عبد العزيز نور عشر… حين يصبح الهدوء قرارًا
بقلم: مصطفى عليش
في زحام السياسة، حين تتعالى الأصوات ويضيع المنطق بين زوايا المصالح، يُولد أحيانًا رجل مختلف. لا يقتحم المشهد بالصراخ، ولا يصنع مجده من ضجيج المنابر، بل يسير بخطى ثابتة، يحمل قلبًا هادئًا، وعقلًا يزن الأمور بميزان الإنصاف. هذا الرجل هو عبد العزيز نور عشر، أحد أولئك القلائل الذين إذا تحدثوا، صمت الآخرون ليصغوا.
وُلد في محلية الطينة بولاية شمال دارفور عام 1967، وتعلّم منذ صغره أن الكلمة مسؤولية، وأن القيادة تبدأ من الصدق. لم يكن يركض خلف الأضواء، بل سار في طريقه مثل نهر تحت الأرض، يُروي ولا يُرى، حتى إذا ظهر، جاء بخير كثير.
منذ أيامه الأولى في التعليم، برز كقائد طلابي ونقابي، حيث تولّى رئاسة اتحاد طلاب الفاشر الثانوية، ثم رئاسة اتحاد الثانويات، ليخطّ أولى سطور تجربته الطويلة في العمل العام، وهو لا يزال يافعًا. لم تكن القيادة عنده طموحًا شخصيًا، بل التزامًا أخلاقيًا تجاه زملائه وقضاياه.
تخرّج في كلية القانون بجامعة النيلين، فكان العدل جزءًا من تكوينه لا مجرد تخصص. حمل قضيته إلى ساحات العدالة، وعمل محاميًا مدافعًا عن المعتقلين السياسيين أمام المحاكم الجنائية والمحكمة الدستورية. ثم تابع دراسته الأكاديمية في جامعة الزعيم الأزهري، حيث نال بكالوريوس العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية، ثم الدبلوم العالي للعلاقات الدولية من جامعة الخرطوم، فـماجستير الدراسات الدبلوماسية من جامعة النيلين، ومنها أيضًا نال درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية.
في الجامعة، واصل مسيرته القيادية، حيث شارك في اتحاد طلاب جامعة النيلين لثلاث دورات، وتولّى رئاسته في دورته الأخيرة بين عامي 1989 و1992، مُثبتًا أنه لا يتغير بالمناصب، بل يُثبت بها التزامه.
امتلك قدرة عالية على المناورة والقراءة العميقة للقضايا، وهدوءًا حذرًا جعله عرضة للاستهداف من خصومه، سواء داخل حركة العدل والمساواة أو خارجها. لكنه، بطبيعته، ظل بعيدًا عن الأضواء، يرى في الظهور الإعلامي عائقًا أمام تنفيذ مشاريعه وأفكاره. كان يعمل في صمت، ويُفضّل أن تتحدث نتائجه عنه لا أن يتحدث هو عنها.
هذا الرجل ليس من الضرورة أن تعرفه حتى تنصفه. فمهما اختلفت معه، أو اتخذت تجاهه موقفًا متشددًا، تجبرك شخصيته أن تحترمه وتنصفه. ليس كغيره ممن يحملون الضغينة، أو يخلطون بين الخاص والعام. لا يبني مواقفه على الوشايات، بل على الحقائق الدامغة والمبادئ المبنية على الإنصاف. وإن أنصف، فهو ينصفك حتى لو كان خصمك أقرب أقربائه، لا يُغريه الانتماء، ولا تُعميه العاطفة، لأن ميزانه في القول والفعل: العدل أولًا.
سُجن، وتعرض للضغوط، لكنه خرج أكثر هدوءًا مما دخل، وأكثر إصرارًا مما ظن خصومه.
لا تعرفه من الضجيج، بل من أثره. رجلٌ إذا حضر في مجلس، أحدث توازنًا دون أن يرفع صوته. قوي في موقفه، هادئ في حديثه، منصف في تقديره، أمين في نواياه، وشريف في سلوكه. لا يتخذ قرارًا إلا إذا عرف أنه لا يُرضي الجميع، لكنه يُرضي ضميره.
هو الآن مدير عام المركز العالمي للدراسات السياسية والاستراتيجية، يحمل السودان معه إلى المحافل الدولية، لا ليُظهر نفسه، بل ليُعلي شأن وطنه. ومن شنغهاي إلى الخرطوم، يتحدث بلغة العقل والتكامل، ويُصر على أن السودان يستحق أن يُسمع، لا أن يُستدرج إلى هامش العالم.
عبد العزيز نور عشر ليس مجرد اسم أكاديمي أو إداري، بل هو قيمة إنسانية تمشي على قدمين. رجل يُذكّرنا بأن الشرف ما زال ممكنًا في العمل العام، وأن القوة الحقيقية لا تحتاج إلى صراخ، بل إلى هدوءٍ عميق يخرج من قناعة راسخة.
هو من أولئك الذين يرحلون عن المشهد بصمت، فيتركون وراءهم أثرًا لا يُمحى، وذكرى لا تُنسى.