محمد بشير ابونمو
[email protected]
نحن نعيش الان فى زمن يحق لنا ان نراجع كل (الثوابت) التاريخية فى السودان ، ابتداءً من تاريخ السودان المدون ، الشخصيات التاريخية المفروضة علينا مثل تاجر الرقيق الاشهر الزبير باشا ود رحمة والذى تم تكريمه بتسمية شارع باسمه فى وسط العاصمة القومية ، احتفال الاول من يناير باستقلال السودان ، الخرطوم عاصمة السودان الموحد ، انتماؤنا كبلد لهيئة اقليمية عنصرية مثل الجامعة العربية ، حقيقة الثورة المهدية وبُعدها الدينى ، والكثير من الامور التى ينظر اليها الناس على اعتبار انها حقائق تاريخية لا تقبل الجدال . ولان لكل واحد من هذه “الثوابت ” يحتاج الى مقال منفصل او ربما كتاب لشرح المآخذ المرتبطة بها ، فدعونى اتحدث فى هذا المقال فقط عن الاستقلال كحدث ، وهل هو تاريخ جدير بالتذكير والاحتفاء ؟ ، ولكن ماذا حدث فى صبيحة الاول من يناير من عام 1956 ؟
فى هذا اليوم جرى احتفلال رمزى تم بموجبه مراسم تسليم وتسلم حكم دولة السودان ذات المليون ميل مربع ، ما بين المستعمر ” الحكم الثنائى الانجليزى المصرى ” ومجموعة صفوية قليلة من اهل السودان ، وهذا امر لا غبار عليه من حيث المبدأ وخاصة وقد تم الاستقلال من غير سفك قطرة دم واحدة ، تم الاعلان عنه بقرار من داخل برلمان منتخب ومن ثم تم اعتماده من قبل دولتى الحكم الثنائى مصر وانجلترا بشكل حضارى قل ما يحدث فى ذلك الزمان من اى دولة استعمارية ، عكس الكثير من الدول فى محيطنا الاقليمى ، حيث تجد من يتحدث عن مليون شهيد ثمنا للاستقلال ، وهذا من حسن طالع الشعب السودانى بلا شك . ولكن ماذا حصل بعد الاستقلال فى اطار الاعداد والتنفيذ الفعلى لتمكين الوطنيين لحكم البلاد بديلا عن المستعمر ؟
بخروج المستعمر شغرت حوالى الثمانمائة وظيفة تطلب شغلها بالكوادر الوطنية ، ومن هنا بدأت القسمة الضيزى والتى تواصلت اثارها الى يومنا هذا وجرت علينا كل المصائب التى نعانى منها الان ، ويقال ان جنوب السودان كان حصتها من هذه القسمة اربعة فقط من الوظائف الشاغرة ، اما حصة كردفان ودار فور فكانت لا شئ حسب معلوماتنا المتوفرة !
قد يقول قائل ان الحكم الوطنى لا ذنب له فى ذلك ، لانه لا بد من مليئ الوظيفة من وجود شخص مؤهل ، وربما لم يتوفر مؤهلين من ابناء الاقاليم المذكورة فى ذلك الوقت وهذا شأن الحكم الاستعمارى لعدم توسيع قاعدة التعليم ليشمل كل الاقاليم ، ولكن هذا قول مردود ، صحيح ان معظم المتعلمين فى ذاك الوقت من الاقليم الشمالى والوسط بحكم تركيز المرافق التعليمية فى تلك الاقاليم لظروف فرضها الحكم الاستعمارى نفسه لخدمة اغراضه المتمثلة فى حوجة السلطة الى بعض المتعلمين بمستويات معقولة لتسيير دولاب الحكم المدنى ورفد المرافق المرتبطة بالبنية التحتية التى تخدم السلطة الاستعمارية مثل السكة حديد والنقل النهرى والمشروعات المرتبطة بها مثل مشروع الجزيرة بالموظفين ، والتى كلها تقريبا تقع فى اقليمى الشمال والوسط ، ولكن لا يوجد مبرر مقنع لحرمان اقاليم واسعة مثل كردفان ودار فور من هذه الحصة (الوظائف الشاغرة) والتى تعتبر ضخمة بمقاييس ذلك العصر (800 وظيفة ) ، وحتى ولو قبلنا بالافتراض الساذج والغير مقنع بالضرورة ، بعدم وجود اى متعلم باى مستوى فى كل من اقليمى دار فور وكردفان ، كان من العدل والاوفق سياسيا حجز عدد معقول وعادل من الوظائف للاقليمين وللاقاليم المهمشة الاخرى حتى يتم تأهيل بعض ابنائها ومن ثم توظيفهم ، وهذا الاجراء كان ممكن عمليا لان عملية الاحلال لا يتم فى ليلة وضحاها وبل هى عملية مستمرة ويمكن حجز مائة وظيفة مثلا للاقليمين والاقاليم الاخرى والابقاء على الموظفين الانجليز او المصريين لفترة سنتين او ثلاث او حتى لفترة اطول حسب ظروف التأهيل ليتم توظيف ابناء هذه المناطق والمناطق الاخرى مثل شرق السودان وجبال النوبة والنيل الازرق وكل المناطق المهمشة بما فيها جنوب السودان والتى خرجت باربعة وظائف ، وهى حصة بعيدة بكل المقاييس عن حصتها العادلة . الخطورة هنا ليست فقط فى الظلم الذى وقع على باقى اقاليم السودان من تولى ابناء الاقليم الشمالى والوسط من دون الاخرين لكل الوظائف المخصصة للسودنة تقريبا ، بعد خروج المستعمر ولكن الخطورة الحقيقية هى ما تأسس على هذا الظلم وتأثيره على مستقبل شعب السودان ككل والتى انتظمت تبعاتها الى ما نحن فيه الان من المصائب والحروب وخطل الحكام امثال البشير وزمرته . الخطورة هى ان من تولوا حكم السودان هم نفس المجموعة التى قبلت بتوزيع وظائف السودنة على اقليمين من اقاليم السودان فقط دون بقية الاقاليم ، وبالتالى اشخاص بهذه العقليات هم ابعد ما يكونوا بمواصفات رجال دولة جديرين لبناء دولة حديثة ومتعددة الاعراق ، وبالتالى غابت عنهم النظرة الشمولية للسودان باقاليمه واختلاف شعوبه ومتطلبات التنمية وتوزيعها بشكل عادل على بقاع السودان ، وعلى رأسها التنمية البشرية . هذه كانت بذرة ثورة الهامش التى انطلقت فى بقاع مختلفة من السودان بدءً بالجنوب الذى ذهب الى غير رجعة و ثورة ابناء النيل الازرق وجبال النوبة بالاشتراك مع الاخوة فى جنوب الوطن الذى انفصل الان كما هو معلوم ، وكذلك ثورة دار فور وشرق السودان .
ولكن السؤال المهم ماذا استفاد شعب السودان فى غالبه من الاستقلال حتى الان ؟ رحم الله جدى الذى لم ينقطع يوما عن كيل الثناء للمستعمر الانجليزى ورجالاتها حتى تاريخ مماته ، وعندما سألته يوما لماذا لا اسمع عنه يوما ثناء لحكام السودان الوطنيين ، ولكنه اسكتنى بسؤال ساخر قائلا : من هم الحكام الوطنيون واين هم ولماذا لا يزوروننا كما المفتش الانجليزى الذى كان يتفقد احوالنا فى السنة الواحدة مرتين او ثلاث ، علاوة على انه حاكم لا يُظلم عنده احد ؟
ولكن دعك من حديث الجد فى زمنه الغابر ، ودعنا نتحدث بلسان المواطن العادى اليوم فى عهد الانقاذ ودعونا ايضا نتجاوز سياسات الساسة الخاطئة والفساد الذى ازكم الانوف وسياسات التمكين الواسعة وتشريد الموظفين بعشرات الآلاف والضنك المعيشى الذى يعيشه المواطن الان والذى لا يضمن وجبة مشعبة واحدة فى اليوم مع اطفاله ، نتجاوز كل ذلك ونسال لماذا يرتكب (الحكم الوطنى) جرائم فى حق الوطن والمواطنين لم يرتكبها حتى المستعمر الغاشم ؟ لماذا حرق قرى الآمنين بالطائرات ؟ لماذا تجنيد التتر (الجنجويد ) من داخل و خارج الحدود لاستهداف المدنيين العزل وقذف اطفالهم احياءً فى النيران المشتعلة وتشريدهم من بعد ذلك من ديارهم الى مخيمات النزوح واللجوء بشكل ممنهج ومقصود ؟ لماذا تضرب الحكومة العزل من محتجى انشاء السدود المطالبين بحقوقهم العادلة ؟ لماذا تضرب السلطة بيد من حديد الاحتجاجات السلمية التى خرجت فى العاصمة وبعض المدن الرئيسية فى سبتمبر الماضى وقتلت بدم بارد فى ايام معدودة اعدادا تجاوزت المئتا شخص ؟ وبل لماذا يرتكب (الحكام الوطنيون) جرائم التطهير العرقى والابادة الجماعية وجرائم ضد الانسانية ضد شعوبهم العزل للدرجة التى يتدخل فيها المجتمع الدولى وتوجه ابشع التهم لقادة النظام وعلى رأسهم رئيس البلاد ؟
لقناعتى الراسخة بان حكم المستعمر – ايا كان المستعمر وجنسيته – لا يجرؤ على ارتكاب مثل هذه الجرائم فى مواطنى مستعمراته لا فى السودان ولا فى غيرها من البلدان ولا ارى اننا وفى ظل الحكم الوطنى قد خطونا اى خطوات فى اتجاه دولة تحترم مواطنيها وحقوقهم وبالتالى لا ارى امرا مشجعا للاحتفاء فى تاريخ الاول من يناير من كل عام باعتباره تاريخا لجلاء المستعمر وتمكين الحكم الوطنى .
محمد بشير ابونمو
لندن
31 ديسمبر 2013م