السحق بالكيماوي آخر “إنجازات” النظام الإسلاموي

Darfurصلاح شعيب
لا توجد سقوف محددة للإجرام السياسي للإسلاميين الحاكمين، وغير الحاكمين أيضا. فما من وسيلة تبقيهم في السلطة إلا واتخذوها جميعهم لتثبيت التمكين، وتقطيع أوصال الوحدة الوطنية، وكنز المال الحرام في غياب شفافية المؤسسات الحكومية والخاصة. فالإصلاحيون الإسلاميون، بجانب قادة المؤتمر الشعبي، الذين ابتعدوا عن نعيم السلطة مؤخرا كانوا شركاء أصيلين في كل مسلسلات القتل، والتعذيب، والاغتصاب، وإراقة الدماء، وتسبيب الإهانة، والمذلة، للسودانيين الذين لا ينتمون لتنظيمهم. وهناك غيرها من الموبقات التي “تفنن” الإسلاميون فيها عند استهلال حكمهم، وهي بحاجة إلى رصد دراسي يعمق الفهم حول تفاهة الفكرة الإسلاموية. فالاعوجاجات السياسية، ونتائجها الكارثية التي نشهدها اليوم، ليست ممارسات جديدة حتى يندهش له قادة المؤتمر الشعبي، ومن نسميهم الإسلاميين الإصلاحيين. ففي العشر سنوات الأولى شهدت البلاد أوضاعا مأسوية لا يمكن إلا أن ينفطر لها قلب كل من آمن بالإسلام، أو تدين بكريم المعتقدات الأخرى، أو اعتنق بعض القيم الإنسانية.
لم تحم ضرورات الاستقامة الدينية المفترضة في الإسلاميين من فرض الظلم، والقهر، والكبت، طوال ف

ترة ذلك العقد الذي كان يسيطر فيه زعيمهم على السلطة. ولذلك يشك المرء في تصديق كل الإسلاميين الذين وجدوا أنفسهم فجأة في خندق المعارضة. فما قالوه، وكتبوه، عن النظام ليس كافيا حتى نصدق أوبتهم الحالية، ما دامت نظرية أسلمة الدولة ما تزال صحيحة في اعتقادهم. فقليلون جدا من منظري الإسلاميين نقدوا الفكرة باستحياء. ولكن الغالبية عوضت هذا النقد بالصمت المثير، وبأشكال من الاستظراف الاجتماعي، والثقافي، وهو ضرب من حيل الاستغفال التي يجيدها السياسي غير المبدئي. أداة هذا الاستظراف هو الاعتماد على توظيف العلاقات الاجتماعية وسط المعارضين، والانسراب في مجتمعاتهم دون تثقيفهم بنقد المرجعية التي جعلتهم قتلة، أو داعمين لمشاريع إزهاق الأرواح، والتي حصدت الملايين، ووضعت مصير وطن في حافة الانهيار.

إن أي ممارسة لأيديولوجية حاكمة تملك بالضرورة علاقة مع الفكرة الأساسية للوصول إلى السلطة. فممارسات مثل سحق المعارضين عبر التعذيب، واغتصاب الرجال، والنساء، في الغرف المظلمة في بيوت الأشباح، وصفع الطبيبات، وضرب الطلبة الإسلاميين لأساتذتهم الجامعيين، وتطبيق القانون على الضعفاء، وسرقة مال الدولة، تجد مبرراتها الإستراتيجية لدى الأيديولوجي الإسلاموي للحفاظ على مشروعه متى ما أحس بالخطر تجاهه. ولذلك ليس غريبا أن يلجأ الإسلاميون الحاكمون إلى وسيلة الضرب بالكيماوي، وقصف المواطنين الأبرياء بالطائرات في مناطق النزاع عند محاولة استهداف جنود الحركات المسلحة. فهذا النهج من الممارسة الحربية يتكامل مع أهداف الأيديولوجي السلطوي المتأسلم في سد الثغرات التي تشكل له صداعا دائما. فتجييش المليشيات القبلية الذي تم في دارفور بالتعاون مع جهاز الأمن هدف إلى تمزيق النسيج الاجتماعي ثم السيطرة على بر دارفور، وإنهاء أي سلطة حكومية أخرى. أما عبر جو الإقليم فالطائرات المحملة بقاذفات البراميل، والسلاح الكيماوي، تحوم فوق قرى الآمنين من مسافات بعيدة ثم ترسل شواظ اللهب التي لا تفرق بين إنسان مسالم، أو معارض مسلح، أو حيوان، أو زرع. وهذه الخطة ظلت ديدن الحكومة منذ توقيع وثيقة الدوحة التي دعمتها الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، والأفريقية، وبعض دول المحيط العربي. وبطبيعة عقل الانتهاز السلطوي الإسلاموي فقد استغلت الحكومة هذا الدعم لمشروع السلام الزائف في دارفور لتنفرد باستباحة الإقليم على ما لحق مواطني قراه، ومدنه، من كوارث. وتزامن تنفيذ هذه الاستراتيجية الحربية مع إراقة دماء مواطنين في النيل الأزرق، وجنوب كردفان، أثناء بحث الميج عن جنود الحركة الشعبية وسط المواطنين.

-2-
حتى الآن تشير المؤشرات كلها إلى أن الحكومة ستواجه وضعا صعبا أمام رغبة أطراف من المجتمع الدولي لإجراء تحقيق مستقل لمعرفة الحقيقة حول استخدامها السلاح الكيماوي. والثابت أن السودانيين ليسوا بحاجة إلى الانتظار لتقرير دولي لمعرفة جرم الحكومة قبل ما سيسفر عنه من صفحات إدانة. فما حدث في دارفور من إبادة جماعية، وجرائم حرب، وانتهاكات تتعلق بحقوق الإنسان في بقية مناطق النزاع موثق، ويمكن الرجوع إلى التقارير المحلية، والعالمية، للمنظمات المعنية بشأن هذه الأحداث الدامية. إن هذه الجرائم ناتجة عن ثنائية جهاز الأمن والمليشيات المدعومة حكوميا، والتي ظلت تحكم الإقليم منذ اندلاع الحرب، وذلك ما قاد إلى توجيه المحكمة الجنائية الدولية الاتهام للبشير، وأركان حربه، وحزبه. فضلا عن ذلك فإن غياب السلطات السياسية لولاة الإقليم الخمسة، والذين هم مجرد دمى بشرية تأتمر بأمر الأمن، قد ساهم في تمزيق أمن دارفور، ووحدتها. فهؤلاء الولاة عجزوا حتى عن ضبط المليشيات المسلحة التي بيدها القانون، وتمارس الانتهاكات تحت سمعهم ونظرهم في عواصم الولايات نفسها. ضف إلى ذلك إلى أن ما تسمى السلطة الإقليمية لم تكن لديها فاعلية، أو نفوذ، وبدت طوال تأسيسها شكلا ديكوريا لا سلطة لها على ولاة، أو محافظين، أو معتمدين، أو نظاميين. وهذا الوضع الذي يتم تحت سمع، وبصر، اليوناميد، عزز من فرص جرائم الاغتصاب اليومية التي تطال الآمنين في القرى، والتعدي على أراضي المزارعين، واختطاف الأفراد، واغتيال الأشخاص المشكوك في تأييدهم للحركات المسلحة، أو اختطافهم المواطنين ثم المطالبة بفدية لإطلاق سراحهم. بل إن هذه المليشيات كثيرا ما اقتحمت السجون، والمحاكم، لإطلاق سراح أفرادها المتورطين في جرائم قتل، أو اغتصاب، أو قطع الطريق. وكل هذا الحال المأسوي في دارفور يتواكب مع معاناة حياتية قاتلة لأهل المعسكرات، والمواطنين، على حد سواء.

-3-
إن الجرائم التي ارتكبتها الحكومة في مناطق النزاع معروفة منذ بدء الحرب فيما ظلت شهادات الضحايا تترى عبر وسائط الميديا الحديثة. بل إن جرائم الحكومة في العاصمة المثلثة لا تحتاج إلى إثبات. فضحايا سبتمبر لا يزالون يبحثون عن عدالة بعد أن جندلتهم صرعى رصاصات أفراد الأمن. كما أن قتل الطلاب الجامعيين مما لا شك فيه، بجانب تعذيب المعارضين الذي ما أنفك يمثل نهجا واضحا لجهاز قوش ومحمد عطا. ولعل المجتمع الدولي يدرك كل جرائم الحكومة التي تعلقت باستخدام الكيماوي، أو غيره من الأسلحة الفتاكة. ولكن أطرافا فيه مثل روسيا، والصين، ظلت تفضل الصمت. ولقد تبعتهما الدول الأوروبية، والولايات المتحدة بعد انعقاد حبل التعاون الاستخباراتي والأمني الذي ميز العلاقة بين نظام البشير والحكومات الغربية. وأيضا ما شجع المليشيات القبلية، وجهاز الأمن على الاستباحة التامة لدارفور، لدرجة استخدام السلاح الكيماوي في دارفور هو تقاعس المجتمع الدولي عن دعم إجراءات المحكمة الجنائية الدولية للقبض على البشير وأعوانه. وعوضا عن ذلك فقد صار المجتمع الدولي يغدق الملايين من اليورو، والدولارات، على النظام الإجرامي لإيقاف الهجرة الأفريقية إلى أوروبا، وتدريب كوادره التي تسهم في صناعة الموت. وقد اشرنا من قبل إلى أن المجتمع الدولي يبحث عن مصالحه التي تمثل أولوياته، ولذا يجب ألا يعلق القادة السياسيون عليه الآمال العراض، وألا يغضوا الطرف عن الاعتماد على عون الحراك الداخلي. ولكن ما يزال بعض هؤلاء القادة المعارضة يجري وراء دول الترويكا لإيجاد مخرج للأزمة الوطنية.

لقد عبرت قطاعات سياسية معارضة عن شجبها الواسع لاستخدام الحكومة السلاح الكيماوي في جبل مرة، والذي أدى إلى وفاة ما يقارب الثلاثمائة شخصا. ولكن ما يؤسف له أن عددا كبيرا من أبناء دارفور المعارضين المنخرطين في حوار المؤتمر الوطني استلزموا الصمت تماما، فهم ما يزالون يعلقون الآمال على البشير بأن يقود السودان ودارفور إلى بر الأمان!. والحقيقة أن هذه المواقف الصامتة تعبر عن قطاع انتهازي من مثقفي الإقليم الذين ظلوا يتاجرون بقضاياه للوصول إلى السلطة، وتنمية نفوذهم القبلي، والشخصي. بل إن هناك عددا كبيرا من حملة السلاح الموقعين على اتفاقات مع الحكومة صار يسترزق بوجوده داخل السلطات المركزية، والإقليمية، بعد أن أوقدوا نار الحرب التي قتلت من قتلت من أقاربهم، وقبائلهم، ثم قذفت بالأهل في المعسكرات. أما إسلاميو دارفور في السلطة الذين ما يزالون يتوهمون أنهم فاعلون في المشاركة السلطوية المركزية فلا يهمهم أن تتمزق دارفور، أو تضرب قراها بالكيماوي ما دامت تطلعاتهم الشخصية قد تحققت في حيازة الثروة، والسلطة، والنفوذ. وما يزيد الطين بلة أن الحرب أوجدت انقسامات عرقية بائنة وسط مثقفي، وناشطي، دارفور، فضلا عن تعويقها إمكانية اتحاد الدارفوريين تحت مظلة واحدة للتعامل مع الأزمة. ولقد نجح النظام في استمالة عدد من أبناء القبائل لدعمه ضد أخرى ما أنتج تشظيا في النسيج الاجتماعي، وإحباطا لدى المستنيرين الذين لا يملكون أجندات قبلية، وينظرون لمعالجة أزمة دارفور من زوايا موضوعية.
إن مأساة دارفور التي أنتجها المثقفون الإسلاميون الحاكمون المستعينون بنهج جرائم الحرب، واستخدام السلاح الكيماوي ضد مواطنيهم لتحقيق سيطرتهم الديكتاتورية، يجب أن تكون فرصة للإسلاميين الإصلاحيين لنقد مرجعية الإسلام السياسي، بدلا عن نقد زملائهم فحسب. فالأيديولوجية الإسلاموية التي بررت التعذيب في بيوت الأشباح، واغتصاب، وقتل، المعارضين وفقا لفتاوى دينية إن لم تراجع بانتقادات حادة بمستوى الجرم المرتكب فإنها لن تكتفي بقتل أطفال، وشيوخ، جبل مرة بالكيماوي.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *