السيدات والسادة، الحضور الكريم
تحية طيبة،
قبل أيام، في الثالث والعشرين من أبريل الماضي، مرت علينا الذكرى التاسعة لرحيل قائد وزعيم ومؤسس حركتنا المفكر الفذ والمناضل الجسور الراحل المقيم والخالد في ذاكرتنا ووجداننا أبداً، الخاتم عدلان. ويشرفنا تماماً أن نحتفل بذكرى الخاتم هذا العام مع أهلنا ومواطنينا في أمبدة، المقيمين والنازحين، الرجال والنساء، الشيب والشباب. كما يسعدني أيضاً أن أرحب في هذا الاحتفال وهذه الندوة بزملائنا الأساتذة والقادة المناضلين، الدكتور جبريل ابراهيم رئيس حركة العدل والمساواة، الآستاذ عبدالواحد محمد نور رئيس حركة تحرير السودان، والأستاذ مني أركو مناوي رئيس حركة وجيش تحرير السودان، والأستاذ ياسر عرمان الأمين العام للحركة الشعبية شمال. إن احتفائنا بذكرى الخاتم إنما هو احتفاء بنضاله الشرس، بمواقفه الجريئة والصلبة والمصادمة، بصلابته وشجاعته وجسارته واستقامته، وبتقدمه الصفوف في كل منعطف وفي كل “حوبة”، وهو في كل ذلك إنما كان يؤسس للقيم والمثل العليا التي بها تهتدي حركتنا.
على ذكر وقف الحرب لدي رسالتان صغيرتان أود أن أوجههما أولاً:
أولاً: تناقلت الأنباء قبل قليل أن قادة الحرب في دولة جنوب السودان قد وقعا اتفاقا يسري اعتباراً من الغد على اتفاق يقضي بإيقاف الحرب، وتكوين حكومة انتقالية تشرف على إجراء انتخابات. في هذا نهنئ إخوتنا شعب جنوب السودان، ولا نقول شكراً لأي من قادة الحرب هناك، وإنما نقول شكراً لضغوط المجتمع الدولي وهراوته الغليظة وتهديداته المغلظة بالمحكمة الجنائية الدولية، والتي نجحت في أن تجبر هؤلاء القادة على التوقيع على السلام ابتغاء السلامة، بعد أن عجزت أنهار الدماء التي سفكت وعشرات بل آلاف الضحايا من أبناء شعبهم الذين أزهقت أرواحهم، من أجل صراع بغيض على السلطة، عجزت أن توقظ ضميرهم.
ثانياً: باسمكم جميعاً وباسم حركة القوى الجديدة الديمقراطية (حق) أوجه التحية لشابة جسورة من المغرب، اسمها عائشة البصيري، كانت تعمل في بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور (اليونيميد)، وحينما رأت تستر تلك البعثة على جرائم النظام وتآمرها معه ضد المدنيين الأبرياء في دارفور، أبى لها ضميرها الحي أن تسكت، فاستقالت وحملت وثائقها معها تبحث عن العدالة ضد الجريمة التي يشارك فيها المجتمع الدولي ضد مواطني دارفور. إننا نتوجه لها بالتحية ونعلن تآزرنا التام معها ومع ضميرها الحي.
إن لنا الشرف في حركة القوى الجديدة الديمقراطية (حق) أن نقيم أول ندوة جماهيريه لنا في مدينة امبده. إن اختيارنا لأمبدة لم يكن عبثاً، وإنما لما ترمز إليه هذه المدينة، والتي تضم أكبر تجمع سكاني لمواطني الهامش من دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق، من علاقة خاصة بموقف حركتنا من قضايا الهامش العادلة، وبموقف حركتنا المناهض للتهميش سواء على أسس اقتصادية وتنموية تتعلق بالموارد، أو أسس عنصرية تتعلق باللون والثقافة والهوية. ونحن على ثقة أن اختيارنا الاحتفال بذكرى الخاتم هذا العام بينكم هنا في أمبدة، ومع هذه الرفقة من الزملاء والمناضلين، هو اختيار سيثلج صدر الخاتم. لقد كان المهمشون وضحايا الظلم والإقصاء والحروب في صدر أولويات الخاتم وهو يصيغ برنامج حركتنا، وفي ذلك يقول الخاتم:
” ان التجربة التاريخية, والعالمية الواسعة, توضح أن النازحين الى المدن، وهم بالملايين، لا يرجعون الى ” موطنهم الاصلي ” كما يتصور بعض السياسيين او بعض الخائفين على فوائضهم من الثروة، او بعض المتشبثين ” بنقاء” المدينة السودانية الشمالية، وطابعها العربي او الاسلامي. ان هؤلاء النازحين في غالبيتهم الساحقة لن يعودوا. فقد انتظروا الحداثة عقودا طويلة من الزمان ولكن الحداثة لم تشرف في ديارهم، فجاءوا بأنفسهم الى مواقع الحداثة. اليسوا هم الأخف!! وانتظروا التقسيم العادل للثروة والسلطة، فلم يطرق ذلك ابوابهم، فجاءوا الى حيث يمكن ان يجدوا نصيباً مهما ضؤل من هذه الثروة والسلطة، أو على الاقل ليذكروا الظالمين والاقوياء بوجودهم على قيد الحياة. ولن يرجعهم أحد، ولن يمنعهم احد من العودة بعد أن عرفوا طرقها حتى ولو تضافرت عليهم ” الكشات ” وقام عليها عتاة شداد من الامن والشرطة والجيش. إن السياسي المؤمن بالعدالة الاجتماعية وبالتعددية العرقية والدينية والثقافية يجب ان يرسم خططه ويصوغ برامجه على أساس أن هذه الملايين جاءت لتبقى، وأن لها حقا في التعليم وفي العلاج وفي السكن وفي العمل وفي التملك. وأن هذا السياسي سيبدأ بداية صحيحة اذا نادى بالاعتراف بوجود هؤلاء ودعا الى تمليكهم جميعا قطع الارض التي يسكنون عليها عشوائيا حاليا، وتخطيط هذه المدن الجديدة وادخال الخدمات الاساسية اليها، واذا سعى الى تنظيم هذه الجماهير نفسها لتدافع عن البرنامج الذي يطرحه امامها وان يشركها في صياغة هذا البرنامج.” هذا هو برنامج الخاتم، وهذا هو برنامجنا، وهكذا نقدم أنفسنا إليكم، وسنعمل على أن تقبلونا بينكم وممثلين لكم.
الرمزية الثانية هي احتفاؤنا بذكرى الخاتم بندوة حول “السلام والمصالحة: وقف الحرب أولآ” وفي مدينة امبدة. لقد قصدنا أن تفتح النقاش حول قضية السلام والمصالحة والحرب في مدينة امبدة، لأن سكان مدينة امبدة بشكل خاص هم من اكثر المتضررين من الحرب بإعتبار ان لمعظمهم امتددات وصلات قربة واهل في مناطق الحرب في دارفور والنيل الازرق وجبال النوبة، أو أنهم أصلاً نزحوا من هناك بسبب الحرب. إن قضية الحرب والسلام هي القضية الأولى في السودان. لقد كانت كذلك وستظل هكذا إلى أن نصل إلى سلام عادل يخاطب المشاكل في جذورها. ولكن للأسف، ولأسباب كثيرة، على راسها بالطبع، قضايا الهوية والتحيزات العنصرية السقيمة، فالحرب التي لا تزال تدور رحاها وتهلك النسل والحرث في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، تحت همجية القصف بكافة أنواع الأسلحة والقنابل بما يشمل المحرمة دولياً وفق ما تورده جهات إعلامية متعددة، هي قضايا من الدرجة الثانية والثالثة والأخيرة، وضحاياها لا يمتون إلينا بصلة. لقد جئنا إليكم لنتحدث عن هذه القضية، وفي حضور قادة الجبهة الثورية، لأننا نعلم أنها قضيتكم الأولى، ولن نكف عن الحديث حتى تصبح هي قضية السودان كله الأولى.
إن رسالتنا لكم يا مواطني أمبدة واضحة: يا أهلنا من بنات وأبناء الهامش في مدن المركز وعلى أطرافها، نحن جميعاً شعب واحد ونسيج واحد. أنتم هنا لستم أغراباً ولا ضيوفاً ولا مهاجرين، أنتم مواطنون، أنتم أهل بلد وهذه أرضكم وبلادكم، ولكم فيها من حقوق المواطنة “المسلوبة” مثلما لاهل المركز. إن هذا النظام، نظام الإنقاذ، يحاول أن يصنع منا شعوباً وقبائل لا لنتعارف ونتآلف، وإنما لنتقاتل. لقد أجبركم هذا النظام على ترك دياركم وقراكم الأصلية وأجبر من تبقى منكم، تحت وابل القذائف والقنابل وحروب الإبادة القذرة وإحراق الأخضر واليابس وتدمير الحياة، على الرحيل والنزوح إلى أطراف وأصقاع تنتفي فيها أدنى شروط العيش الآدمي. ليس ذلك فحسب، وإنما عمد أيضاً إلى زرع الفتنة بإيهام سكان المدينة بأنكم تتربصون بهم تتحينون الفرصة للانقضاض عليهم وسلب ممتلكاتهم وإشاعة القتل والتخريب، وكذلك بإيهامكم أنتم أيضاً بأن عدوكم إنما هم سكان تلك المدن، لا النظام. لقد آن الأوان لنقول لهذا النظام أن خدعته قد أصبحت بالية، وأن الذي يسقط القنابل الحارقة على قرى دارفور وجبال النوبة وأحراش النيل الأزرق، هو نفسه من يطلق الرصاص في شوارع الخرطوم وجامعاتها وأحياء أمدرمان وربوع مدني. تبقى الحقيقة الناصعة هناك شعب واحد هو الشعب السوداني بكل جهاته وقبائله وعشائره وعناصره، ضد عدو واحد هو نظام الإنقاذ بكل طغيانه وبشاعته وجرائمه.
طوال ربع قرن هو عمر الإنقاذ الآن، شهد النظام تغيرات كثيرة ، ولكن شيئاً واحداً لم يتغير، و هو وجود حرب أهلية وعدو يتم التجييش ضده و قمع الحريات باسم محاربته، مهما كانت نوعية هذه التعبئة و التجييش، سواء أن كانت تعبئة دينية جهادية كما حدث في الجنوب، أو تعبئة عنصرية كما يحدث الآن، ولا يستطيع هذا النظام أن يعيش بلا حروب،لأنها محور تماسكه و جوهر مشروعه. لقد قلنا وسنظل نكرر أن الحرب هي خيار هذا النظام المفضل، لأن النظام لا يملك أي حل للمشاكل والأزمات العميقة والطاحنة والتي تنداح دوائرها، وتشتد قبضتها كل يوم في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والخدمية.
لقد خبرت بلادنا الحرب والحروب جيداً. فالحرب الأهلية الأولى في بلادنا، والتي تعاظمت ويلاتها على مدى أربعين عاماً لتكون أطول الحروب في إفريقيا والعالم المعاصر، قتلت أكثر من مليونين من البشر، وشردت داخل الوطن وخارجه أكثر من اربعة ملايين، وحولت حياة الآخرين الى جحيم، ودمرت البيئة والبنيات التحتية الهشة والضئيلة في الجنوب، واجهضت كل محاولة للتطور والنماء ومزقت النسيج الاجتماعي علي المستوى الوطني. لقد انتهت تلك الحرب بتقسيم الوطن وانفصال الجنوب، ولكن يبدو أن ذلك الثمن ليس كافياً بعد إذ خسرنا الجنوب ولم نكسب السلام. الحرب ليست في مصلحة الوطن ولا مصلحة للشعب فيها بتاتاً. لقد كانت الحرب، ومازالت، هي المصرف الأساسي والضخم لإهدار الثروة الوطنية، وهي قطعاً ليست في مصلحة المهمشين من أبناء وبنات الشعب الذين هم وقودها وضحاياها، لأنها تلغي من قائمة الأجندة الوطنية قضايا التنمية والتطوير والعمران، وتوفير الحاجات الأساسية، وبناء المدراس والمستشفيات والبيوت وصياغة المناهج وتوفير العلاج والدواء، وإقامة الاسواق، والتوسع في الزراعة وبناء المصانع، واللحاق بركب العالم، فضلا عن حريات التنظيم والتعبير والحراك والديمقراطية وحقوق الإنسان.
نعلم أن الموضوع الذي يشغل الحركة السياسية الآن، في شقها المدني، هو موضوع الحوار، أي الحوار مع النظام، وسأعود لهذا، ولكن لا بد من أن نقول بأعلى الأصوات أنه لا يمكن لنداءات الحوار أن تسمع وسط دوي المدافع، ولايمكن لتلك البطاقات أن تقرأ في ظلمة القصف والقنابل الحارقة. لايمكن أن يتحدث الناس عن أي شيء والموت يحدق بهم من كل جانب ويفنيهم في كل لحظة. لابد من وقف الحرب أولا، إن كانت دعوة الحوار جادة. هذه ليست مزايدة، إلا بالنسبة للذين لا يعني حق الحياة بالنسبة لهم شيئاً، لأن حياتهم هم فقط ليست في خطر وليست على المحك. هؤلاء لا يعنيهم شأن المواطنين السودانيين العاديين المهمشين وضحايا الإقصاء في الكهوف والجبال وأصقاع دارفور. قبل فترة ليست طويلة تحدثت عن الممارسات السياسية السودانية التي لا تقيم وزناً لحياة الناس ولاتكترث لمصائبهم ومآسيهم وما يحيق بهم، وقلت ” كم يا ترى من المواطنات والمواطنين السودانيين فقدوا حياتهم وهلكوا في خلال هذه السنوات الخمس فقط، دع عنك ما سبقها من عقود، كم طفل فقد أبويه؟ كم شاب في مقتبل العمر فقده أهله؟ كم أم ثكلت، وكم أب تمزقت نياط قلبه؟ بفعل الحروب الهوجاء والصراعات والنزاعات المسلحة المستمرة في كل أصقاع الوطن، أو ما تبقى منها، نطفئها هنا لتشتعل هناك، ونخمدها اليوم لتندلع غداً؟ كم ماتوا بفعل الأوبئة والأمراض المستوطنة، بل وبالأمراض البسيطة أيضاً، وكم من الأمهات غادرن هذه الحياة وهن يهبنها في غرف الولادة الملوثة؟ كم من الأطفال يهيمون على وجوههم، بيوتهم الشوارع، ومأواهم الخيران والمجاري، بلا تعليم ولا مستقبل، وكم طفل تسرب من الدراسة البائسة، أو أخرجه أبواه منها لعدم قدرتهم على تحمل المصاريف؟ كم من مئات الآلاف، بل والملايين من الشباب، أضيفوا لصفوف البطالة، وتغلق أمامهم أبواب الحياة الكريمة يومياً؟ كم من النساء اغتصبن في مناطق الحروب والنزاعات، وكم من الفتيات جلدن وأهينت كرامتهن بفعل قوانين النظام العام الحقيرة؟ كم وكم وكم؟؟؟؟؟ كم من الخسارات الفادحة على مختلف الأصعدة؟ كم من الفرص المفقودة والمهدرة؟” اتهمني البعض بأنني إنما أتملق مشاعر الجماهير! لقد فقد هؤلاء الصلة ليس بالجماهير فحسب، وإنما بالحياة ذاتها. أنهم يعيشون في خيالات من ماض كئيب ليس إلا.
لقد قلنا رأينا حول عملية الحوار هذه من قبل وهو يتلخص في الآتي:
أولاً: لقد اطلق النظام دعوته الملتبسة للحوار لأسباب تتعلق به هو نفسه، ولا تتعلق بالأزمة الوطنية الشاملة. المقصود من هذه الدعوة هو حل أزمة النظام وليس حل الأزمة الوطنية ودليلنا على ذلك بكل بساطة هو أن هناك قضايا حلها في يد النظام بصورة كاملة ومطلقة ولا يحتاج النظام للتفاوض مع المعارضة ولا مع أي جهة أخرى للتوصل إلى حلول لها وتنفيذها.
ثانياً : المدخل الصحيح لعملية الحوار يتم عبر إيقاف الحرب أولاً. هدفنا من الحوار ليس مشاركة في السلطة بأي صورة كانت، وإنما تحقيق السلام، وإنجاز التحول الديمقراطي التام، وفتح الباب أمام حلول للأزمة الاقتصادية المستحكمة بما يحقق الحد الأدنى من الحياة الكريمة لشعبنا ويوفر له الخدمات الاجتماعية والأساسية، وإيقاف الفساد واستعادة موارد البلاد المنهوبة. لهإنجا
ثالثاً: النظام لا يحتاج للتفاوض مع المعارضة حتى يلتزم هو بنصوص دستوره، لا المعارضة ولا أي جهة أخرى تمنعه من ذلك، وإنما هو نفسه الذي نكص عن الالتزام والتقيد بدستوره، بإصداره عمداً لقوانين تخالف الدستور، وبتعمده استمرار سريان قوانين تتعارض مع الدستور، وبقيامه بممارسات وإجراءات تنتهك الدستور انتهاكاً واضحاً وصريحاً. إذا كان النظام جاداً في دعوته للحوار فليعلن التزامه التام بدستوره هو نفسه، وليقم بإلغاء كل القوانين والإجراءات والممارسات التي تتعارض مع الدستور. المسألة واضحة وفي غاية البساطة، كيف نأمن أن النظام سيلتزم بأي اتفاق مع أي طرف، إذا كان هو غير مستعد للالتزام بدستوره نفسه؟
في الختام، أتقدم لكم مرة أخرى بشكري الجزيل وأكرر امتناني لحضوركم ندوتنا واحتفالنا هذا
ودمتم