طفرة عقارية بدأت مطلع الألفية تزامنا مع تصدير النفط
الطفرة العقارية شجعت السودانيين للسكن في الشقق العالية بدلا من المنازل («الشرق الاوسط»)
الخرطوم: محمد أبو حسبو
مع الطفرة الاقتصادية التي يمر بها السودان منذ نحو 6 سنوات بفعل انتاج النفط، انتشرت ظاهرة عقارية جديدة في العاصمة الخرطوم، وهي قيام الأبراج السكنية التي يفضل السودانيون تسميتها بـ «العمارات». فقد كان السودانيون بطبعهم يسكنون المنازل ولا يطيقون سكن الشقق مهما كانت فاخرة. غير أن عدة عوامل، بالاضافة إلى الطفرة العقارية، شجعتهم أيضاً على التحول من سكن المنازل إلى الشقق العالية. ومن هذه العوامل النزوح الضخم الذي حدث في العاصمة، إذ تضاعف سكانها أكثر من مرتين خلال الأعوام الـ 15 الماضية ليصل الآن إلى نحو 7 ملايين نسمة. ورغم أن المدينة اتسعت أفقياً فوق مساحات شاسعة، إلا أن المتمسكين بوسط المدينة وأحيائها القديمة فضلوا البقاء فيها والتوسع رأسياً بدلاً من الخروج إلى أطراف المدينة مع تزايد عدد أفراد الأسرة عبر الأجيال المتلاحقة. ومن الأسباب الأخرى، الزيادة الضخمة في عدد السودانيين الذين هاجروا إلى دول الخليج وأوروبا والولايات المتحدة خلال السنوات الـ 15 الماضية، والذين أصبحوا الآن (بعد أن حسّنوا أوضاعهم المادية) راغبين في امتلاك عقار في موطنهم الأصلي. وربما هذه الشريحة بالذات – بحكم أنها اعتادت على سكن الشقق في بلاد المهجر- هي التي مهّدت لتحول السودانيين من سكن المنازل والفيلات إلى سكن الأبراج والشقق.
ويلاحظ السودانيون أن انتشار الأبراج السكنية العالية تركز في جزء واحد من العاصمة التي تنقسم إلى 3 بلديات هي «أمدرمان» و«الخرطوم» و«الخرطوم بحري»، لذا فهي تُعرف بالعاصمة المثلثة لأنها تقع حيث يلتقي نهران (النيل الأبيض والنيل الأزرق) ليجريا معاً في نهر واحد هو نهر النيل الشهير.
فالأنهار الثلاثة تشّكل مثلثاً جغرافياً يقع مركزه عند نقطة التقاء النيلين. غير أن أسعار العقارات في المدينة كانت دائماً وبشكل عام أعلى كلما اقتربت من النيل الأزرق. فالنيل الأزرق يحد بلدية الخرطوم من جانبها الشرقي، لذا فإن نصف المدينة الشرقي حاز نصيب الأسد من الأبراج السكنية الحديثة. كما أن أراضي وعقارات بلدية الخرطوم بشكل عام أيضاً أغلى سعراً من بلديتي أمدرمان والخرطوم بحري. وبينما راحت في العامين الأخيرين بعض الأبراج تقوم في بلدية الخرطوم بحري وتطل على نهر النيل، يُلاحظ أن بلدية أمدرمان، رغم كبر مساحتها، تكاد تخلو من هذه الأبراج. وتتراوح أسعار الشقق المكوّنة من ثلاث غرف نوم وحمامين على الأقل في النصف الشرقي من مدينة الخرطوم ما بين 100 إلى 300 الف دولار للشقق الفاخرة المطلة على النيل الأزرق مباشرة. ومن أكثر أحياء الخرطوم احتضاناً لهذه الأبراج حي «العمارات»، خصوصاً شارع المطار، وحي «الرياض» و«الخرطوم 2» و«المنشية» و«الطائف» و«المعمورة». ويعد مشروع «السُنط» أضخم المشاريع العقارية في السوادن على الاطلاق، وهو الذي لا يزال خرائط ورسومات على الورق. ويقع هذا المشروع في قلب العاصمة المثلثة عند نقطة التقاء النيلين الأبيض والأزرق وتُقدر تكلفته بنحو 4 مليارات دولار، وهو عبارة عن مدينة صغيرة ستكون مركزاً تجارياً وسكنياً للطبقات المقتدرة من السودانيين بالإضافة إلى المستثمرين الأجانب. ويأمل القائمون على أمر هذا المشروع أن يتحول بعد اكتماله إلى ما يشبه حي المال في بعض العواصم الأجنبية، لكن هناك من يشكك في جدواه وفيما اذا كان سيكتمل أصلاً، على الأقل بالطريقة التي يتصورها صانعوه.
مشكلة الصيانة والخدمات: غير أن المشكلة الأساسية التي يخشاها سكان الأبراج الجديدة هي إمكانية تدهور خدمات وصيانة البنايات الجديدة مع مرور الوقت. ولأن ظاهرة السكن في أبراج (أو عمارات) شيء جديد ودخيل على الحياة السودانية فإن صيانة الخدمات المشتركة في العمارة (مثل المصعد والدرج والإضاءة الخارجية والحدائق حول المبنى والصرف الصحي وما إلى ذلك) متروكة حالياً للجهد الشخصي لبعض السكان الناشطين. فالسكان عادة ما يكونون لجاناً تتولى جمع المال اللازم للصيانة والخدمات ثم تأجير عمال بطريقة فردية للقيام بالصيانة والنظافة. وما يغيب عن السوق السوداني حتى الآن هو وجود شركات تتخصص في إدارة الأبراج السكنية وتقديم جميع الخدمات المطلوبة بطريقة مهنية نظير مبلغ محدود يدفعه السكان شهرياً أو سنوياً، مثلما هو الحال في الدول المعتادة على سكن الأبراج. وبينما راح الكثيرون الآن يقبلون على فكرة شراء شقة للسكن لا تزال غالبية السودانيين تفضل شراء قطعة من الأرض ثم انشاء منزل عليها، حتى وإن كان صغيراً. ويعتقدون أن مزايا المنزل عديدة، أولاها أنك تبني المنزل على هواك الخاص ـ على أرض تملكها ـ وآخرها أنك تتمتع بحديقة أو بفناء خارج الجدران، فضلاً عن القدرة على التحكم في زمن البناء بحيث تستطيع تأجيله اذا لم يتوفر لك المال اللازم طوال الوقت، بينما شراء الشقة يلزمك بأقساط شهرية عالية لأن فترة السداد لا تتعدى عادة عامين أو ثلاثة. عقبة التمويل: وربما ما زالت هذه هي العقبة الأساسية أمام الانتشار الكبير لتملك الشقق في السودان. فحتى الآن لا تُوجد مصارف عقارية توفر قروضاً لشراء العقارات بحيث يتم سداد القرض على أمد بعيد (من 10 إلى 20 عاماً) مثلما هو الحال في كثير من الدول. فالنظام المتبع حالياً في السودان هو أن يمنحك صاحب البرج فترة عامين أو ثلاثة لسداد كامل سعر الشقة- وهي الفترة التي تستغرقه لاكمال عمليات البناء. ففي بداية المشروع يأخذ صاحب البرج عربوناً من جميع المشترين (في حدود 20 إلى 30 في المائة)، وعند الانتهاء لا يستلم المشتري عقاره إلى بعد أن يكمل آخر قسط من قيمته. وبالطبع فإن غالبية السودانيين يجدون أن هذه الأقساط الشهرية ضخمة وتفوق بكثير دخلهم الشهري لأنها تتوزع على فترة سداد قصيرة تمتد لعامين أو ثلاثة فقط. كما أن غالبيتهم لا يتوفر له العربون الكبير، الذي يقدر بـ 30 في المائة من قيمة الشقة. وحتى تظهر بنوك تتخصص في القروض العقارية فسيظل تملك الشقق بالتقسيط في السودان ظاهرة محدودة في أوساط الطبقة الميسورة نسبياً.
المستثمرون الأجانب: ويبدو أن الطفرة العقارية الحديثة في الخرطوم قد جذبت بعض المستثمرين الأجانب، لكنه جذبٌ محدود للغاية بالمقارنة مع ما يحدث في دول الخليج. فالمصريون كانوا أول من دخل كمستثمرين عقاريين في السودان، إذ برز وجودهم قبل نحو 4 سنوات مع انتشار أبراج «الحجاز» التي يموّلونها ويشيدونها في مواقع مختلفة من العاصمة السودانية. كما أن العمال المصريين راحوا ينتشرون في مواقع البناء بصفتهم الفردية وليسوا كعمال تابعين لشركات مصرية. أما الصينيون فهم أيضاً قد انتشروا بدرجة كبيرة في مواقع البناء والتشييد ولكن كشركات مقاولات وليسوا كمستثمرين. والمعروف أن الصين هي الشريك الأكبر في استخراج النفط السوداني، فضلاً عن توليها تنفيذ مشاريع ضخمة للبنية التحتية بالتعاون مع الحكومة السودانية. فوجود الصينيين في شوارع الخرطوم وأسواقها أصبح ظاهرة مصاحبة لاستخراج البترول وللطفرة العقارية التي تبعتها. وفي الآونة الأخيرة لاحظ السودانيون أعداداً متزايدة من الأتراك الذين أصبحوا يهتمون بالسودان كمستثمرين عقاريين على نطاق محدود. أما الوجود الخليجي في سوق العقارات السوداني فقط اقتصر حتى الآن على شراء بعض الأراضي والمزارع لأفراد مستثمرين، لكن لا وجود يُذكر لشركات مقاولات كبيرة ومعروفة مثل «إعمار» الإماراتية وغيرها. ويُشار هنا إلى أن مواد البناء التي تغذي الطفرة العقارية في السودان تأتي من مصادر مختلفة حول العالم، فضلاً عن المواد الأساسية المصنعة محلياً كالأسمنت. فمثلاً تُستورد غالبية الكابلات الكهربائية وأنابيب المياه والصرف الصحي البلاستيكية من السعودية. بينما تأتي معظم مواد «التشطيب» من الصين ودبي وتركيا، ومع انتشار الأبراج السكنية في الخرطوم كثرت شركات المقاولات الهندسية المحلية. ومن أوائل هذه الشركات شركة «ديكور هاوس» ـ صاحبة أبراج الياسمين ـ والتي يعتقد البعض أنها لعبت دوراً أساسيا في إدخال هذه الظاهرة إلى السودان.
لاشك بأن هذا التقرير عن سوق العقارات في السودان يعكس الصورة الحقيقية لهذا السوق المتنامي في ظل هذه الظروف السياسية الحالية. ولاشك بأن الاستثمار العقاري في العاصمة الخرطوم والجزء الشرقي منها هو المحك في هذه الاستثمارات.. وأقول لجميع السودانيين بأن الوضع السياسي واستقراره سيكون هو نقطة التحول الحقيقي للسودان كبلد جاذب للاستثمار عقاريا كان أو صناعيا أو حتى خدمي كتأسيس شركات خدمات وصيانة مثلما هو الحال في السعودية صاحبة تجارب حقيقية في هذا المجال .. وسودانيون هم من قاموا على تأسيس هذه الشركات. وهذا النوع من الشركات يخدم الاستثمارات بمختلف أنواعها .. لا عقار ولا آلة يمكن لها أن تدوم دون صيانة … حتى الانسان … وإن تجربة مصر في ادارة ابراج التمليك يحكمها عرف اصبح قانوني وهو تاسيس اتحاد ملاك للبرج له رئيس وأمين صندوق وأعضاء والتزامات مالية شهرية يتم تغطيتها بعائد من وديعة تمثل 2% من قيمة جميع الوحدات، باسم اتحاد ملاك البرج، يتم الصرف من عائدها لتغطية صيانة وخدمات البرج… هذه تجارب يجب على السودانيين التعلم منها .. مع دخولهم عالم الشقق والابراج .