صلاح شعيب
سبحان الله. بينما تستقبل الخرطوم خلال شهر فقط داعشيتين مع طفليهن الرضيعين بالزغاريد، ينشغل علماء السودان بزي المرأة السودانية أكثر من المآسي التي تعرضت لها في هذا الوضع البائس. إنهم علماء شريعة يفلحون في التنمر على بنات عفيفات لمجرد عدم التزامهن بالزي الوهابي بينما يتوارون من نقد النظام الذي مهدت بيئته لهذه الداعشيات اللائي خرجن خلسة بلا محرم، كما تنص قوانين النظام نفسه.
وبرغم أن الداعشيتين المغرر بهن قد كلفن أسرهن الكثير من الدموع، والأرق، والبحث المضني عنهن، وعدن بأطفال لا يدري أحد عن آبائهم، فإن رئيس هيئة علماء السودان، وَعَبَد الحي يوسف، وبقية غلاة السنة يتحاشون نقد الفكر الداعشي الذي يصدر السودانيات للخارج لأجل جهاد النكاح.
إذن فلا غرابة. فالإسلام الذي تريد الوهابية، ومشتقاتها المتطرفة، بعثه من جديد إنما هو تتفيه لقضايا الناس المعاصرة الملحة بجانب التركيز على الصغائر. فنحن ندرك أن ليس لدى هيئة علماء النظام، وليس السودان، موقفا ناقدا للأوضاع العامة. فهي في الأصل جناح مؤدلج يتكامل دوره مع دور أمن قوش، ودبلوماسية الدرديري، وصحافة الطيب مصطفى، ومجلس وزراء معتز، وشعر روضة الحاج، وقناة ساهرون، وخزعبلات الهجرة لله، الخ. ولهذا يبقى من الطبيعي ألا نعول على هذا الجمع الإخواني أن يأتي بطرح عقلاني يتوائم مع بيئة أهل السودان.
لقد تابعنا الحلقة التلفزيونية التي واجهت فيها أخواتنا رئيس هيئة علماء السودان، والسيدة عطيات المتحدثة باسم الوزارة المعنية. وبالحق كانت مرافعة شجاعة من كنداكات صلبات عن وضع المرأة السودانية المقهورة عبر قوانين النظام العام، وعبر إرث ذكوري معوق للتنمية البشرية، وتحامل مريض ضد حريتها، والتي هي من الحريات المنصوص عليها في كل القوانين الإنسانية التي وقعت عليها معظم البلدان الإسلامية.
لقد عبر جمع النساء السودانيات من خلال المساحة الضيقة في البرنامج عن مدى الظلم المؤسس اللائي يتعرضن له طوال عمر النظام، واستطعن أن يضعن رئيس الهيئة ورفيقته في التنظيم في زاوية ضيقة لا يحيران جوابا. إذ بدا التناقض الواضح في دفاعهما حول القضايا المثارة ما يعني أن هذه القوانين وضعت بغير تعقل، أو مراعاة للطبيعة التاريخية لنسائنا. بل إن السيدة عطيات، ممثلة النظام، اعترفت، تحت ضغط نقد الكنداكات لمواد النظام العام، بأن هذه القوانين التي تستهدف المرأة بها من العيوب ما يدعو للتعديل. ويا ليت عطيات تخلت كذلك عن ذكوريّة عقلها، وانحازت لعدالة قضية أخواتها.
-٢-
جميل أن ينزل علماء النظام من أبراجهم العاجية ليتحاوروا مع مخالفيهم في الرأي، ما دام هم ينطلقون من أيديولوجياتهم وللآخرين أيديولوجياتهم أيضا. وفِي هذا المنحى لا يوجد فخ، أو فخاخ، عند مواجهة الجمهور المستهلك للفتاوى، والأحكام القطعية القاهرة. فاستماع الدكتور محمد عثمان صالح للراي الآخر هو من صميم دوره كرجل دين ما عليه إلا أن يتواضع ثم يفترض أن نصف رأيه يمكن أن يكون عند نساء، ولم لا؟.
إن الحديث عن زواج القاصرات، والعصمة، وزي المرأة، والتحرش بها، وحقوقها، لا يكتمل إلا بالرجوع إلى كتب التراث التي استند عليها مشرعو الإخوان المسلمين لإكمال سيطرتهم الذكورية على أخواتنا، وأمهاتنا الأفاضل.
فالمرأة السودانية، قبل هجمة التفسيرات الوهابية للدين، إن هي قد أنجبت كل هؤلاء الإسلاميين ورعتهم حتى دخلوا جامعة الخرطوم، فقد أبانت عن عفافها، وطهرها، وتدينها، وأمانتها، وإخلاصها، لأسرتها، وحبها لعملها، وولائها لوطنها. ولسنا في حاجة لتعداد مآثر نساء سودانيات زينتهن العفة، والاستقامة، وقد خرجن للعمل العام والخاص دون أن يحدد لهن وهابي، أو إسلاموي، ما ينبغي أن يكون عليه خلقهن في ساحات تجمعهن بالرجال.
لقد برعن في مجالات السياسة، والأدب، والتعليم، والصحة، والطب، والهندسة، والتمريض، والزراعة، والصناعة، وحقول العمل كافة، وعلن أسرا بعد وفاة أزواجهن حتى تخرج فيها الصحافي، والطبيب، والمحامي، واللواء، والأكاديمي، والمهندس، والمغني، والمسرحي، والمذيع، والتاجر. وهذا هو بالضبط تاريخ نضال المرأة السودانية قبل أن تتعرض لهذه الملاحقة الاستبدادية من علماء مرضى، لا تعشعش في عقولهم إلا فكرة أن المرأة ناقصة عقل ودين، أو أنها فتنة الجنس، أو غيرها من الأفكار البالية التي تجاوزها العصر، وبقيت حية في عقول رجال الدين.
-٢-
المؤسف جدا أن هؤلاء الذين يفصلون القوانين أنجبت، ورعت، بعضهم نساء أرامل، إذ خرجن للعمل بالزي السوداني حتى أصبحوا جالا بمقامات سامية في التأهيل الأكاديمي. ومع ذلك فضل هؤلاء أن يكون الجزاء هو عرقلة حركة تطور المرأة السودانية انطلاقا من أفكار قديمة لا تتناسب مع البيئة السودانية التي اصبحت فيها المرأة قائدة، ورائدة، وتفوق الرجال في محافل كثيرة. بل نجحت المرأة في بلادها حتى أصبحت تسجل نجاحات في المحافل الدولية في حقول الحياة كافة.
إننا بالحق نفهم أن مقاصد المتدينين السلفيين، غير السلطويين، قد استندت على القراءات السلفية التي تجاوزتها المرأة السودانية المسلمة بالبيان. ونتيجة ذلك أنها ربت هذه الاجيال بقدر كبير من الوعي، والحشمة، والعفاف، والذين من بينهم خرج هؤلاء المسلمون السودانيون. إذن فإن الحكمة ليست بالشكل الذي يبدو عليه زي النساء، إذا سلمنا بأن فاضح، أو غير فاضح. فعبرة صلاح المرأة ليس في ارتداء الخمار، أو الحجاب، أو الثوب، أو الطرحة، ولا يمكن أن يدلنا شكل الزِّي على مضمون خلق المرأة، أو اكتمال دورها في المجتمع، فكثير من اخواتنا، وامهاتنا، في المدن والريف السوداني لا يحفلن بارتداء الخمار، او الحجاب، أو حتى ما نسميه الثوب السوداني. ومع ذلك عرفن بالتقوى، والصلاح، والورع، وكذا ساهمن بقدر وافر في رعاية أسر خرج من بينها متطرفون إسلاميون ينادون بتحكيم الشريعة الإسلامية كذلك.
إذن فكل هذه النماذج التي هي متوفرة في بيئة السودانيين المسلمين المحافظين لم تسعف من وضعوا قانون النظام العام في مراعاة طبيعة المرأة السودانية المتحدرة من ثقافات متباينة قامت على جوهر هدي الدين. ولكن يبدو أن الأنثروبولوجيا السودانية لا تجد اعتبارا عند دعاة التشدد للاهتداء بها عند سن القوانين المجافية لحقوق المرأة، وزيها من بعد هو نتاج هذا التراكم التاريخي، وتضاريس هذه الجغرافيا. أما حقوقها التي اكتسبتها، وما ترنوا لاكتسابها من حقوق أخرى، فكل ذلك علامات باهرة في مسار نضالها الذي سيغير وضعيتها نحو الأحسن، طال الزمن أو قصر.