الابادة الجماعية الاولي لاهل دارفور والسودان
تحقيق / الاستاذ / ابراهيم محمد اسحق
كاتب صحفي و باحث في مجال التراث
في المقال السابق تناولنا ملامح من تاريخ سلطنة دارفورودخول القبائل العربية الي دارفور ، وكيفية مقتل السلطان ابراهيم قرض ، وفي هذه الجزئية نستعرض تحالف اهل دارفور في مواجهة حكم الاتراك ، وكيف ان الشمال النيلي اصبح شريكا لاهل دارفور في مقاومتهم للتركية .
حيث صاهر المهدي سلاطين دارفور وتزوج بنت عم السلطان علي دينار ، الا ان حنكة وسياسة المهدي لم تكن تتمثل في خليفته ، حيث استنصر الخليفة عبدالله التعايشي بالقبائل الرعوية الوافدة من غرب افريقيا وهو اول من اسس مسالة العرب والزرقة فكان يسلح القبائل العربية الرعوية الموالية له ويحرم الاخرين باعتبارهم افارقة او زرقة ،واتبع سياسة التهجير القسري للقبائل الدارفورية ، كما استخدم سياسه البطش والتنكيل ، واستعان بالقبائل الرعوية وفرض مفاهيم تعارضت بمبداء سلطة وسيادة القبائل علي ديارها .
مما نتج عنه تعارض بين مصالح ومفاهيم زعماء القبائل ذات الديار واستراتيجية الخليفة ، فانقسمت المهديه الي حلفين ، مجموعة حلف الخليفة واهله من العربان ، وقبائل دارفور بزعامة الفور وحلفهم مع الدناقلة والشايقية ، وقد مهد هذا الانقسام لاحقا لهزيمة معسكر الخليفة عبدالله التعايشي ، وعودة اهل دارفور لحلفهم القديم تحت قيادة السلطان علي دينار.
وكانت لعلي دينار وجهة نظره تتفق مع وجهة نظر عالم جليل هو بن خلدون فيما يتعلق باعتماد الخليفة علي معسكر حلفائه من القبائل الرعوية والعربان ، والذين انهمزموا امام جحافل القوات البريطانية الغازية نتيجة الحروبات الداخلية التي خاضها الخليفة مع اهل السودان وقد حدثت الا بادة الجماعية الاولي لسكان السودان والتي ذكرها السلطان علي دينار في مذكرته بان دارفور صارت قفارا ، حيث كان عدد سكان السودان قبل ظهور المهدية حسب الاحصائيات الرسمية حوالي 5 مليون نسمة ، وبعد حروبات الخليفه التي خاضها نتيحة سياسة التهجبر، صار عدد سكان السودان مليون ونصف نسمة ، وقد لاقي حوالي اربعة مليون ونصف حتفهم في عهد حكم الخليفة ، وحينما ادار حلفائه وجهتهم نحو دارفور وجدوا السلطان علي دينار قد تمكن من اعادة عرش اجداده وسد طريق دارفور امامهم .
حكم التركية في دارفور :
لم يستمر حكم التركية في دارفور طويلاً لأنهم مارسوا المكر والخداع حتى على من سلمهم حكم دارفور فتم سجن الزبير باشا مكافأة له ومات مأسوراً في سجون القلعة بمصر.
أستمر الفور في ثورتهم على الحكم التركي وتمكنوا بحسن سياستهم من إعادة الحلف مع القبائل ذات الديار مرة أخري. واستطاع هذا الحلف من مواجهة الحكم التركي الظالم حتى ظهرت المهدية فتوسع حلف مقاومة الأتراك بهجرة المهدى إلى كردفان فصار الشمال السوداني شريكاً في الحلف بقيام الثورة المهدية التي كان وقودها قادة زعماء كردفان ودارفور بعشائرها المختلفة.
وتمكن المهدى من مصاهرة سلاطين الفور بزواجه من الميرم (الأميرة) مريم بنت نورين بن السلطان محمد الفضل وبالرغم من أن الثورة المهدية بدأت ثورة ضد الظلم والاستعمار في عهد المهدى، إلا أنها تحولت بمجرد وفاته إلى قمة للظلم وذلك في عهد خليفة المهدى. فاستطاعت القبائل العربية من البقارة ذات الولاء الأعمى للمهدية وقبائل الفلاتة القادمة من غرب أفريقيا للصعود إلى أعلى قمة جهاز الدولة المهدية وذلك في وجود الخليفة عبد الله التعايشى.
وظهرت بوادر تمرد قبائل دارفور بزعامة الفور على سلطة المهدية. وتمكنوا من الحصول على الدعم العسكري من السلطنات الأفريقية المجاورة لدارفور !! وعادت معهم في الحلف القبائل العربية ذات الأصول بدارفور بدافع الحفاظ على مكانتهم وديارهم متى ما تمت للفور إعادة دولتهم. ولكن معسكر الخليفة وحلفاءهم كانوا على النقيض منذ ذلك الوقت فهل يكرر التاريخ نفسه للمرة الثانية؟! فبدأ انقسام قبائل دارفور إلى مجموعتين متحالفتين. وشعر الفور ومعسكرهم من القبائل الأصلية أن قبضتهم بدأت تضعف وأن سلطانهم على وشك الزوال. في ذات الوقت بدأت القبائل الغائرة على حكم
الفور تبدى رغبتها في إزالة السلطنة.وللأسف فإن معسكر الخليفة كانت قراءته للأحداث ولواقع الأمور خاطئة. وأعتمد في سياسته على البطش والتنكيل واستقطاب القبائل الصغيرة التي ليس لها أي وزن والمهاجرة من غرب أفريقيا والتي دفعتها ظروف القهر الاستعماري للبحث عن ملاذ آمن في السودان على حساب أهله الذين أصبحوا يعادون الخليفة واعتبروا انتماءه للتعايشة مجرد غطاء وقناع وأرجعوا أصوله للقبائل الوافدة من غرب أفريقيا بل أعتبروه من الفلاتة النوردو. وحقيقة فأن أصل التعايشة كقبيلة موجودة في تشاد وأفريقيا الوسطى.
كذلك انتفضت وثارت بعض القبائل العربية ذات الديار المستقرة في دارفور منذ قديم الزمان فشعر الرزيقات بالغبن من دولة الخليفة لأنه همشهم. وسيق التعايشة مكبلين إلى دار الهجرة فصارت الحكامات يغنين أغنياتهن (زمينوا بنيرانوا أخير من المهدى وجنانوا). وَصِرْنَّ يؤلبن الرجال على القتال في صف الفور ضد المهدى .. وتوالت الضربات على حكم الخليفة وأهله من الأعراب لأنه وسع الحرب شمالاً نتيجة إجباره لبعض القبائل للهجرة قسراً وشعر الأشراف بالإهانة لتفضيل الخليفة للأغراب عليهم كما شن الخليفة الحرب على قبائل الجعليين والشايقية والدناقلة وفروعهم وما أغاني التراث الشعبي لثقافة الوسط إلا ذاكرة للشعب السوداني لما خاضه الخليفة من الحروبات وبات ذلك دليلاً على بطش الخليفة الذي مارسه على القبائل ذات الأصول السودانية تاريخياً. وأنقسم السودان الكبير إلى حلفين، حلف السكان الأصليين والأشراف المناسبين لسلاطين الفور والقبائل المنضوية تحت لوائهم من عرب وعجم.
وعلى النقيض من ذلك حلف الخليفة التعايشى ومجموعة القبائل المنضوية تحت لوائه حتى جاءت الطامة الكبرى بدخول القوات الإنجليزية إلى الخرطوم. فوجدت قبائل السودان الشرقي الفرصة للتحرر من الخليفة وحكمه ووقفت في صفوف القوات الغازية. وانعكست الآية بعد أن حاربت مع المهدى ضد الاستعمار كذلك وجد الفور وحلفاؤهم من الرزيقات وبعض الدناقلة والمساليت والزغاوة الفرصة لإعادة عرش سلطنة الفور الى الوجود مرة أخرى وإعادة القوى الحيوية لها حتى تتمكن من الوقوف أمام السيل المتدفق من البشر القادم من غرب أفريقيا. بعد أن سمعت بقيام دولتهم في ارض الميعاد – أرض النيل
وستظل هنالك اسئلة كثيرة حائرة؟
لماذا شن الخليفة حملته على قبائل السودان الأصلية وحاول انتزاعها من جذورها؟! ويحس الإنسان بشعور ملئ بالاسى من تصرف الخليفة حيال النساء والأطفال. ففي مذكرات السيد/عبد الرحمن المهدى يحكى كيف لاقى الذل والهوان هو ووالدته من قبل الخليفة وكيف كان يعاملهم بالقسوة رغم أنه كان طفلا صغيرا ووالده هو الامام المهدى. وقد أدت بهم الظروف لأكل أوراق الشجر هو ووالدته وأخواله من الفور وعلى رأسهم السلطان على دينار. وكان رد الخليفة للطفل الصغير أنه يعامله بهذه القسوة حتى لا يتذكر أنه من سلالة سلاطين الفور – أي خواله. ولقد ذكر السلطان على دينار في مذكراته كيف أنه لاقي الاستفزاز في عهد الخليفة .. وقال أن الخليفة قام بتشريد جميع أهل دارفور وقام ببيع زوجاته واطفاله ..وان دارفور صارت قفاراً من شدة بطش الخليفة بالعلماء والقادة والمصلحين..مما ادى بالسلطان على دينارلوصف حكم الخليفة ودولته (بدولة العربان الضعاف)..
التقت وجهة نظر السلطان على دينار مع وجهة نظر عالم جليل هو ابن خلدون الذي وصف هذا الصراع بصورة دقيقة قبل موته عام 1406 م. عندما حلل الصراع بين الرعاة والمزارعين .ووصل إلى أن حياة الرعاة الرحل وثقافاتهم تشبه في أصولها حياة العرب و البربر والمغول وان من بين أنواع التحديات التي تواجه الدولة المنظمة في تاريخها هو تهديد الرعاة الرحل لأطراف الدول المستقرة..وتعمل على إضعافها وعندها تنهار تحت ضغط الرعاة, وحينما تنهار الدولة يسرع الرعاة بترك هذه الدولة لأنهم لا يستطيعون أن يفرضوا طريقة حياتهم ونظام حكمهم على شعب حيث أن ثقافتهم العابرة وأنظمتهم السياسية البدائية لا تمكنهم من معالجة المشاكل المعقدة لسياسة الدولة أو تتمشى مع مصالحهم الحقيقية.
ولهذا كثيراً ما يحدث أن يلجأ الرعاة إلى النهب والسلب ثم الانسحاب وبالفعل هذا ما حدث لدولة الخليفة وأهله من الأعراب فبعد أن أسقطوا دولة الفور لم يستقروا وتمكنوا من الاستيلاء على السودان ولم يستطيعوا الاستمرار في الحكم طويلاً وانهارت دولة المهدية. وقد كان الناظر مادبو أكبر زعيم لقبائل العرب المستقرة (الرزيقات) يحمل نفس هذه النظرة وكان يحتقر الخليفة لأنه من قبيلة صغيرة احتمي بقبائل أصولها غير سودانية .. وجاهر الناظر مادبو بأن الخليفة أصلاً من الفلاتة القادمين من فولتا العليا. وأهم سؤال يجب الإجابة عليه هو هل كان المهدي هو المهدي المنتظر حقاً ؟! وأي عقيدة كان يعتنقها الخليفة عبد الله التعايشى عندما قام بقفل طريق الحج أمام حجاج السودان الغربي ؟! وهل كان محقاً بدعوته للحج إلى الجزيرة أبا بدلاً عن شد الرحال إلى مكة ؟!
وما هي القوي الخفية التي وقفت خلف الخليفة حتى يتمكن من الصعود على قمة جهاز الدولة المهدية. وساعدته على نشر أفكاره ومعتقداته.
يقول اللواء معاش أبو بكر أبو حراز في بعض محاضراته أن : الخليفة قدم أصلاً من غرب أفريقيا وكانت تسيطر عليه فكرة المهدية. وحاول تحقيقها في بعض ممالك أفريقيا ولكنها لم تجد قبولاً أو أرضاً خصبة. وللعلم فقد كان الخليفة جاهلاً بعلوم الشريعة والدين.
لذلك استهجن فكره كثير من العلماء وأغلبية السلاطين والأمراء من أفريقيا الغربية. وكذلك لم يتمكن الخليفة من نشر فكرة المهدية شمال أفريقيا لسيطرة الحركة السنوسية ولكن حينما حضر إلى دارفور توجه إلى كردفان. فوجد ضالته في شخصية محمد أحمد المهدى. وقال له أنك المهدي في بادئ الأمر أنكر عليه الإمام ذلك وما كان من الخليفة إلا أن هجم عليه وألقاه أرضاً وقال له إنك أنت المهدى المنتظر فأضطر محمد أحمد للإقرار بأنه المهدى .
والشيء المهم أن الفور الذين كانوا يسيرون القوافل إلى بيت الله ويرسلون المحمل وكسوة الكعبة, وكانوا أدرى بالشريعة أنكروا على الخليفة سلوكه ذلك وأنكروا على المهدى أنه المهدى المنتظر إلا أنهم وصفوه بالشيخ في وثائقهم وقاوم أهل دارفور المهدية أشد المقاومة ومات منهم الآلاف. وتضررت كذلك القبائل العربية الراحلة من المهدية وأسلوبها في الهجرة وعارضت الخليفة الذى بطش ونكل بهم.
وكم كان الخليفة يسوقهم أسرى ومقيدين . وبمجرد دخول قوات الاستعمار للسودان بدأ استقطاب نحو تكتل جديد لخلق حلف آخر. فتكتل الفور والرزيقات والدناقلة والشايقية وبقية حلفاء الفور. وانضموا للواء السلطان على دينار المتحرك من أمدرمان وكانت وجهته دارفور .. لإعادة عرش أجداده وسلطنة الفور إلى الوجود مرة أخرى. وكان لهم ما أرادوا في عام 1899م وقد انهارت دولة المهدية وحلفهم بانسلاخ أهل دارفور وقتل الخليفة وتشتت شمل أهله .
——————————————————-
(أفريقيا فصول من الماضي – أحمد طاهر – دار المعارف 1975م)
هناك روايات تقول: ان عبدالله التعايشى ذهب الى الزبير باشا وعرض عليه فكرة المهدية فانتهره
(منتدى أبو حراز بأمدرمان 1998م).