ساعي الريال المقدود
رواية تحكي عن الإستعرب القسري والطمس الثقافي في جبال النوبة
مبارك أردول
الفصل الأول : دكركوري والمدرسة.
ينهض دكركوري مبكراً من نومه وهو في نشاط عالي لإستقبال اليوم الجديد والذهاب الي المدرسة.
المدرسة التي أراحته من سرحة العجال وتنظيف التبريب يومياً، والحرص على عدم إختلاط العجال بأمهاتهم قبل حلبهم في المساء.
المدرسة التي يعتبرها تجمع كبير لكل أصدقاءه وحتى بنات الحلة الذين يندر الإلتقاء بهم في مكان واحد يومياً.
دكركوري فجأة تذكر إنه نسي رد التحية للأفندي عندما يدخل الفصل ويقول لهم بصوته الجهور ” السلام عليكم ” باللغة التي لم يسمع بها من قبل.
أصابه شيئ من الفتور والتثائب وبداء يسترجع ذاكرته محاولة لتذكرها ولكن يا لخيبته لم يستطيع.
إستمق وإسترجع يديه خلف ظهره ممدداً بطنه الي الأمام وهو يبحث عن فردة نعاله التي سحبها الجرو الذي يسبق دكركوري في النهوض باكراً.
خرج وإذ به يقابل والده فقال له والده جرا ” نمت كويس”.
لم يرده له بالصورة المعهودة أأنق … كنكو جركالو ” بخير وكيف أصبحتم”.
نظر اليه والده مردداً مالك يا ولد من الصباح.
قال له لقد نسيت كيف أرد للأفندي عندما يدخل لنا في الفصل.
ويستمر الحوار الصباحي بين دكركوري ووالده أندوكان باللغة المتخلفة كما قال لهم الأفندي جادالله في طابور الأمس.
حاول أندوكان مساعدة إبنه فسأل جاره نينونق.
ولكن نينونق صمت حيناً وهو يحاول تقليد الفكي جيلي الذي يدرسهم الدين في خلوة المساء.
ضرب نينونق أخماس في أسداس وقال قبل شوية كنت متذكرها ولكن أه… أه… أه.
دا كلو من الوالد الشقي دا ضيع لي المنجل وزهجني من الصباح.
ويستمر نينونق في ضرب جبهته محاولة للإتصاف بالمثقف الذي ألم بلغة المثقفيين كما قال لهم الفكي جيلي عندما جمعهم لأول مرة في شجرة الجميز التي أصبحت مقر للخلوة مؤخراً.
لقد تاكد أندوكان بأن نينونق ليس أفضل منه بأي حال من الأحوال لن يستطيع مساعده إبنه ولن يتركه يذهب لشخص أخر.
تستمر رحلة البحث عن الرد للأفندي ويذهبوا للجار الثاني والثالث و.و.و.و. والسابع بدون فائدة.
ولكن أخيراً يتذكر دكركوري ويقول يابة … أنا سمعت إنو جارنا دااااك كلتان جاء من الدلنج أمس.
يقول أندوكان كلتان ولد بوقين جاء من الدلنج.
وكلتان حا يعمل شنو.
وهو زاته بعيد مننا خالص.
دكركوري لالا لقد رايته سافر ليبتاع قطنه ولاذم يكون عرف كيف يتحدث مع البشكتب (الباشكاتب).
ولو مشيت ليهو ما حاتقدر تمشي المدرسة الليلة.
يفكر دكركوري مليئاً ما بين الذهاب الي المدرسة دون معرفة الرد .
أو التأخر منها بعدما يعرف كيف يرده للأفندي.
دكركوري يحسم أمره ويذهب الي بيت كلتان البعيد ليجد الرد على الأفندي.
يدخل دكركوري ليجد كلتان في حوشه مع أسرته.
كلتان أصبحتوا كويسين.
منو إسمو كلتان هنا يا زول، يردد كلتان.
دكركوري مستغرباً مش إنت ولا أنا غلطان.
أيوة غلطان، أنا أسمي سليمان ومن يوم الليلة ما داير أسمع إسم كلتان دا تاني.
وكلم معاك كل ناس حلتكم المتخلفيين ديل وقول ليهم بأسمي الجديد دا.
طيب أنا جيت أسألك، كيف نرد للافندي عندما يقول لنا ” سلم ليكم”.
سليمان، وقت يقول الأفندي السلام عليكم وانتو تقولوا “مرهب”.
دكركوري، لا ما كدا كلام طويييل .
سليمان مستدركاً … أيوة أنتوا قولوا “ألكيم سلام ورمة الله وبركته”.
يتعجب دكركوري من فصاحة كلتان ويعتقد جازماً بأن الذهاب الي المدينة مرة واحدة كفيل بجعلك من الفصيحين.
ظفر دكركوري بثلاثة اشياء من زيارته لكلتان، هما ردين للأفندي، الأول وهو الأساسي الذي ردده لهم الأفندي وقاله له كلتان، والثاني هو ما قاله له كلتان زمان وسليمان الأن “مرهب”، أما الثالث هو ما لم يخطر بباله ولم يتصوره إطلاقاً إن سليمان هو الإسم الجديد لكلتان بعدما بلغ الأربيعنيات من عمره.
توجه سريعاً الي المدرسة بعد جولة من الحوارات المرهقة للبحث على كلمة وعليكم السلام ورحمة الله تعالي وبركاته
ظل يردد على طول الطريق من بيتهم الي المدرسة وهو مسرعاً ،،، أليكم سلام ورمة الله وبركته ،،، أليكم سلام ورمة الله وبركته ،،، أليكم سلام ورمة الله وبركته ،،، أليكم سلام ورمة الله وبركته ،،، متحملاً عثراته على الحجارة المرصوفة منذ الخليقة على طول الطريق الجبلي الوعر وبشكل عشوائي حتى ميدان المدرسة، ظل يرددها حتى لا ينساه كالأمس.
صمم علي ترديها دون إنقطلاع الي أن يدخل عليهم الأفندي ليردوا له تحية الصباح عندما يدخل عليهم في الفصل (الكرنك) ذلك الكوخ المبني من القش والحطب وهو حاملاً كتاب المطالعة الأول وطباشير وحزمة من أصواط شجر العرد ليضرب بها كل من عصى وخالف توجيهاته، دكركوري متشوق لرد التحية للأفندي مع زملائه في تناغم ولحن جماعي وهم يتمايلون يمنة ويسرة بأصوات مختلفة لأختلاف أعمارهم منها مضخمة ومنها ناعمة وأخرى رخيمة.
وصل دكركوري إلي المدرسة ووجد الكل في طابور الصباح رائ عدد من زملاءه في منتصف الطابور يتجادلون بحدة يرددون بلغة عربية دارجية ركيكة ” دا ما أنا الله وايد ” ويرد الأخر “دا ههههو جاتو” والكل يشير بأصبعه للأخر، يقف الأفندي بالقرب منهم وكأنه في إنتظار ما يسفر عنه الحوار، تصلب في مكانه يريد أن يعرف سبب الجدال، ” أنت هناك الواقف زي ديك الصباح دا تعال هنا ” زجره أحد الأفندية كان يقف لمعاقبة كل من تأخر من حضور الطابور الصباحي، تحرك مرعوباً ملبياً نداء الأفندي.
الأفندي قريب الله يسأل دكركوري ،،، لماذا تأخرت يا ولد.
يتلعثم دكركوري محاولاً قدر الإمكان الإجابة للأفندي قريب الله وشرح له سبب التأخير دون أن يقطع نشيده وكوراله الصباحي أليكم سلام ورمة الله، قرر أن يصمت ويعاقب على تأخيره مرة دون أن يعاقب مرتين في أن واحد.
تألم دكركوري من شدة الصياط الثلاثة التي أوقعها الأفندي قريب الله على يديه الخشنة من تسوية وسد شقوق التبريب في فصل الشتاء الغارس، كان العزاء الوحيد لدكركوري إنه لم ينقطع من ترديد المقطوعة الصباحية، تحدث في نفسه عن ذكاءه وسرعة تفكيره بأنه قرر في لحظة ضيقة إختيار الثلاثة صياط من أستاذ قريب الله بدلاً من العشرة سياط من أستاذ الله جابو والذي تأكد من إنه حتماً سيعاقب بها إذا تهور وشرح لأستاذ قريب الله سبب التأخير مجتهداً بلغة خليطة ومكسرة.
كان الجدال الحاد وسط الطابور بين زملاءه كل من ويلتان وبكمان ودكلاة وشليا و وزميلاته أجرشي و وايبيل ومنودانق ومن على البعد تقف إيديين محتارة.
من خلال الجدال إستطاع دكركوري يستنتج إن يوم أمس كانت إيديين كانت تحمل الريال المقدود لأنها سلمته لصديقتها منودانق عندما قالت لها مازحة ” أندو نيدو” أي يا حمارة وهي كلمة تردد على النساء اللاتي يتصفن بالغباء الزائد، لم تتمالك إيديين نفسها إلا وسلمتها الريال المقدود بحضور عدد من زملاء الفصل.
منودانق لم تلتفت في ذلك اليوم الي حصصها الدراسية، ظلت في حالة هم وتجسس دائم على كل زملائها وزميلاتها في شجرة الجميز الذي تفترش عنده بائعات الحلوى والطعمية، منودانق تريد أن تستمع لأحد منهم أو منهن يتحدث أو تتحدث باللغة المحلية لكي تملص له أو لها هذا الريال الذي قداهو حضرة الناظر سعدالله في وسطه عمداً حتى لا يبتاع به في سوق الحي، أصبح هذا الريال المقدود مشهوراً شديداً في الحي يضاحي شهرته وصيته شهرة ناظر المدرسة بل ضاحي حتى شهرة شيخ ومك القبيلة وإستطاع أن يكون مجال الحديث عنه وعن سيرته في كل مجالس الحي مثل تداول الحديث عن سيرة السيد مامور المدينة.
أخيرا في زقاق ميس الأفندية الملاصق مع الفصل السادس سمعت منودانق زميلاتها أجرشي تتحدث الي وايبيل وهن منغمسات عن ما دار في سوق الأثنين عندما ذهبت مع أمها لبيع الموليتة والعرديب، سمعت منودانق كلام أجرشي وكذلك رد وايبيل لم تتردد فقالت لهم ” ألقيتكم ” أي وجدتكن.
سلمت منودانق الريال لأجرشي بعد محاججة طويلة ولكن إستطاعت أجرشي أخيراً إقناعهن بأنها لا تنكر حديثها بلغتها ولكن أخر كلمة كانت من فم وايبيل لانها رددت على حكاوي أجرشي بالإيجاب لتخبرها بأنها متابعة لقصة سوق الأثنين، إتفق الجميع أخيراً بأن تستلم أجرشي الريال من منودانق وتسلمه لوايبيل مباشرة، رددت وايبيل كل كلمات الهجاء والأستياء وكذلك عدم الرضاء لزميلتها أجرشي التي خدعتها وقالت لها إن هذا المكان أمن ولا يعرفه ساعي الريال المقدود ليجدهن متلبسات يتحدثت باللغة المحلية التي يتقن قواعدها ويفصحن عندما يتحدثن بها.
وايبيل سلمت الريال المقدود الي لشليا وبعد إجتهاد سلم شليا الريال الي دكلاة وفي الحال ناوله دكلاة الي بكمان الذي لم يكمل أسبوعه الثاني في المدرسة، بكمان الذي ظل صديقاً وفياً وراتباً لهذا الريال وربما ظل لا يتذكر شئ في المدرسة سوى قصصه مع الريال وسعيه يومياً للنتصل منه أو إبتعاداً من ساعيه.
في ذلك اليوم لم يجد بكمان شخص ليتنصل من هذا الريال فخاف أن يكون هو الأسد الذي إذا وجد عنده الريال المقدود في طابور الصباح سيأخذ النصيب الأكبر من العقاب أكثر من الأخرين أصحاب السلسلة كما يطلقه عليهم الناظر سعدالله، إنتهى اليوم الدراسي وحمل بكمان شنطته وبحوزته الريال المقدود لكنه لم ييأس أبداً من التنصل، ذهب الي البيت عابر بالخور بدلاً من الطريق العديل لكي لا يحس به أحد، بكمان كان يعلم إن زملاءه سوف يتحدثون باللغة المحلية وهم في طريقهم للبيت عندما يتأكدون بأن ساعي الريال المقدود ليس بينهم، سوف يتحدثون باللغة الممنوعة بقرار ناظر المدرسة رقم واحد بموافقة مجلس الأباء.
سمع بكمان زميله ويلتان يودع الشلة وهو داخلاً الي البيت بصوت عالي في تحدى واضح لساعي الريال المقدود زميله بكمان الذي ظهر أمامه مثل القدر، إنفجر الجميع ضاحكين وبقهقهة شديدة من الموقف الذي وقع فيه صديقهم ويلتان وكذلك الذكاء الذي يتمتع به بكمان.
في الصباح لم تجلد إدييين لأنها كانت أسد يوم أمس، ولكن عاقب الناظر سعدالله كل أهل السلسلة خمسة صياط وتوج ويلتان بتاج الأسد لهذا اليوم بعشرة صياط، لم يستطيع بكمان من إخفاء شماتته لويلتان فظل يبتسم بحزر باحثاً بنظراته عن شلة الحي حاضري ورطة ويلتان يوم أمس أمام منزلهم.
أسرع دكركوري الي الفصل مع زملائه ورد التحية وهو زاهياً بكل ثقة وبالقرب من الأفندي عندما مرة متحسساً الصامتين عندما حياهم تؤطئة لمعاقبتهم، رد دكركوري قائلاً ،،، أليكم سلام ورمة الله وبركته، مما جعل الأفندي الله جابو يقول مشاء الله مفتخراً بفصاحة تلميذه دكركوري.
إنتهي في منتصف مارس 2014م.
يتبع ،،،،،،
الفصل الثاني: المتخلفين.
الفصل الثالث : التحضر والثقافة.
الفصل الرابع : العودة للجزور.
[email protected]