كان الرئيس السوداني، عمر البشير، من أوائل الزعماء العرب الذين رحبوا بانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، على الرغم مما اشتهر عن الأخير من عداوة للإسلام والمسلمين والعرب. انضم البشير في ذلك إلى فئةٍ من زعماء المنطقة استبشروا خيراً بذلك الفوز، من أبرزهم بنيامين نتنياهو وعبد الفتاح السيسي وبشار الأسد. وبحسب البشير، فإن التعامل مع ترامب “سيكون أسهل بكثير من التعامل مع الآخرين؛ لأنه إنسانٌ واضح، ويركّز على مصالح المواطن الأميركي، كونه رجل أعمال، عكس الذين كانوا يتحدثون عن برامج الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية”. صرح البشير بهذا الرأي في حوار مع صحيفة الخليج الإماراتية في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
وما يُحمد لهذا الإعلان صراحته في الاعتراف بأن مشكلة نظام البشير، وبقي
ة المستبشرين بعهد ترامب الميمون، مع أميركا لم تكن عداوتها للعرب والإسلام كما كان يجهر بذلك صباح مساء، بل المشكلة هي الإنكار على هذه الأنظمة انتهاكها حقوق الأفراد والشعوب، وعدم الشفافية. هناك كذلك إشعارٌ بأن لا بأس بممالأة ترامب، وكل جبار عنيد، إذا سمح بظلم الشعوب وسلب أموالها، ولم “يحشر أنفه” في مثل هذه الأمور “الداخلية”! ولكن المفارقة أن الرئيس السابق، باراك أوباما، المتهم باطلاً بالهوس بالديمقراطية، هو الذي رفع العقوبات عن السودان في الساعات الأخيرة لولايته، أما ترامب فكان من أول أعماله تشريع حظر على دخول جميع السودانيين، في جملة مواطني سبع دول إسلامية، إلى أميركا تحت أي ظرف.
ولا بد من الإشارة هنا، ومن موقع اطلاع على خلفيات هذا الأمر، إلى أن رفع العقوبات الأميركية عن السودان تم رغماً عن الحكومة السودانية، وبأقل قدرٍ من التعاون منها، فقد كان فريق أوباما قد أرسل رسائل عدة إلى النظام، تؤكد عزمه على رفع العقوبات عن السودان،
ليضيف ذلك إلى إنجازات عهده، أسوةً بما حدث مع إيران وكوبا. وتم التوافق، بعد مشاوراتٍ مع الوسيط الإفريقي، الرئيس تابو أمبيكي، على تصميم خريطة طريق تكون إطاراً لحل نقاط الخلاف بين الطرفين. وهي، في جوهرها، تتعلق بوقف الحروب الأهلية المتعدّدة في السودان، والسماح بمرور الإغاثة لمن حاصرهم القتال، ودعم الحوار بين السودانيين لمعالجة الأزمة السياسية. وبالفعل، تم رسم هذه الخطة، والشروع في تنفيذها. وقد دعمت إدارة أوباما هذه الخطة بقوة، إلى درجة إجبار الحركات المسلحة للتوقيع عليها. وفي المقابل، فإن الحكومة السودانية قاومتها في كل خطواتها. وكانت آخر قشة هي رفض الحكومة قبول مرور الإغاثة إلى المتضرّرين. وهذه كما لا يخفى “عقوباتٌ” مفروضةٌ على مواطنين سودانيين لا ذنب لهم، وهي أشد من عقوبات أميركا التي لا تمنع ضرورات الحياة عن الناس. وما حدث هو أن إدارة أوباما ناضلت نيابةً عن الحكومة، للتوصل إلى صيغةٍ لرفع العقوبات، وتلقينها الحجة، وتجاهلت، في سبيل ذلك، مطالب الوسيط الأفريقي واعتراضات الحركات المسلحة واللوبيات المساندة لها.
وهذا يذكّرنا بأن إشكالية العقوبات الأجنبية تنبع، في نهاية المطاف، من تداعيات الوضع الداخلي، سواء أكان ذلك بغي الحكومة على مواطنيها، أو عجزها عن حشد ما يكفي من السند الدبلوماسي، يقيها غائلة الاستضعاف. ونحن، إذ نرحب برفع العقوبات، مهما كان مبعثه، فإن مبعث قلقنا هو أن هذا الرفع مؤقت لستة أشهر، ومشروط بـ “حسن السير والسلوك”. ونأمل أن نرى من الحكومة اجتهاداً في استدامة الرفع أكثر مما اجتهدت في إقراره. ولن يكون أوباما وجماعته حاضرين للاجتهاد نيابة عنها، وأشكّ في أن ترامب سيكون عند حسن (أو سوء) ظن البشير به.
النظام على نفسه وشعبه. لنأخذ السياحة مثالاً، فقد احتفل الإعلام الرسمي، قبل أيّام بخبر ارتفاع عائد السياحة في السودان من حوالى خمسة ملايين دولار عام 2005 إلى 266 مليوناً العام الماضي. ولكن هذا المبلغ الهزيل يظل معجزةً، بسبب العقبات التي تضعها الدولة في وجه السياحة، فالحصول على تأشيرة للدخول إلى السودان أصعب بكثير على غالب الزوار من حصول السوداني على تأشيرة لأميركا. والمعروف أن غالبية الدول التي تعتمد على السياحة، بمن فيها جيران السودان مثل أثيوبيا وكينيا، تسهل منح التأشيرات للسياح في المطار، إلا أن السودان الذي لا توجد له سفارات في بلدان كثيرة يتشدّد في منح التأشيرة بما لا يقبله عقل. بل فوق ذلك، من يسعد بدخول الجنة السودانية الموعودة يكتشف أنه محتاج تأشيرة أخرى، لو أراد مغادرة الخرطوم. هذا إضافة إلى صعوبة الانتقال إلى مناطق السياحة، وعدم وجود وسائل الراحة والإقامة قرب تلك المواقع. هذا فضلاً عن عدم وجود رحلات طيران مباشرة من معظم بلدان العالم.
فوق هذا، يواجه السودانيون المغتربون، وهم شريحة كبيرة من الزوار المحتملين للبلاد، الكثير من التنغيص عند التفكير في ذلك، ليس فقط بسبب التكلفة، بل بسبب الوقت المهدر في إجراءات عقيمة. وذلك على الرغم من قرار رئاسي صدر بإلغاء تأشيرة الخروج، ولكن الدولة تخالف قرارها وقوانينها علناً، وتعاقب نفسها بفرض التأشيرة من بابٍ خلفي. وهذا يزهد الغالبية في زيارة وطنهم إلا للضرورة.
أما عن المستثمرين الأجانب، فحدّث ولا حرج، فقد وصل إليّ، من دون جهد، سيل من الحكايات يكفي لتأليف كتب، حول فشل كثير من مبادرات الاستثمار بسبب فساد أو إهمال أو قلة كفاءة من بيدهم الأمر من صغار المسؤولين وكبارهم. وكانت آخر هذه الحكايات، قبل يومين، في بلد عربي أزوره، عن مستثمر خليجي قصد السودان للاستثمار في الزراعة، وانتهى به الأمر مستثمراً في أثيوبيا.
ولو توفرت الحكمة عند صناع القرار في السودان، فإن أضعف الإيمان ينبغي أن يكون إلغاء تأشيرة الخروج والدخول، وتحفيز القطاع الخاص لتحسين البنية التحتية، وتقليل المنغّصات لأبناء السودان وزواره، حتى يقبلوا على البلاد فتزدهر بهم، فالمطلوب، قبل البحث في عقوبات الخارج، العمل على رفع العقوبات الذاتية عن السودان.
العربى الجديد