هذا هو آلفصل السادس من كتابنا (التمرد والتغيير.. من حامية توريت وحتى الدعم السريع (6-10) .. وسوف نعالج بحول الله هذا الفصل تحت رؤوس الموآضيع التالية:
++ الشماسي في الخرطوم = البوعزيزي في تونس مع مراعاة ان الشماسي خلفه متمرد يشعل حرب التحرير في الأحراش فيخرج مليون جائع وشماسي في الخرطوم وعطبرة وبشكل مستمر الي ان يتحقق السلام العادل والعدالة الاجتماعية والتحول الديمقراطي.
++ واذكر في التاريخ إعلان كوكادام.. واتفاقية الميرغني غرنق .. فقد كانتا جهودا وطنية خالصة مستنيرة نحو السلام والوحدة!
(١) انتفاضة ابريل ١٩٨٥ ثورة جياع بامتياز.. ثورة (الشماسة ) والمهمشين وفقراء المدن والشرائح الاجتماعية الضعيفة من ذوي الدخل المحدود وهم الأكثر تأثرا بالضائقة المعيشية الحادة الناتجة عن فاتورة التصعيد العسكري للجيش الشعبي لتحرير شعوب السودان :
لقد فاجأت انتفاضة ابريل ١٩٨٥ احزاب الجلابة الهزيلة التي فشلت في اسقاط النظام بالقوة في ٢ يوليو ١٩٧٦ فدخلت في مشاركة مع النظام من خلال المصالحة الوطنية في عام ١٩٧٧ .. وقد سجلت الاحزاب غيابا تاما في ملحمة انتفاضة ابريل وتولت النقابات منفردة قيادة الشارع .. فقد ارهب نظام مايو قادة الاحزاب السياسية من خلال اعدامها للشهيد محمود محمد طه في ١٨ يناير ١٩٨٥ بسبب توزيع (منشور هذا او الطوفان).. ثم قام النظام بعد شهر واحد من اعدام الشهيد محمود باعتقال قيادات الحركة الاسلامية وتحويلهم إلى سجون شالات ودبك تمهيدا لمحاكمتهم ولقطع رؤوس بعض قياداتها بقصد ارهاب الشعب السوداني .. وقد جاءت الطامة الكبرى لنظام مايو من حيث لا يدري ومن جهة يستحيل السيطرة عليها، هم الجياع في عطبرة.. فقد دخل عمال السكة حديد فى عطبرة في إضراب مفتوح اعتباراً من ( ٧ مارس ١٩٨٥ احتجاجاً على الضائقة المعيشية) .. ثم انتقلت الثورة الي العاصمة .. حيث خرج العمال فى تظاهرات في الشوارع.. استجاب طلاب جامعة امدرمان الاسلامية للحراك العمالي العطبراوي فخرجوا في مظاهرات في وسط أمدرمان يوم ٢٦ مارس ١٩٨٥ وعرجت مظاهرتهم على مكاتب جمعية ود نميري التعاونية فأشعلت فيها النيران وفي اليوم الثاني ٢٧ مارس استمرت المظاهرات في شوارع العاصمة بمشاركة طلاب معهد الكليات التكنولوجية والشماسة والمشردين. وهذه النقطة موضع سجدة؟
(٢) الشماسي في الخرطوم = البوعزيزي في تونس مع مراعاة ان الشماسي البسيط في الخرطوم خلفه متمرد واعي ومستنير وصاحب مشروع.. يخوض حرب التحرير في أحراش الهامش ويدرك تماما مفعول الرصاصة وفاتورة الحرب على الاحوال المعيشية وخدمات الكهرباء على سكان المدن وعلى ذوي الدخل المحدود .. فيخرج مليون شماسي يهتف ضد النميري ( صائع .. صائع وشعبك جائع) .. الكهرباء جات .. هسع بتقطع يا جعفر ) .. فالأمور في السودان يديرها المتمرد الواعي صاحب المشروع الموجود في الأحراش يتحكم فيها من علي البعد (بالريموت كنترول) من خلال التصعيد العسكري وفاتورة الحرب التي تنعكس على ذوي الدخل المحدود في الخرطوم وعطبرة.. لذلك فإن الثورات تتكرر في الخرطوم باستمرار مادام التمرد الواعي مازال موجودا.. بسبب توفر أسبابه- الي ان تتحقق العدالة الاجتماعية والتحول الديمقراطي. . وهذا بالضبط ما جرى في ثورة اكتوبر ١٩٦٤ .. وانتفاضة ابريل ١٩٨٥ .. وانتفاضة السيول والأمطار عام ١٩٨٨ .. وما حدث في سبتمبر ٢٠١٣ التي قتل القناصة حوالى ٢٠٠ متظاهر ضد نظام الإنقاذ .
وفي انتفاضة ابريل ١٩٨٥ صار لكلمة (الشماسة مدلول ثوري راديكالي ) وصارت على كل لسان.. ولاحقا صارت لهم صحيفة تسلط الاضواء على هذه الفئة باسم (الشماسة) اسسها الصحفي الراحل/ محمد خليل ابراهيم .. وشريحة (الشماسة ) تتغذي من الفاقد التربوي ) .. يؤدون أعمالا هامشية مثل مسح الأحذية.. ومسح زجاجات السيارات الفارهة.. يبيعون الماء البارد في الصيف الحار سيّرا على الأقدام تحت الشمس.. لم يحصلوا على العدالة الاجتماعية في أريافهم فاتوا ينشدونها في العاصمة.. إنهم جاهزون للانضمام لاي مظاهرة لدي سماعهم كلمة (تسقط) .. التي حولتها مجموعة (الجو الرطب) في جامعة القاهرة الفرع آنذاك إلى هتاف هازل فكه (تسقط .. تسقط .. الأمطار) وفي انتفاضة ديسمبر ٢٠١٨ صارت (تسقط بس ) .
مفردة (الشماسة) التي ارتبطت بانتفاضة ابريل ١٩٨٥ هي رديفة لمفردة (المهمش .. وابناء الهامش ) التي طغت على الساحة بعد انتقال التمرد إلى اقليم دارفور على يدي حركة التحرير بقيادة عبدالواحد محمد النور وحركة العدل والمساواة بقيادة د خليل أبراهيم عام ٢٠٠٣ .
وقد نعي الصحفي نورالدين مدني زميله محمد خليل ابراهيم صاحب جريدة الشماسة بالكلمات التالية:
نقول هذا بمناسبة رحيل صاحب ومؤسس صحيفة الشماسة محمد خليل إبراهيم الذي ارتبط اسمه بها وكانت بغض النظر عن اتفاقنا مع نهجها أو اختلافنا معه مدرسة صحفية مختلفة ووجدت رواجاً مبرراً في أعقاب انتفاضة أبريل 1985م، ربما لارتباط اسمها بشريحة اجتماعية مهمشة ومقهورة اجتماعياً واقتصادياً. ) آنتهى.
المرجع:/نورالدين مدني / سدارس / في رحاب الله صاحب (الشماسة ) / ٢٥ يناير ٢٠١١
بالمقابل.. ماهي قصة محمد البوعزيزي التونسي ؟ إنه البائع المتجول(الشماسي المقهور بالفقر بالميلاد ومعه تسعة اخوان وأخوات .. ثم تفاقم الأمر باليتيم حين توفي والده وتركهم صغار.. فترك فصل الدراسة بحثا عن العمل الشريف.. فقطعت سلطات البلدية رزقه فصار (الشماسي المقهور من سلطات البلدية والشرطة والفقر والتهميش الاجتماعي.. وهذه قصته التي كانت الشرارة التي أشعلت الربيع العربي:
(محمد البوعزيزي
طارق الطيب محمد البوعزيزي (29 مارس 1984[6] – 4 يناير 2011[7])، هو شاب تونسي قام يوم الجمعة 17 ديسمبر/كانون الأول عام 2010م بإضرام النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بوزيد لعربة كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه، وللتنديد برفض سلطات المحافظة قبول شكوى أراد تقديمها في حق الشرطية فادية حمدي التي صفعته أمام الملأ وقالت له: (بالفرنسية: Dégage) أي ارحل (فأصبحت هذه الكلمة شعار الثورة للإطاحة بالرئيس وكذلك شعار الثورات العربية المتلاحقة).[8] أدى ذلك لانتفاضة شعبية وثورة دامت قرابة الشهر أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي، أما محمد البوعزيزي فقد توفي بعد 18 يوماً من إشعاله النار في جسده. أضرم على الأقل 50 مواطناً عربياً النار في أنفسهم لأسباب اجتماعية متشابهة تقليدا لاحتجاج البوعزيزي. أقيم تمثال تذكاري تخليداً له في العاصمة الفرنسية باريس.) آنتهى . المرجع: ويكيبيديا/ الموسوعة الحرة.
الشعب يريد اسقاط النظام :
ما اريد الانتباه إليه هو أن الشعوب العربية الاسلامية قد تقبلت حالة البوعزيزي الانتحارية علي سبيل الاستثناء بمعنى ان الضمير الاسلامي لن يتعاطف مع انتحاري آخر لديه ذات الظروف الاجتماعية.. والدليل على (استثنائية حالة البوعزيزي الإنتحارية) هو رفض الضمير العربي الاسلامي التعاطف مع اكثر من (50) حالة لموطنين عرب اضرموا النار على انفسهم.. لذلك اخذت الشعوب العربية من الثورة التونسية أيقونتها الايجابية شعاراً ايجابياً.. وهتافا في كل بلدان الربيع العربي.. والأيقونة السحرية هي :(الشعب يريد اسقاط النظام ) .. وتستمد هذه الأيقونة قوتها من (قوة مرجعيتها.. ارادة الشعب النافذة حتما ) الواردة في شعر ابوالقاسم الشابي: ( اذا الشعب يوما اراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر) .
(٣) وفي يوم ٢ ابريل ١٩٨٥ خرجت مظاهرة الردع التي نظمها الاتحاد الاشتراكي امام القصر الجمهوري وقد كنت شاهد عيان عليها.. أنا وأبناء جيلي .. من ذوي الياقات البيضاء المصحوبة غالبا بربطة العنق بالوزارات والمصالح الحكومية والبنوك بين شارع النيل وشارع البرلمان وشارع الجمهورية. فقد كانت مظاهرة باهتة ومتهافتة .. تحدث فيها الرشيد الطاهر بكر ، ود ابوساق .. والسيد / ابوالقاسم محمد ابراهيم.. قاطعها اصحاب الياقات البيضاء حول منطقة القصر وقاطعها (الشماسة) وسط الخرطوم.. وفي اليوم التالي ٣ ابريل خرجت مظاهرة نقابة الأطباء من مستشفى الخرطوم الي شارع القصر وقد انضم لها الجمهور.. وفي هذه المظاهرة تلي الاستاذ عمر عبد العاطفي مذكرة التجميع النقابي لإنقاذ الوطن الموجهة لرئيس الجمهورية تطالبه بالتنحي الفوري.. وتظهر المفارقة من خلال المقارنة بين مظاهرة الاتحاد الاشتراكي ومظاهرة الأطباء حيث ظهر للجميع أن مظاهرة المعارضة اضخم وبما لا يقاس من مظاهر الاتحاد الاشتراكي مما تسببت في زوال هيبة النظام وتعزيز مركز المقاومة للنظام.
(٤) هكذا اسقط الشماسة نظام مايو لانه فقد اصدقاءه وحلفاءه الأوفياء بالتدريج.. بدءا بالحزب الشيوعي عام ١٩٧١ ثم ارتكب (الخطيئه الكبرى) حين فرط في أعز حلفائه (الجنوب) حين خرق اتفاقية أديس أبابا وقام بتقسيم الجنوب بهدف ضم مناطق اكتشاف النفط في الجنوب الي الشمال بهدف سرقة بترول الجنوب مما تسببب في عودة الجنوبيين إلى مربع ألحرب، واخيرا استقوى النميري بالطرق الصوفية والإسلام الشعبوي واستغنى عن حلفائه من الجمهوريين فأعدم الشهيد محمود.. واعتقل الاخوان المسلمين تمهيدا لمحاكمتهم .. فانحاز صغار الضباط في الجيش إلى الي انتفاضة الجياع والشماسة التي قادتها النقابات باقتدار رغم الغياب التام للأحزاب السياسية كما سبق البيان في الفقرة (١) اعلاه.
(٥)التجمع الوطني الديمقراطي وإشكالاته الداخلية:
الحقيقة المؤسفة هي أن الاحزاب الطائفية (حزب الامة، والاتحادي الديموقراطي) تفاجأت بسقوط نظام مايو بهذه السهولة فلم تكن الاحزاب جاهزة ابدا.. ابدا لمرحلة ما بعد سقوط نظام مايو.. اما النقابات فهي بطبيعتها الأصلية مؤسسات مطلبية معنية بمشاكل ومطالب عضويتها.. لذلك لا تلام وانما تشكر على انها ملات فراغ الاحزاب السياسية وقادت الشارع بأمان لاسقاط النظام .. حينها ا وقف صغار الضباط بقوة وصلابة مع الشارع السوداني.. الراحل الاستاذ كمال الجزولي يكشف لنا في مقاله الذي بعنوان: ( الانتقال المرتبك) نقاط الضعف والارتباك التي سادت وسط قيادات التجمع بشقيه الحزبي والنقابي والذي آلت إليه الأمور بعد سقوط نظام مايو من خلال المقتطف ادناه :
( أهم عوامل الفشل الذي حاق بانتفاضة السادس من إبريل عام 1985م، أن ممثلي التجمعين النقابي والحزبي، والمكونين للتجمع الوطني القائد لتلك الانتفاضة، لم يتوافقوا على ميثاق ولو ناقص، إلا فجر ذلك اليوم نفسه، من فوق خلافات بلا حصر، وملاسنات كادت تعصف بأول اجتماع عقده الجانبان بشق الأنفس، دع فشلهم في اجتذاب الحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان، بقيادة جون قرنق، للانضمام إلى قوام التجمع، كما وفي التوافق، باكراً، على آلية وثيقة للانتقال، وعلى تكوين حكومة انتقالية مقتدرة، وعلى إلغاء ما يُعرف بقوانين سبتمبر، وعلى اجتراح قوانين بديلة عنها، وعلى ترتيب إجراءات عدلية انتقالية فعالة، وما إلى ذلك من تفاصيل ذات أهمية استثنائية شُغِل عنها كلا التجمعين بالاستغراق في المناكفات، ممّا شكّل، ربّما، أكبر الثغرات في سجل تلك الانتفاضة الباسلة، وطبع بصمته، عميقاً، في سفر سيرتها، ومسيرتها، وما انتهت إليه من إجهاض تام بانقلاب الثلاثين من يونيو عام 1989م.) آنتهى. المرجع: الأستاذ/ كمال الجزولي/ الانتقال المرتبك / صحيفة الخليج/ ١٤/ ابريل ٢٠١٩ .
(٦) واذكر في التاريخ (اعلان كوكادام) : مخرجات وطنية خالدة :
شهدت الفترة الانتقالية بعد سقوط نظام مايو ومدتها عام واحد (١٩٨٥ – ١٩٨٦) – شهدت أضعف حكومة تدير دفة الأمور في بلد المليون ميل مربع.. حكومة بلا رؤية ولا برنامج.. مع كادر بشري هزيل من الوزراء .. الإنجاز الوحيد الذي يحسب لهم هو اجراء الانتخابات في موعدها وتسليم السلطة لنواب الشعب من خلال انتخابات حرة حرة ونزيهة.
الإنجاز الوطني الوحيد الذي يحسب للتجمع النقابي خلال هذه الفترة هو إعداده للقاء كوكادام والمشاركة فيه بقوه مع مخرجات وطنية قوية في الاتجاه الصحيح نحو ردم الهوة بين ألجنوب والشمال. أستاذنا د سلمان محمد آحمد سلمان يبين لنا ملف لقاء كوكادام ومن شارك فيه ومن تخلف وأهم مخرجات هذا اللقاء الوطني الهام و وذلك في المقتطف ادناه :
( انعقد لقاء كوكادام في إثيوبيا بين ممثلين للتجمع الوطني وبعض الأحزاب السياسية الشمالية مع الحركة الشعبي لتحرير السودان في شهر مارس عام 1986. وقد قاطعت الجبهة القومية الإسلامية والحزب الاتحادي الديمقراطي اللقاء، وتنصّل حزب الأمة من الإعلان حال رجوع وفده للخرطوم. وقد شنَّ إعلام الإسلاميين هجوماً شديداً على لقاء كوكادام أرعب حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي فاتخذا ذلك الموقف السلبي من اللقاء.
تغيّب عن لقاء كوكادام الفريق سوار الذهب رئيس المجلس العسكري، وكذلك الدكتور الجزولي دفع الله رئيس الوزراء، ولم يكلفا نفسيهما حتى مشقة إرسال من يمثل أيٍ منهما في ذلك اللقاء. كانت تلك إشارةً واضحة عن رأيهما السالب في اللقاء.
لا بُدَّ من التذكير أن إعلان كوكادام الذي وقّعَ عليه التجمع الوطني لإنقاذ الوطن مع الحركة الشعبية في مارس عام 1986 كان قد نصَّ على:
(ج) إلغاء قوانين سبتمبر 1983 وكل القوانين المقيّدة للحريات.
(د) العمل بدستور 1956 المعدّل عام 1964 مع إضافة “الحكم الإقليمي” وأية مسائل أخرى تتفق عليها القوى السياسية.
ولم تبدِ حكومة انتفاضة أبريل أي اهتمام بذلك الإعلان، ولم تكلف نغسها حتى عبء التعليق عليه.
كما أن الحرب التي قامت انتفاضة أبريل من أجل إنهائها زادت استعاراً، ووصلت أصوات المدافع وطلقات البنادق وقصف الطائرات المدن الكبرى في جنوب السودان.) آنتهى
المرجع : د سلمان محمد آحمد سلمان/ كيف ولماذا نجح الاسلاميون فى اجهاض انتفاضة ابريل ١٩٨٥ ؟ دروس لثورة ديسمبر ٢٠١٨ / سودانايل / 5/ مايو ٢٠١٩
كاتب هذه السطور يتفهم المشاركة البائسة لحزب الامة في اللقاء، وتنصله من مخرجاته التي شملت (إلغاء قوانين سبتمبر ١٩٨٣) .. كما يتفهم الغياب التام للحزب الاتحادي الديمقراطي.. واذا عرف السبب بطل العجب .. فقد خضع الحزبان الطائفيان (الاتحادي والأمة ) لابتزاز الجبهة الاسلامية التي قاطعت هي الأخرى لقاء كوكادام وذلك لعلم هذه الأحزاب الثلاثة ان من اهم مخرجات اللقاء سيكون ملف علاقة الدين بالدولة وإلغاء قوانين سبتمبر ١٩٨٣ .. والمشكلة الكبرى بالنسبة للأحزاب الثلاثة ان الانتخابات البرلمانية ستاتي بعد اقل من شهر بعد لقاء كوكادام .. والتجمع الوطني في شقه النقابي ليس له شيء يخسره ولا علاقة مباشرة له مع الانتخابات البرلمانية لذلك كانت سقوفه عالية، ومتناسقة مع مطالب الحركة الشعبية لتحرير السودان، وموقف الحزب الاتحادي من مقاطعة كوكادام مفهوم لانه اي الحزب الاتحادي هو الذي ينافس الجبهة القومية في الدوائر الانتخابية بولاية الخرطوم.. وسوف نرى كيف تحرر الحزب الاتحادي من ابتزاز الجبهة الاسلامية بعد انقضاء الانتخابات حيث نجح الحزب الاتحادي الديمقراطي فى احداث اختراق سياسي كبير من خلال اتفاقية الميرغني/ غرنق التي نصت على تجميد قوانين سبتمبر بما يعادل الغائها. واختم هذه الفقرة بالقول: (لان تاتي متأخرا افضل من غيابك ) .. لقاء كوكادام قد حقق اهدافه الوطنية وان جاء متاخرا في نهاية الفترة الانتقالية.. لانه مهد الارضية لمؤتمر أسمرة للقضايا المصيرية ١٩٩٥ . وتاتي أهميته في كونه اول اعلان بين الشمال المسلم والجنوب ينص على الغاء قوانين سبتمبر ١٩٨٣ بعد منشور هذا او الطوفان المؤرخ في ٢٥ ديسمبر ١٩٨٤ والذي كلف الشهيد محمود محمد طه حياته !!
(٧) اتفاقية الميرغني/ غرنق اكبر اختراق سياسي نحو السلام والوحدة في عهد الديموقراطية الثالثة ؟!
انتخابات ١٩٨٦ أتت بثلاثة احزاب سياسية للسلطة بهذا الترتيب: حزب الامة (101 مقعد في البرلمان.. ثم الحزاب الاتحادي 63 مقعدا .. ثم الجبهة الاسلامية 51 مقعدا) .. وتشكلت الحكومة الائتلافية الاولى من حزبي الامة والاتحادي وذهبت الجبهة الاسلامية للمعارضة.. وآلت رئاسة الحكومة للصادق المهدي .. القاريء الجيد لتاريخ السودان في عهدي الديمقراطية الاولى (١٩٥٤ – ١٩٥٨ ) والديمقراطية الثانية (١٩٦٤ – ١٩٦٩ ) التي حكم فيهما الائتلاف المكون من الاتحادي والأمة لا ينتظر منه خيرا للوطن او للشعب السوداني .. واذكر في هذا المقام بشعار اسماعيل الأزهري ابو الاستقلال (تحرير لا تعمير) .. والذي يؤكد ان الأحزاب الطائفية (غير راغبة في التعمير) لان التعمير هو (اكبر مهدد لوجود الاحزاب الطائفية) .. لان التعمير يجلب الوعي والتعليم والطبقة العاملة والشيوعية وتلك (نهاية الطائفية) . ويكفي الصادق المهدي عارا وشنارا انه لا يحلم أبدا بالفوز في ولاية الخرطوم.. إلا إذا حدث نزوح كبير من سكان الريف الى العاصمة وتمركزوا في دائرة جغرافية معينة مثل الحاج مثلا التي فاز فيها الاب فلب عباس غبوش لان قوميته من شعب جبال النوبة قد صوتت له بوعي قومي.
احزاب المركز كلها لا تتذكر بندقية د جون غرنق إلا حين تفقد السلطة في الخرطوم .. فتستقوي ببندقية جون غرنق ضد غرمائها في الخرطوم.. والأمثلة كثيرة.. هذه ظاهرة صحة وليست عيبا أو انتهازية.. بل على العكس تماما.. إنها براغماتية غريزية صحية .. اساسها (عدو عدوك صديقك ) .. بل هذه حسنة من حسنات الديمقراطية.. فالديمقراطية تصحح نفسها من خلال الممارسة.. وانطلاقا من هذا المفهوم .. بعد مظاهرات السيول والأمطار ضد الحكومة الائتلافية برئاسة الصادق المهدي خرج الحزب الاتحادي من الائتلاف الحكومي مع حزب الامة وحلت الجبهة الاسلامية محل الحزب الاتحادي في الائتلاف مع حزب الامة .. ولعل الحزب الاتحادي اراد ان يصنع انجازا وطنيا كبيرا نحو السلام يزيل عنه غبار الإنجاز المعدوم للحكومة الائتلافية مع حزب الامة وكان يطلق على الحزب الاتحادي الشريك الاضعف.. فاراد الحزب الاتحادي ان تمنحه مبادرة السلام السودانية رصيدا سياسيا للانتخابات القادمة في غضون حوالي عام.. استقبل د جون غرنق السيد محمد عثمان الميرغني في اديس أبابا ووقع معه ( مبادرة السلام السودانية) التي اختصرها الإعلام ب (اتفاقية الميرغني غرنق ) وذلك بتاريخ ١٦ نوفمبر ١٩٨٨ .وقد كانت أهم مخرجات هذه الاتفاقية هي:
•
(بما أن الموقف الثابت للحركة هو إلغاء قوانين سبتمبر 1983 واستبدالها بقوانين 1974 إلا أنها وفي هذه المرحلة وانطلاقا من حرصها على قيام المؤتمر القومي الدستوري تتفق مع الحزب الاتحادي الديمقراطي وإلى حين قيام المؤتمر القومي الدستوري على تجميد مواد الحدود وكافة المواد ذات الصلة المضمنة في قوانين سبتمبر 1983 وألا تصدر أية قوانين تحتوي على مثل تلك المواد وذلك إلى حين قيام المؤتمر القومي الدستوري والفصل نهائيا في مسألة القوانين.
•
إلغاء كل الاتفاقيات العسكرية المبرمة بين السودان والدول الأخرى والتي تؤثر على السيادة الوطنية.
•
رفع حالة الطوارئ.
•
وقف إطلاق النار.)
بهذه المبادرة الشجاعة حقق الحزب الاتحادي والسيد محمد عثمان الميرغني كسبا وزخما سياسيا ضخما تجلى في الاستقبال الضخم للسيد الميرغني بمطار الخرطوم لدى عودته من اديس أبابا بعد توقيع المبادرة.. رغم تآمر الصادق المهدي بمنع الاعلام الحكومي الرسمي بتغطية فعاليات عودة الميرغني للخرطوم.. وهذا الاستقبال الكبير ادخل الرعب في روع حزب الآمة والصادق المهدي شخصيا.. لأنه إذا تحقق السلام المنشود وصادق البرلمان البرلمان على المبادرة بأصوات حزب الامة رغم (توضيحات الصادقي المهدي) فان الشعب السوداني في مدنه وأريافه سينسب انجاز السلام الي الحزب الاتحادي الديمقراطي.. لذلك لم يكن امام الصادق المهدي عديم الفائدة لوطنه وشعبه فحسب .. بل انه سعي بكل ما اوتي من قوة أن يوقّف الرحمة التي اتي بها غيره على قاعدة (يا فيها يا نطفيها) !! وهكذا ظل الصادق المهدي يماطل ويلقلق في (توضيحاتها ) داخل البرلمان حتى نفذت الجبهة الاسلامية انقلابها المشؤوم في ٣٠ يونيو ١٩٨٩ !!
ابوبكر القاضي
نيوبورت /ويلز/ UK
١٧/مارس ٢٠٢٤
Sent from my iPad