من الملاحظ أنّ المؤسسة العسكرية، ونعني بها القوات المسلحة السودانية، منذ فجر الاستقلال لديها اعتقاد جمعي رسخ بانها معنية بالمصير السياسي للبلاد، التي نالت استقلالها مدنيا من تحت قبة البرمان، وتحت هذا الاعتقاد التوّهمي، لم تتوانَ القوات المسلحة في الانفضاض علي السلطة المدنية لصالحها أو بالوكالة لصالح تنظيمات سياسية، لكن في الحقيقة هي دائماً ما تخفي نواياها السلطوية، تحت ذريعة حماية مصالح البلاد العليا، والتي هي من فرّطت فيها بسكونها علي الأراضي السودانية المحتلة، والتفرج علي العبث بوحدة تراب البلاد لصالح الأوهام الايدلوجية الأصولية!
من البديهيات المعلومة للجميع، أنّ الدولة المدنية ترتكز علي السلطات الأربع المعروفة التشريعية، والرقابية، القضائية والتنفيذية، ومن المعلوم بالضرورة أنّ النيابة العامة والجهاز العدولي يحتاج إلي القوة الشرطية لضبط الحياة العامة، وإنقاذ القانون، وإن جهاز الأمن الوطني جزءاً أصيل ضمن هذه المنظومة.
إلي هنا لا حاجة للدولة المدنية للجيش، الذي بات راعي الضأن في بواديه المفتوحة يعلم أنّ دورهم يتمحور حول حماية الحدود برا وبحرا وجوا من الاعتداءات والتدخلات الخارجية، والتصدي لكل ما يهدد الأمن القومي بما في ذلك الكوارث الطبيعية، ولا شأن لهم بالحكم، ولا اختصاص لهم في الشأن السياسي، هذا الأمر واضح وضوح الشمس، ومعمول به في كافة الدول التي عبرت إلي بر الحكم المدني الرشيد، بل من حق ومن واجب السلطة الرقابية، مساءلة القوات المسلحة ومحاسبتها إن قصرت في واجباتها في حماية تراب الوطن، لأنه عمليا ينبغي أن يدفع المواطن رواتب ومخصصات قيادات وأفراد القوات المسلحة، وتدفع الخزانة العامة فواتير تسليحها وتدريبها، ومن الطبيعي أن من يدفع يأمر ويحاسب، أما أن تستقل القوات المسلحة ماليا، لتبتز الحكومة المدنية، فهذا وضع مخل، لم يحدث إلا في عهد الإنفاذ لافتقاره لرجالات دولة، ولا غرو انه كان حكما عسكريا شموليا مؤدلجا، وأن قيادات تنظيم “الكيزان” الحاضن للحكم كانوا أشباه رجال، ولم يتحلوا بالمسؤولية .
من الذي منح القوات المسلحة الوصاية علي مقدرات الشعب السوداني؟ الإجابة التي لا مراء فيها، هي قوة السلاح التي امتلكوها بمال الشعب، إذ لا يوجد تشريع أو عرف يمنح الجيش الوصاية علي المصير السياسي للبلاد، ولولا السلاح لما استطاعوا الخوض في الحياة السياسية، من اجل أن يحكموا، ويحموا انفسهم من المحاسبة على تقصيرهم وتجاوزاتهم، ومن أجل أن تتمتع قياداتها بالامتيازات والرفاهية المعيشية علي حساب الشعب، ولهذا اصبحوا لا يتوانون في تصويب السلاح المقتنى بمال الشعب إلي صدور أبناءه الشباب بلا رحمة ولا ضمير؟
من الأوهام الواجبة دحضها ، أنّ الدولة المدنية لا غنٍ لها عن حماية القوات المسلحة، والتجارب أثبتت أن ما يفضح هذا الادعاء، وفي الحقيقة هي دائما ما تمثل دور “حاميها حراميها”، وهي سارقة السلطة الأوحد، والخطر الحقيقي علي مصير البلاد، وهي العقبة الكأداء في طريق تحقيق أحلام شبابه في الحياة الكريمة، القائمة علي الطمأنينة والمنزهة عن الخوف، والمرتكزة علي القانون والنظام والانضباط، حتي السلطات الجمركية، كانت ضمن السلطة المدنية، ويجب أن تعود إليها ومن العيب الذي بلغ حد الفضيحة، أن تؤمن القوات المسلحة، قوافل تهريب صادرات البلاد، لم يتصور أحد أو تصل القوات المسلحة إلي هذه الدرجة من عدم المسؤولية، ولا غرابه في ذلك طالما أنها سمحت لمليشيات غير منضبطة، تفتقر العقيدة الوطنية وولائها لقائدها وليس للوطن، أن تكون موازية لها، وندٍ لها!
انشغلت الحكومة الانتقالية ببعض الفارغات، وركنت علي الضمانات الدولية لحماية التحول الديمقراطي من السرقة والنتيجة معروفة، والأولى كان ينبغي التركيز في تأسيس قوات شرطية، احترافية ومحايدة، يكمن الركون إليها، لبناء قوات شرطية مسئولة، يجب أولا تحريرها من قبضة الجيش، وتحريرها من سطوة العسكر، وإسنادها تشريعيا للسلطة المدنية وتضخيم ميزانياتها وعدد أفرادها .
لو إن القوات المسلحة، انقلبت علي حكومة مدنية لمنع تفتيت وحدة البلاد، لقال قائل إن هذا الأمر ليس سياسيا بحتا، إلاّ قائدها العام هو من اقر فصل جنوبنا الحبيب، عربوناً لخلود المؤسس العسكرية وحاضنتها السياسية في الحكم، فهم شركاء في عار التفريط في وحدة البلاد ولولاهم لقامت سلطة مدنية، أرجأت مثل هذه الأمور إلي إرادة الشعب، وكشفت المؤامرة الدولية وراء هذا الأمر الذي لم ولن يؤرق مضجع العسكر المتشدقين برعاية وحماية مصالح البلاد العليا، إن حكم العسكر بصمت، لكان أرحم لهم، لكن ما لبثوا يصدعون رؤوس الشعب السوداني بأن الأوضاع لن تستقر إلا بهم، وفي الحقيقة هم أس البلاء رغم أننا كنا حذرين ألاّ نظلمهم، وإن منهم وطنيون ومن بينهم عقلانيون!
خلاصة القول، أنّ الدولة المدنية ليست في حاجة لانحياز الجيش، لتبدأ مسيرتها، المطلوب منهم التزام الحياد فقط، والتزام ثكناتها، والاستعداد لتحرير أراضي البلاد المغتصبة إذا دعى الداعي .
جرائم القوات المسلحة في حق الشعب السوداني مرصودة وموثقة، وهم يصرون علي التشبث بالحكم لارتكاب المزيد منها، هنا محك الصراع بين الحق الباطل، بين الجيش ولجان المقاومة الباسلة، فقد أباد الجيش شعب دارفور وجبال النوبة، وارتكبت قياداتها مجزرة القيادة العامة، وفصلت القوات المسلحة الجنوب وقتلت ما يقارب المائة شاب بدم بارد منذ انقلاب ال 25 اكتوبر، هذه الخطايا الكبيرة والغير مبررة كافية لتوبة القوات المسلحة، والابتعاد عن الشأن السياسي إلي الأبد، والخطيئة التي لا تغتفر سماحها لمليشيات غير منضبطة أن تكون موازية لها وتتحكم في رقاب ومقدرات الشعب السوداني بلا حسيب ولا رقيب! في سابقة تعتبر فضيحة بكل المقاييس.
//إبراهيم سليمان//
ردرد على الكلإعادة توجيه |