عند وصولي الخرطوم يوم 7 ابريل الماضي لفت انتباهي الكثير من الاشياء في صالة القدوم في مطار الخرطوم ، و اثناء انتظاري للحصول على تأشيرة الدخول ، كانت مشاعري مختلطة تجاه السوريين والمصريين والباكستانيين من جماعة “الدعوة والتبليغ” و بزيهم المميز الجلباب الابيض والعمة المربوطة بعناية ، وجميعهم يدخل الخرطوم بسهولة وخاصة الاخيرين ، لم اهتم بالأمر كثيرا ومضيت في حال سبيلي و انا اردد “الدين لله والوطن للجميع “.
ولكنني فجعت في اليوم الثاني عندما طالعت بيان مشيخة الكنيسة الإنجيلية الذي يكشف تفاصيل اغتيال يونان عبد الله – احد قيادات الكنيسة الانجيلية بتاريخ ٣ ابريل ٢٠١٧ في باحة المدرسة والكنيسة الإنجيلية بامدرمان ، في تطور جديد لحوادث الاضطهاد الديني والتمييز ضد المسيحيين السودانيين، وترجع تفاصيل الحادثة الي الصراع الذي تخوضه الكنيسة الإنجيلية للدفاع عن أراضي الكنيس
ة و المدرسة، التي تحاول مجموعة مسنودة بوزارة الإرشاد بيعها وتخصيصها للاستثمار.
ويكشف بيان بتاريخ 6 ابريل 20177، تفاصيل هذا الحادث والذي بدأ بهجوم من المجموعة المسنودة بوزارة الإرشاد استعانت فيه بقوات الشرطة لنزع أراضي الكنيسة وتسليمها للمستثمر، وكما كشفت الكنيسة في بيانها عن رفض الوزارة لتنفيذ حكم قضائي سابق يحمي الكنيسة وممتلكاتها.
تألمت كثيرا ان تتدفق دماء السودانيين من المسيحيين دفاعا عن اراضي كنائسهم ،بينما تحتفي الحكومة بالدعاة من باكستان البعيدة والمصريين والسوريين الذين كانوا يجوبون صالة القدوم ، ويقولون كلاما يشيب له شعر الراس !، بعد ان صادف اقرار الحكومة السودانية حصولهم تأشيرات قبل دخول البلاد وهو القرار الذي صادف تنفيذه يوم وصولي لمطار الخرطوم .
عندما قمت في اخر الاسبوع الاول من شهر ابريل بزيارة بعض الاسر المسيحية لمشاركتهم عيد القيامة (الايستر) بعد الصوم الكبير الذي ينهي (أسبوع الآلام) ، وجدت لدى من زرتهم انهم يعيشون سنوات الآلام منذ استقلال جنوب السودان ، الذي اعتبره حكام الخرطوم بداية لحسم هوية السودان الدينية ، الا وهي الاسلام ، الذي لحكمة يعلمها الله ، يأمرهم بمواددة اهل الكتاب ، ولكن لان اسلامهم “مسيس” ، صاروا يضايقون المسيحيون من ابناء بلدهم السودان ، سمعت من الذين استضافوني ما تقشعر له الابدان من المضايقة و الاضطهاد الذي يأخذ اشكالا ادارية بعض الاحيان وممنهجا في احيان اخر .
وكانت صحيفة “الطريق ” السودانية افردت لهذا الامر حيزا في عددها بتاريخ 4 فبراير 20177 كاشفة عن ما يواجهه رعايا 8 طوائف مسيحية في السودان من خطر إزالة 27 كنيسة، في قضية تُعرفها السلطات على أنها متعلقة بالتخطيط العمراني، لكن نشطاء في قضايا الحريات الدينية يرون أن الأمر ليس صراع مستندات، إنما ضرباً من ضروب التمييز على أساس الإنتماء الديني ويهدف إلى التضييق على الحريات الدينية.
يُعيد القراران الوزاريان ، رقم (2015م/78 ـ 2016م/214)، الصادرين من مدير عام مصلحة الأراضي بولاية الخرطوم، بإزالة 27 كنيسة بولاية الخرطوم، إلى الأذهان، عبارة “تاني مافي أي دغمسة”، التي جرت على لسان الرئيس السوداني، عمر البشير، في مدينة القضارف، شرقي السودان، بُعيد أيام على انفصال جنوب السودان، في 9 يوليو 2011.
وكانت محكمة الخرطوم وسط قد حكمت علي عامل الاغاثة بيتر جاسك والذي يحمل جواز سفر تشيكي بالسجن 24 سنة وغرامة مالية بتهمة ( التجسس علي البلاد ) والتسلل إلى السودان خفية والبقاء فيه بطريقة غير مشروعة، بعد ان قبضت عليه بعد دخوله البلاد من اجل معاونة احد الطلاب الذي اصيب في واحدة من التظاهرات الطلابية في الخرطوم كما ادانت المحكمة الباشمهندس عبدالمنعم طولمان بعقوبة السجن 12 سنة و القسيس حسن عبدالرحيم ب12سنة تحت المواد 26، 66،64 من القانون الجنائي والمادة 26 (المعاونة) والتي تنص علي ( كل من يعاون على ارتكاب أي فعل, يشكل جريمة بقصد تسهيل وقوعها” وذلك بعد ان قضوا أكثر من 6 أشهر قبل أن توجه لهم أي تهم .
وكانت الحكومة البريطانية اعربت عن قلقها يومها على هذه الأحكام القضائية وذلك على لسان وزير الدولة للخارجية البريطانية بعد جلسة استجواب للوزير في البرلمان البريطاني من نواب بريطانيين وقال الوزير” أن بلاده ظلت تتابع القضية عن كثب كما تتابع في الوقت نفسه انتهاكات حرية المعتقد والأديان فى السودان”.
وجرى بعدها اطلاق سراح عامل الاغاثة بيتر جاسك بعد حضور وزير خارجية بلاده الى الخرطوم ومناقشته القضية مع نظيره السوداني قبل ان يعود مع مواطنه جاسك عامل الاغاثة المسيحي في 26 فبراير / شباط، كاشفا عن كيفية تعامل سلطات السجن معه بقوله : “ربما كان الشهران الأولان الأكثر خطورة بالنسبة لي لأنني وضعت في زنزانة مع أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية _داعش- الذين أذلوني كمسيحي. وبعد ذلك، تصاعد على الإذلال والضرب البدني والتعذيب النفسي “، وقال انه تم نقله من سجن الى سجن – خمسة مرات كان الوضع يزداد سوء على سوء “كانت إحدى الغرف في السجن تعرف باسم “الثلاجة” لأن السجناء يتعرضوا لضخ الهواء البارد باستمرار انه سجن رهيب “.
ولم يقتصر التضييق على المسيحيين في السودان على السجن و نزع الكنائس وتهديمها فقط بل طال التضييق قادة المجتمع الكنسي فقد نقل “راديو تمازج” استدعاء الأجهزة الأمنية السودانية القس مبارك حماد، رئيس مجلس الكنائس السودانية،وطالبته بعدم التحدث عن مخطط النظام الحاكم لهدم الكنائس أو عن اضطهاد المسيحيين فى السودان عقب مشاركته في مؤتمر صحفي، يناقش قضية الانتهاكات التي يتعرض لها المسبحين في السودان، في عهد حكومة الرئيس عمر حسن البشير،عقده اتحاد طلاب جبال النوبة بالجامعات والمعاهد العليا بالخرطوم، في 11 فبراير، حول “إصدار الحكم في قضية القساوسة، وقضية الفقيد محمد الصادق ويو” بالإضافة إلى الانتهاكات، التي يتعرض إليها طلاب وشعب جبال النوبة.
وكان مبعوث الاتحاد الاوربي الخاص بحرية الاديان وقضايا المرأة، يان فيجل، استفسر 16 مارس الماضي البرلمان السوداني، عن حرية الإعتقاد الديني بالبلاد، واسباب هدم كنائس و دور العبادة المسيحية.
في وقت اعلن فيه البرلمان “ان 90% من اجمالي سكان السودان، بعد إنفصال الجنوب، مسلمين، بينما تتمتع الطوائف الدينية الاخرى بحرية تامة في ممارسة شعائرهم ومعتقداتهم الفكرية”.
وقال رئيس لجنة التشريع والعدل وحقوق الانسان بالبرلمان، احمد التجاني، في تصريحات صحفية عقب لقائه بالمسئول الاوربي : “ابلغنا فيجل ان حرية الاديان والعقيدة مكفولة بموجب الدستور الانتقالي ووثيقة الحقوق لعام 2005م”- على حد قوله.
وأبلغ التجاني للمبعوث الاوروبي ان “الدولة لا تحجر او تفرض اي معتقد او ممارسة دينية على اي فرد من مواطنيها، ويحق للمسيحيين ومعتنقي كل الديانات حرية التعبد”- طبقاً لتصريحه الذي نفى من خلاله “انتهاج الدولة سياسة رسمية لهدم كنائس المسيحيين”، وقال: ” إن حدثت حالة او حالتين فهما لاتخرجان من اطار النزاع على ملكية الارض والتى لم تسلم منها مساجد المسلمين”.
وفي هذا الخصوص يقول نائب رئيس حزب المؤتمر السوداني المعارض خالد عمر يوسف ” الأمر جد خطير .. هنالك إستهداف ممنهج للمسيحيين وتزايد مضطرد في محاولات فرض هوية أحادية للبلاد لا تعترف بتعددها الثقافي الواسع .. سياسات الإقصاء والهيمنة التي طبعت مسار الدولة السودانية منذ الاستقلال اتخذت في عهد هذا النظام شكلاً أكثر بشاعة وتطرفاً وقادت لتقسيم البلاد ولجرائم إبادة جماعية واسعة وواجب قوى التغيير أن تتصدى بحسم لهذه القضايا لأن هذا الوطن لن يسعنا جميعاً دون أن ينهض على قاعدة العدالة والمساواة”.
وكان التجاني قال : ” الكنائس تنتشر في كل بقاع السودان فضلا عن تواصل المسلمين والمسيحيين في الاعياد والمناسبات الدينية مما خلق بيئة للتعايش والتسامح”.وفي هذا السياق كنت تحدثت الى احد قادة المجتمع المسيحي الذي نفى حديث المسؤول السوداني على اطلاقه وقال ” المجتمع السوداني من حيث هو مجتمع لا يضايق المسيحيين فهناك بعض المناطق في السودان في جبال النوبة والنيل الازرق بل جتى في الخرطوم وسط البلاد هناك عائلات كثيرة تضم مسيحيين ومسلمين ولا دينيين في العائلة الواحدة يعيشون في ما بينهم على احسن وجه وعلى مستوى المجتمع باسره يتبادل الجميع التهاني والاماني الطيبة ” ولكن اضاف بحسرة ” المشكلة ليست مع المجتمع المشكلة مع جهاز الدولة الرسمي الذي يرد تغيير هوية السودان بالقوة ليحوله من بلد متعدد الاديان الى بلد تعاني فيه الاقليات الدينية من التضييق الذي يصل مرحلة القتل مثل ماحدث للقس يونان ” موضحا ” ان الدولة بطريق مباشر او غير مباشر تغض الطرف عن الممارسات السالبة التي تقوم بها بعض الجماعات الاسلامية المتشددة ضد المسيحين مثل ما حدث في كنيسة الجريف “
وتتحدث كثير من التقارير الاعلامية ان السودان يوجد في اراضيه عدد كبير من الخلايا النائمة لتنظيم داعش ويحتضن جهاز الدولة الرسمة جماعات تكفيرية متشددة معادية للمسيحيين بشكل واضح وموالية لداعش بشكل اخف ، كما تعتبر الخرطوم واحدة من الممرات الامنة لأعضاء التنظيمات المتشددة بشكل عام وداعش بشكل خاص حيث غادر منها بشكل غريب اكثر من 25 من طلاب الجامعات منهم نحو 12 طالبا طب يحملون جوازات سفر بريطانية .
وعند القبض على منفذ هجوم اسطنبول الدامي مطلع هذا العام وجدت معه فتاتان واحده منهم عبرت عبر الخرطوم حيث وجد معهم عملات نقدية سودانية وإيصالات من محلات تجارية في الخرطوم .
وكانت العاصمة السودانية شهدت قبل اسابيع حادثة انفجار في واحدة الشقق بحي اركويت احد الضواحي الراقيه في الخرطوم وقالت الشرطة يومها ان الشقة كانت على مايبدو وكرا يتم خلاله تعليم متشددون كيفية صناعة العبوات الناسفة ،يشار الى ان متشددون اسلاميون أضرموا النار في الكنيسة الانجيلية بضاحية الجريف غرب، شرقي الخرطوم، قبل ان يدمروها بواسطة بلدوزر، في أبريل 2011 ، فيما تم تدمير كنيسة أخري بمنطقة الحاج يوسف، شمالي الخرطوم، 2011، وسبق للحكومة السودانية ان هدمت ،مطلع يوليو 2014م، كنيسة بحي العزبة مربع 19 ، بمنطقة طيبة الأحامدة، شمالي الخرطوم.
وقال الأمين العام لمجلس الكنائس السوداني، كوري الرملي – في تصريحات إعلامية، العام الماضي – ” إن إعلان الحكومة السودانية بأنها لن تسمح بإصدار تصاريح بناء للكنائس أصابه بالدهشة”. وتابع الرملي، “نريد من الحكومة أن تمنحنا مكانا نبني فيه كنيسة جديدة. نحن مواطنون والدستور ينص على حرية المعتقد وحرية العبادة، ونحن نطالب بحقوقنا الدستورية.
ما يدهش ويخزي في نفس الوقت هو هذا الصمت الداخلي والاقليمي والدولي المريب تجاه الاعتداءات والمضايقات التي يتعرض لها المسيحيون في السودان ،وهو ما نلحظه بوضوح في البيان الصادر عن اجتماعات لجنة الحوار المشتركة ما بين الحكومة البريطانية والسودانية ،وهو اللقاء الذي خلى تماما من اي اشارة لقضايا الحريات الدينية ، حيث قتل فسيس اثناء المباحثات ويقضي قساوسة اخرين عقوبة السجن ، وتستهدف وزارة الارشاد و الاوقاف الدينية دور العبادة ،ولكن لم يفتح الله على اللجان الوزارية الاشارة الى اي من هذه الاحداث ، بل صعد الى سطح البيان الحديث عن (الاستثمار المتبادل )في موارد الارض ، وترك المسيحيين لربهم يحميهم ، وهو على ذلك قدير عبر اخوانهم المسلمين السودانيين ،وهم على ذلك قادرون ان صحت الضمائر ،وخلصت النوايا في احداث تغيير شامل ، وهو اتي لا ريب في ذلك ،ولو بعد حين ،والى ذلك الوقت صبرا أيها التعابى المحزونون فإن الحق سيخلصكم و موعدنا ساحات التغيير ولو بعد حين