بقلم بابكر فيصل بابكر:
وصل إلى العاصمة السودانية الخرطوم الأسبوع الماضي سبع نساء وثلاثة أطفال من الذين استعادهم جهاز الأمن والاستخبارات السوداني من صفوف تنظيم “داعش” في ليبيا.
وفي تصريح صحافي عقب وصول العائدين، قال مدير إدارة مكافحة الإرهاب التابعة للأمن السوداني التجاني إبراهيم، إن هؤلاء سيخضعون لعمليات معالجة فكرية ونفسية لمعرفة الأسباب التي دعتهم للتطرف، وأضاف: “بعد ذلك سيتم تأهيلهم ودمجهم في المجتمع بالتعاون مع مجلس التحصين الفكري الذي ترعاه رئاسة جمهورية السودان”.
وكان السودانيون قد فوجئوا قبل عامين بخروج العشرات من الطلاب الجامعيين من الجنسين من البلاد عبر مطار الخرطوم للانضمام للتنظيم المتطرف في ليبيا والعراق وسورية، وهو الأمر الذي مثل قمة جبل الجليد التي تخفي تحتها كارثة الانتشار الواسع للفكر المتطرف في أوساط الشباب السوداني.
تحولات كبيرة قد حدثت في طبيعة تدين السودانيين وفي مرجعياتهم الدينية
حينها اعترفت وزارة الداخلية السودانية أن نحو سبعين شابا قد التحقوا بالتنظيم المتطرف، عاد منهم إلى البلاد إثنين فقط، لكن معلومات متطابقة أفادت بعد ذلك أن عدد الطلاب السودانيين في تنظيم “داعش” يفوق تلك الإحصاءات بكثير.
من المعلوم أن ظاهرة العنف والتطرف تعتبر من الظواهر المعقدة التي تعزى أسبابها للعديد من العوامل الفكرية والسياسية والاجتماعية. ولا شك أن المراقب للأوضاع في السودان يلحظ أن تحولات كبيرة قد حدثت في طبيعة تدين السودانيين وفي مرجعياتهم الدينية، وقد نتج هذا الأمر عن سيطرة الإخوان المسلمين المطلقة على الحكم خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
وقد لعبت عوامل عديدة دورا في نمو وانتشار تيار التكفير والتطرف في السودان، منها ما هو داخلي مثل تجييش المجتمع حول شعارات الجهاد إبان الحرب في جنوب السودان، وكذلك غياب الحريات السياسية والفكرية الذي أدى لإجهاض نمو المجتمع المدني، فضلا عن تبني سياسة التحرير الاقتصادي وما أفرزته من غلاء وبطالة وفقر وتهميش زاد من إحباط الشباب.
وكان من ضمن تلك العوامل أيضا مناخ الشحن الديني الذي خلقه النظام الإخواني منذ استيلائه على السلطة وتبنيه النهج الرسالي الذي فتح بموجبه أراضي البلاد على مصراعيها لقادة الجماعات المتطرفة وعلى رأسهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري منذ تسعينيات القرن الماضي، ومعه شهدنا حوادث غير معهودة في تاريخ السودان مثل الهجوم على المساجد وقتل عشرات المصلين.
أما العوامل الخارجية فقد تمثلت في الانتشار الواسع للفكر السلفي الوهابي في السودان، وذلك عبر تدفق الأموال والمنح الدراسية وأنشطة الدعوة والمنظمات الطوعية المدعومة من المملكة العربية السعودية، وكذلك أثر العولمة وما نتج عنها من تفاعل الشباب السوداني مع قضايا المسلمين في الساحة الدولية.
غير أن أحد أهم العوامل التي ساعدت على تقوية هذا التيار المتطرف يتمثل في استخدام النظام الإسلاموي الحاكم للجماعات العنيفة كفزاعة في وجه معارضيه السياسيين والمجتمع الدولي، وتغاضيه عن أنشطتها الخطرة في المساجد ووسائل الإعلام ودور الجامعات والأندية الاجتماعية.
والجدير بالذكر أن هذه الجماعات باتت تقيم ندواتها في الساحات العامة وتحت مرأى ومسمع السلطات الحكومية، كما أن شيوخها التكفيريون معروفون بالاسم ويديرون معاهدا في العاصمة والأقاليم يؤمها الشباب لتلقي دروس القرآن والحديث والفقه.
لا يمكن حصار التيارات المتشددة بالقبضة الأمنية فقط، ولا بد من حدوث انفتاح سياسي وتحول ديمقراطي حقيقي
ومن بين هؤلاء الشيوخ من أعلن هو وأسرته مبايعة علنية لزعيم “داعش” أبو بكر البغدادي، ومنهم من أصدر فتاوى عديدة بتكفير المفكرين والأدباء والفنانين والكتاب والصحفيين. ولم يسلم من تلك الفتاوى حتى القيادات الإسلامية مثل الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة. ومع ذلك لم تحرك الحكومة ساكنا باعتبار أن مثل هذه الفتاوى تساهم في إلجام وإضعاف خصومها السياسيين.
إن من غرر بالعشرات من الشباب وأصدر الفتوى وساعد على تسفيرهم سرا للالتحاق بصفوف التنظيم المتطرف لا يزال يرتدي جلبابه القصير الناصع البياض ويمتطي سيارته الفارهة بعد أن قبض ريالات ودراهم الدعم وما يزال يتحدث ويصدر الفتاوى ويقدم البرامج الدينية في الفضائيات ولم يحاسبه أحد.
أما مجلس التحصين الفكري الذي عهدت له الحكومة بمراجعة قناعات الشباب الذين انضموا لـ “داعش”، فإن القائمين على أمره لا يختلفون عن شيوخ التكفير في شيء (داوني بالتي كانت هي الداء)، وعلى رأسهم قيادات معروفة من جماعة الإخوان المسلمين لا يخفون إعجابهم الشديد بأفكار سيد قطب الواردة في كتابه “معالم في الطريق”، وهو الكتاب الذي يعتبر الوثيقة الأساسية التي انطلق منها فكر التكفير والعنف والقتل منذ منتصف القرن الماضي.
إن القارئ الحصيف لأحداث التاريخ يعلم أن التيار المتطرف العنيف لن يتورع بعد أن يثبت أقدامه عن الانقلاب على الجهة التي رعته وفتحت له أذرعها، وهذا ما حصل مع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات الذي تعاون مع هذا التيار واستخدمه في حربه مع خصومه الناصريين والشيوعيين، ولكنه كان أول ضحاياه في حادثة المنصة الشهيرة.
ومن ناحية أخرى فإنه لا يمكن حصار التيارات المتشددة بالقبضة الأمنية فقط، ولا بد من حدوث انفتاح سياسي وتحول ديمقراطي حقيقي. فهذه التيارات تنمو وتنتشر في أجواء الكبت والاستبداد وغياب الحريات. ولا بد كذلك من تطوير استراتيجية شاملة تأخذ في الاعتبار الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تساهم في خلق ظاهرة التطرف.