارج سياق هذا المكون الإجتماعي أو فليبق نظام البشير في السلطة طالما التغيير لا يجعل منها وريثا حتميا للسلطة في السودان ، وأيضا هنالك قوي ثالثة حديثة تطرح سودانا جديدا ودولة مواطنة لا تقوم علي ركيزتي الدين والعروبة وهي بدورها تنقسم الي مجموعتين :
المجموعة الأولى لا تثق بحتمية وصولها للسلطة عبر الإنتخابات الحرة لذا تري بأن أقرب الطرق للوصول إلي السلطة يأتي عبر نافذة التسوية والمشاركة في السلطة أما في حالة سقوط النظام فإنها تري ان تطول الفترة الإنتقالية بما يكفيها لترتيب أوضاعها لتكون مستعدة للإنتخابات لذا نجدها مترددة ما بين التسوية وإسقاط النظام.
أما المجموعة الثانية فإنها ترفض التسوية والحلول الجزئية وتعمل علي إسقاط النظام بغض النظر عن من الذي سوف يحكم طالما الطريق إلي الحكم يأتي عن طريق الإنتخابات وإرادة الجماهير لا الدبابات وهى واثقة من شعبيتها وموضوعية مواقفها وطرحها.
أما القوي الرابعة تشمل فيما تشمل مجموع أحزاب وحركات الضرار التى صنعها النظام او التى نشأت علي كنفه ، فوجودها مرتبط بوجود النظام ونجدها تدعي المعارضة وإنها تتميز بلإنتهازية والبراغماتية وسوف تتخلي عن النظام متى ما رآت دنو ذهابه وغرق سفينته.
إن القوي أعلاه وبمواقفها المتابينة أحدثت تشويشا علي المواطن السوداني الذي وجد صعوبة في فهم أهدافها وما ينطوي عليه مستقبله ومستقبلها، وفي كثير من الأحايين ينظر لها والنظام كوجهي العملة أو مثل أحمد وحاج أحمد ، ومع زيادة الوعي وتكالب الأزمات والإحتقان والشعور بضياع الوطن وقناعة وضرورة التغيير بدأت الجماهير تعبر عن تطلعاتها ورغبتها في الخلاص وخروجت في مظاهرات ومسيرات وإعتصامات خلال السنوات الفائتة وقدمت أرتالا من الشهداء والجرحي والمعتقلين في سوح الجامعات والشارع العريض عربونا للتغيير المنشود ، ولكن كل هذه النضالات والحراك ينقصها وحدة وتضامن وتكامل الصف والعمل المشترك بين المعارضة فيما بينها ومع الشارع من الجانب الآخر.
لابد للقوي السياسية المعارضة وقياداتها تحديدا أن تضع نصب أعينها مصلحة الوطن وخطورة الراهن ، وأن التغيير لن يتحقق بجهد فصيل واحد مهما علأ شأنه وإن فعل ذلك لوحده لن يستطيع أن يحكم بمفرده في وطن متعدد ومتنوع كالسودان علي الأقل في الفترة الإنتقالية وكتابة الدستور وغيرهما من القضايا الوطنية.
إن المحك الحقيقي الآن هو بقاء ما تبقي من السودان موحدا ومتحدا ، وإن الخيارات في الوحدة والسلام والإستقرار أصبحت ضئيلة جدا وجدار الثقة بين المكون السوداني السياسي والإجتماعي أصبح ضئيلا إن لم يكن قد تلاشي فعلا !!
إن السودان اليوم أقرب لشبح التفكك والإنهيار من أي وقت مضي ، وعلي شرفاء السودان والمعارضة بكافة أطيافها وتشكيلاتها الجلوس مع بعضهم البعض في مؤتمر أو لقاء عام ( مؤتمر/لقاء الوطن )إما بشرنا بوحدة وتنسيق المواقف وتكامل وسائل المقاومة ووضع حدا للتباعد والتباغض ومعارضة المعارضة أو ميز لنا صفوف المعارضين حتى يعرف المواطن المغلوب المعارضة الجادة في عملية التغيير وتعمل لأجله وتلك التى تريد الإندغام في السلطة .
لبناء معارضة راشدة تعرف أهدافها وتقاتل وتضحي لأجل تحقيقها لابد أن يكون للمرأة والشباب الدور الأبرز في قيادة عملية التغيير وإفساح المجال للجيل الجديد ليكون ربانا لسفينة الخلاص ، وما لم يحققه بعضهم وهو في السبعين من عمره لا يمكن أن يدركه فيما تبقت له من سنوات ، وعلي رأي المثل (أم جركم ما بتاكل درتين/خريفين)!.
إن معركة اليوم وبناء المستقبل تحتاج فيما تحتاج إلي دماء شابة وطرائق تفكير حديثة وأفكار جديدة ووسائل وتكتيكات متنوعة ، لعمري هى ليست معارك الستينيات والثمانينيات ، فالجيل الجديد كفر بكل ما هو قديم ولم يعد يؤمن بالتابوهات والكهنوت وزعيم الطائفة الذي لا يعصي له أمرا.
نحلم بوطن معافي ومتعافي ، تزينه الحرية والكرامة الإنسانية ، ونظام حكم ديمقراطي رشيد ، وإقرار مبدأ المواطنة المتساوية والتداول السلمي للسلطة ، ومؤسسات أمنية ترفض الإستبداد والإنقلابات وتحرس الدستور لا تخرقه ، والا نستبدل ظلما بظلم أو ظالما بظالم آخر أو نقبل بسلوك وممارسات كرسنا جهدنا وطاقاتنا وشبابنا وحياتنا في مقارعتها ومقاومتها.
#المجد_للشهداء
#المجد_للأحرار
#المجد_للسودان
محمد عبد الرحمن الناير (بوتشر)
28 أبريل 2018م