بقلم: د. سعاد الحاج موسي
20 أكتوبر 2020
اليوم أحد أيام الجمعة في بدايات عام 2004 والصباح يخطو بتمهل نحو المدينة الاستراتيجية موقعاً ومنتوجاً اقتصادياً، وأضواء المقهى الشهير تتراقص في تراخٍ وتكاسل تمازحها نسيمات دواعب تستملح خفوتها وخمودها مفسحة لضياء الصباح لتشرق علي المستجمين بها من وعثاء السفر. علي مرمي حجر من المقهى ترقد المساكن في هدوء وسكينة تغمرها روائح الطيب المنبعثة من الغابات المجاورة وهي ترفل علي صهوات الضباب الكثيف الذي يغطي الجبال وينتشر بأطراف المدينة مع الأماسي وينقشع بلطفٍ مع زقزقة العصافير وهي تعلن بزوغ الفجر الجديد. سرعان ما طغت رائحة القهوة وفاحت بالأرجاء فقد قيل بوجود ألف رائحة عطرية داخل كل حبة قهوة! وعلي مد البصر يكسو التربة اخضرارٌ خصيب ينسَدِر دعةً ورفاها علي قاطني المدينة التي تزدان ربوعها رونقاً ساحراً آسر في فصل الخريف، فتحس كما لو أُسْدِلت علي القلب ستائر الغموم جملةً والهموم تفصيلا، وتشتعل النفسُ حيويةً فتغمرها ذكريات الصبا ولقاء الحبيب الأول!
رويداً رويداً أخذت همهمات الكبار وتراتيلهم تعلو مع تسبيحاتهم بالمسيد والبيوت، مؤذنة ببدايةً طقوس اليوم وواجباته الروتينية بينما الأطفال يغطون في نوم عميق – فما أجمله من صباح وأروعه من يوم! لا مدارس فيه تفرض البكور وتعكِّر صفو النوم وبهجة اللعب تحت الشجر! وفجأة ارتفعت سحابة غبار كثيف من ناحية الطريق المؤدي الي بطن الجبل باتجاه المقهى، وسُمع ضجيج لوقعٍ ثقيلٍ لحوافر الخيل على الأرض بتداخل صيحاتٍ عالية غريبة، ولم يمض وقتٌ طويل حتى شق سكون المدينة دوي رصاص كثيف تخللته صرخات حادة مرعبة ثم تصاعد دخانٌ كثيف وتطاير الشرر من ألسنة اللهب فأجبر الجميع على الانتباه والاستيقاظ!
ذاع الخبر الكارثة بأنحاء المدينة على الفور، وأنبأ من كان قريباً برؤية جنود ملثمين يحملون بنادق الكلاشينكوف هجموا علي المقهى وقتلوا كل من بداخله وأشعلوا فيه النار. بدأ الجنود ينتشرون بالمدينة، وتحسُّباً، أمر الكبار الأطفال بالاختباء تحت الأسِّرة والتزام الصمت والهدوء. سارعت النساء بإغلاق الأبواب وقبعن في تجمعات داخل البيوت بحذر وترقب. دلف الي منزل المعلمة سميرة ثلاثة رجال مسلحين ملثمين. ناداها أحدهم باسمها وأمرها بالخروج من داخل القطيّة فأذعنت مكرهة. طلبوا منها التزام الصمت وتسليمهم ما تملك من المال والحلي الذهبية مؤكدين لها بأنهم يعرفون انها أمين مال نساء المدينة يخزنون عندها أشياءهن الثمينة وفائض أموالهن – فلا يوجد بنك حكومي بالمدينة! ثم قالوا لها بأن تلك الأموال ستعد فدية حتي لا تتعرض الفتيات المختبئات في منزلها وبقية القرية للاغتصاب. بلا تردد عادت سميرة الي الداخل وتبعها أحد المسلحين.
تصنّتت النساء والفتيات لحديث الجنود وحبسن أنفاسهن وهن يرتعشن من الرعب، عند دخول المسلح الي القطية طلبن من سميرة افراغ كل ما بالخزنة وتسليمها للرجل من أجل بناتهن. عندها أمرهن الرجل بأخذ الأطفال والنساء والفتيات وتنبيه الآخرين بمغادرة المدينة على الفور محذراً بأن أي تأخير سيعرضهم لمجموعة أخرى أكثر عدوانية ووحشية في طريقها إلى المنطقة.
وفي مسيرة فرار القوم من المدينة طاردهم راكبو الخيول وأوسعوهم ضرباً ولسعاً بالسياط، فمن لم يمت بالرصاص، خاصة من كبار السن، صار قتيل السوط والعصا أو سقط من الوهن ودهسته حوافر الخيل. ثم داهمت القوات الباغية داخلية المدرسة الثانوية للبنات بأطراف القرية واعتدوا علي شرف أكثر من مائتي طالبة واحتجزوا واختطفوا أكثر من مئة لم يسمع للكثيرات منهن خبر ولم يعرف لهن أثر الي الآن! في طريق نزوحهم الي أقرب المدن والتي تبعد عن مدينتهم أكثر من ثمانين كيلو متراً، أجهضت عشرات النساء حملهن وفاجأ المخاض اخري فولدت في منتصف الطريق تحت شجيرة مخيط فقيرة الظلال. أخذت مرافقتها المولود وتركتها مستلقية على الأرض وحيدة لا تقوي علي المشي الي أن أسعفتها المنظمات الدولية في منتصف الليل، أي بعد أكثر من اثنتي عشر ساعة وكادت حمي النفاس تودي بحياتها وتنهش جسدها الذئاب!
عندما وصل النازحون الي وجهتهم، قادهم جمعٌ غفير من المواطنين الي مكان ظليل وبدأت النساء المنهكات بوضع ما يحملن علي رؤوسهن علي الأرض وانزال الصغار عن ظهورهن. وفجأة دوت صرخةٌ حادة من وسطهن: “وليدي وينو يا أخواتي؟ وليدي بقي مخدة!” ألجم المنظر الحاضرين وأدركت رفيقاتها في التو ما حدث وهن آسيات باكيات – فبينما كانت في عجلة من أمرها للفرار من الجنود والجنجويد ووابل رصاصاتهم ومن قنابل الطائرات كباقي سكان المدينة، أخذت طفلها البالغ من العمر ستة أشهر وهو نائم وربطته علي ظهرها (حبقته) ليتضح الآن فقط، بأنها بدلاً من الطفل أخذت الوسادة (المخدة) الموضوعة بجانبه لحمايته من السقوط من علي السرير، ظناً منها انه صغيرها! ما هي الاّ ثواني وشهقت الاًم ذات العشرين ربيعاً ولحقت بوليدها الذي تلقفته النيران وهو حي!! – فقبل أن يغادر النازحون مدينتهم ظهرت طائرات الأنتينوف يقودها ضباط الجيش الحكومي وقذفوا المدينة بالقنابل وبراميل المسامير الحارقة وقاموا بمطاردة من بقي مدافعاً من الشباب والكبار وفجروا أدمغتهم وأفنوا كل حيٍ يرزق الي أن تحولت المدينة وربوعها الي ركام رماد – أحداث يستحيل معها بقاء الطفل على قيد الحياة … رحماك يا الله!!
ومن وقتها دشنت الإنقاذ منهج إبادة للإنسان في ريف دارفور بقتله وهزيمة كرامته وانسانيته وتدمير بنيات حياته وعيشه الكريم، ومطاردته أينما حل. ونشأ الأطفال في المعسكرات وقد فاتت الآلاف منهم قوافل التعليم تماماً كما أرادت وخططت حكومة النخبة المركزية. فهل سيعوض مبلغ 750 مليون دولار، ولو دًفعت كل يومٍ تباعا لعشرة أعوام قادمات، هل ستعوض عن أرواحاً أُعدمت ظلماً أو أطفالا ماتوا حرقاً؟ هل سيجلب هذا المبلغ حياةً ومستقبل لأناس عاشوا طفولتهم ومراحل نموهم مشردين ونازحين ولاجئين ومحرومين في وقت كانت الدولة تصرف أكثر من مليون دولار يومياً للحرب ثلاثة عقود ونيف من الزمان، مبالغ أكثر من ربعها تُجني من ثروات دارفور، ولم نسمع أو نقرأ وقتها امتعاضا أو احتجاجاً ممن يصرخون اليوم ويسخطون وينتحبون مستنكرين أن تخصص هذه المبالغ التي لا تعوض واحداً بالمائة من جرائم النخبة التي ارتكبتها في حق انسان دارفور منذ استقلال السودان.
يجب أن يُحمد ويُشكر لأبناء دارفور قبولهم بهذا المبلغ الزهيد الذي ما هو الاّ عطية مزين، نفهم انهم قبلوا به تقديراً لأوضاع السودان الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وحباً وكرامةً في أهله وأملا في ازدهار مستقبله الديمقراطي، قبلوا بمثل ما ضحوا بأرواحهم لعقود ليمهدوا لثورة ديسمبر 2018 لتنتصر. أما نسبة ال20% التي خُصِصَت لأبناء دارفور بالجامعات فهي لن ترد حقاً مهضوماً لأكثر من ستة مليون نسمة لمدة ثلاثة عقود أُجبر خلالها أكثر من مليون شاب منهم ليخوض البحار والأهوال هرباً وسعياً وبحثا عن فرصة أفضل للتعليم وللحياة فابتلع البحر معظمهم وقاسي الكثيرون تعذيباً يُدمي القلب. لمن ينادي بالحرب افتراءً ومكابرة نقول له/ا بأن الحرب في دولتنا لا يعرفها الاّ من اعترك ساحاتها، وأنها ليست نزهةً مسائية للترفيه في الحدائق العامة، بل هي البشاعة في أبشع صورها لا يتشدق بها الاّ متغطرسون بجهالة ومفارقون للحكمة. أما النساء فهن، واقعياً، أكثر من ينادي بالسلام ويعمل من أجله لأنهن أكثر من اختبرن مرارات الحرب وبشاعتها هنا، وعادةً يمثلن أكثر ضحاياها بؤساً في كل مكان.
لا نريد للسودان أن تسود فيه مثل هذه الأصوات النشاز المدفوعة بالكراهية والحنق لأسباب أكثرها شخصية وتربوية، بل علي الجميع أن يهب من أجل استدامة السلام ودعم مساعي الدولة وحكومة الثورة لتحقيق شعار حرية، سلام وعدالة. وعلي الأصوات المفلسة من قيم العدالة والحب للوطن والتي أدمنت لغة العنصرية والبغضاء، عليها أن تخرس وتتنحي لتفسح للطيبين أن يشدوا وينيخوا راحلة السلام، فهناك أيضاً من نفذ صبره وبلغ به السيل الزبى وصار لسان حاله يقول: إن عادوا عدنا، ونحن لا نتمنى العود للفريقين، لأنه لن يكون للجميع أحمدا!
د. سعاد الحاج موسي
[email protected]