عسكر السودان وحتمية الخسران

جعفر عباس

يعرف كل متابع للشأن السوداني الراهن، أن كبار ضباط الجيش السوداني استغلوا الثورة الشعبية الرافضة لحكم المشير عمر البشير، فانقلبوا عليه ونجحوا في إزاحته، وشكلوا مجلسا عسكريا بهدف حكم البلاد، وتمسكنوا حتى تمكّنوا؛ ففي بادئ الأمر وضعوا أيديهم ـ ولو على مضض ـ في أيدي القوى التي قادت الثورة، وتواصوا معها على تدابير حكم انتقالي يرتب أوضاع البلاد، تمهيدا لانتخابات حرة، تأتي بحكومة تمهد بدورها لديمقراطية مستدامة.

إضراب ناجح

ولكن طموحات بعض الجنرالات في المجلس العسكري جعلتهم ينقلبون على قوى قيادة الثورة، وحتى على شعارات الثورة، فكانت القطيعة بين الشارع الثائر ومجلس العسكر الجائر، والتي تجلت في الإضراب العام الذي دعت له قيادات الثورة الشعبية، والذي تداعت له جماهير الثورة يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، وكان ناجحا بدليل الهلع والجزع الذي جعل بعض العناصر العسكرية تمارس بلطجة على نفس نهج جهاز أمن الرئيس المخلوع عمر البشير.

مع بدء التفاوض بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير (قحت) التي قادت الثورة منذ أسبوعها الأول، اضطر العسكر إلى الاعتراف بـ”قحت” ممثلا أوحد للثوار، وقبلوا كامل طرحها حول هيكل وصلاحيات مجلس الوزراء والبرلمان ومجلس السيادة (الذي يمثل رئاسة الدولة) في المرحلة الانتقالية، ولكنهم تمسكوا بأن تكون لهم الغلبة العددية في مجلس السيادة، بينما يبقى تمثيل المدنيين فيه رمزيا، وعلى أن تكون رئاسة المجلس لهم أيضا.

المحاصصة هي العقبة

وهكذا بدا أن المحاصصة في مجلس السيادة ورئاسته هي العقبة الوحيدة التي تحول دون انتقال السلطة إلى القوى المدنية، وبداهة فلا يمكن لقوى ناضلت طوال خمسة أشهر للإطاحة بحكم عسكري، أن تقبل بنظام واجهته وقيادته عسكرية، كما أن الاتحادين الأفريقي والأوروبي يرفضان تماما أي طابع عسكري للحكم في سودان ما بعد البشير، وفوق هذا كله فإن أي قدر من عسكرة السلطة في السودان، سيحرمه من إلغاء ديونه الخارجية ويبقيه في قائمة الدول المغضوب عليها الراعية للإرهاب.

ما لم يتراجع العسكر عن رغبتهم في التكويش على مجلس السيادة، فسيشهد السودان ـ غالبا بعد عطلة عيد الفطر ـ عصيانا مدنيا شاملا

ولأن عسكر السودان، شأنهم شأن كل العسكريين في أفريقيا وبلاد الأعاريب يميلون لمعالجة السرطان بالفاليوم، فهم يحسبون أن العطايا الفورية التي جاءتهم من الإمارات والسعودية تغنيهم عن أي عون خارجي مستدام، وهم بالضرورة وبحكم التأهيل المهني لا باع لهم طويلا كان أم قصيرا في مجالات السياسة والاقتصاد والإدارة العامة، ولكنهم لا يرون بأساً في تعلم الحلاقة على رؤوس أبناء وبنات الوطن، وكأني بهم يقولون: وهل كان حافظ الأسد وعلي عبد الله صالح ونميري والبشير والسيسي ذوي دراية بفنون الحكم والاقتصاد عندما جلسوا على كراسي السلطة؟

عندما بدأ المجلس العسكري يتنصل من الاتفاقيات التي أبرمها مع “قحت”، لم يكن أمام الأخيرة من إجراء لضمان تنفيذ البرنامج الذي وعدت به قوى الثورة، إلا أن تعلن الإضراب العام ليومي 28 و29 من أيار/ مايو الماضي، وفاقت الإستجابة للإضراب حتى أكثر توقعات “قحت” تفاؤلا، ولم يكن العسكر يتوقعون له ذلك النجاح المدوي، فما كان منهم إلا أن لجأوا إلى الأسلوب الوحيد الذي لا يبُزهم فيه أحد، وهكذا هجم عساكر مسلحون على أحد مكاتب شركة الكهرباء في الخرطوم، واعتقلوا عددا من المهندسين والفنيين كانوا موجودين داخل مكاتب الشركة.

وكان التوجيه الصادر عن “قحت” يقضي بضمان استمرار الخدمات الاستراتيجية، ومن ثم كان على بعض العاملين في قطاعات مثل الكهرباء والماء والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التواجد في أماكن عملهم، رغم مشاركتهم في الإضراب، لضمان انسياب تلك الخدمات، ولكن ما أن حدثت تلك الاعتقالات، حتى أصدر العاملون في قطاع الماء والكهرباء تحذيرا: إما الإفراج الفوري عن زملائنا، وإما يغرق السودان كله في الظلام، فقام العسكر بتراجع تكتيكي، وأطلقوا سراح المعتقلين.

أهمية قطاع المصارف

وصدرت أقوى صدمة تلقاها العسكر عن قطاع المصارف، الذي نجح الإضراب فيه بنسبة تجاوزت 90%، وكانت اللطمة التي لم يتوقعوها، أن تكون نسبة مشاركة العاملين في بنك السودان المركزي في اليوم الأول من الإضراب بنسبة تقارب 95%، لأنهم حسبوا أنه وطالما أن العاملين في هذا البنك موظفون حكوميون، فلن يشارك معظمهم في الإضراب.

وهنا أيضا جاء العسكر ليكحلوها فـ “عموها”، فقد أرسلوا قوة ضاربة اقتحمت مكاتب البنك، وهددت الموظفين بعظائم الأمور إذا لم يستأنفوا العمل، ولما لم تأتِ التهديدات بأي نتيجة، حبسوا الموظفين داخل المكاتب التي أغلقوا أبوابها بالجنازير، وكانت النتيجة أن انضم كبار مديري البنك للإضراب في يومه الثاني، وأن تدفق موظفو جميع بنوك العاصمة السودانية إلى محيط البنك المركزي، فكانت تظاهرة صفقت لها أمواج النيلين الأزرق والأبيض.

وما لم يتراجع العسكر عن رغبتهم في التكويش على مجلس السيادة، فسيشهد السودان ـ غالبا بعد عطلة عيد الفطر ـ عصيانا مدنيا شاملا، يؤكد نجاحه التجاوب الكاسح مع دعوة الإضراب، وعندها سيعرف عسكر السودان طعم الخسران، فهم قطعا ليسوا أقوى من الإمبراطورية البريطانية التي هزمها العصيان المدني في الهند، أو من حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا التي انهارت أمام العصيان الذي نظمه المواطنون السود، أو من الحكومة الأمريكية التي انهزمت أمام عصيان أقلية هم ذوي الأصول الأفريقية من الأمريكيين في سياق حركة الحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر كِنْغ.

ومهما كانت درجة الصلف وغطرسة القوة، فسيدرك المجلس العسكري الانتقالي ـ بعد تنفيذ العصيان المدني ـ أنه لا معنى أو جدوى من حكم بلد كل نشاط فيه المرور معطل تماما، وعندها لن يكفي التراجع التكتيكي، وسيكون المطلوب مدنية الدولة بشكل تام وكامل وشامل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *