نعم لتصدير إناث الإبل والبقر والضأن والماعز د. أحمد هاشم/جامعة لندن

نعم لتصدير إناث الإبل والبقر والضأن والماعز

د. أحمد هاشم/جامعة لندن
يحتل السودان المركز الثاني في أعداد الإبل (4.5 مليون رأس) عالميا بعد الصومال وتليه ‏أثيوبيا، النيجر، موريتانيا، تشاد، كينيا، مالي، باكستان والهند. تنتج إبل السودان 150 ألف طن من اللحوم و120 ألف طن من اللبن في العام، وتصدر الدولة حوالي 150 ‏ألف في رأس في العام إلى مصر وليبيا ودول الخليج. تضاعف استهلاك لحوم الإبل في السودان أربع مرات منذ منتصف التسعينات، أما ألبانها يتم استهلاكها محليا في البادية والأرياف ولا تدخل في صناعات الجبن. إن الإبل بطيئة النمو والإنتاج مقارنة بالبقر والضأن والماعز، إذ تبدأ الناقة الولادة فيما بين 5 إلى 7 سنوات وتلد مرة واحدة كل عام في أفضل الأحوال وتنتج 820 إلى 2400 لتر من اللبن على مدى 12 – 18 شهراً (فترة الرضاعة).
منذ مطلع العام تضاربت القرارات الحكومية بين وزارة التجارة ووزارة الثروة الحيوانية وبنك السودان بشأن تصدير إناث الماشية. الرافضون لتصدير الإناث يبررون ذلك إلى فقدان الأصول الوراثية للماشية السودانية. وفى هذا الإطار وعدت جمعية حماية المستهلك بعقد ورشة عمل بمشاركة الاختصاصيين والجهات ذات الصلة لمناقشة الآثار السلبية لهذه القرارات على أصول الماشية (شبكة الشروق). الأسئلة المحورية التي لم يتطرق لها أحد، على الرغم من كمية الحبر الذي سود أوراق الصحف الورقية والرقمية. ما هي الصفات الوراثية الهامة التي تملكها الماشية السودانية؟ وهل الإناث هن الناقل الرئيسي للصفات الوراثية في تربية الحيوان الحديثة؟
الثروة الزراعية التي انتظمت العالم الحديث في السبعينات قامت على نظرية أن رأس الماشية هو وحدة إنتاجية لتوفير اللحوم أو اللبن. ولذلك تم تصنيف القدرة الاقتصادية للماشية والدواجن على حسب مقدرتها لتحويل الأعلاف إلى إنتاج ذو قيمة اقتصادية عالية. على سبيل المثال، تحول الدجاجة 3 كيلوجرام من العلف إلى كيلوجرام واحد من اللحم في أربعين يوماً، بينما يحتاج الضأن إلى 5 كيلو والبقر إلى 7 كيلوجرام من العلف لإنتاج كيلوجراما واحدا من اللحوم. لا توجد إحصائيات دقيقة للإبل لأنها ليست ذات جدوى اقتصادية لإنتاج اللحوم أو اللبن مقارنة بالضأن والبقر والماعز والدواجن ولهذا اقتصرت تربيتها في الدول الفقيرة التي ما زالت تمارس الرعي المتنقل وتقطنها مجتمعات بدوية. يعتبر لحم الإبل أقل مذاقاً وقيمة غذائية من بقية اللحوم الحمراء والبيضاء، لذلك يضاف إليه شحم السنام ليكسبه مذاقاً في مطاعم الأسواق الشعبية. ويقتصر استهلاكه وسط المجموعات الأكثر فقراً في العالم، لذلك تضاعف استخدامه في السودان على مدى العقود الماضية تبعاً لزيادة معدلات الفقر وتردى مستوى المعيشة.
لقد اختفت تربية الإبل في غالبية دول شمال أفريقيا والجزيرة العربية مع تحسن ظروف الحياة وانحسار المجتمعات البدوية والتحول إلى الحضارة والمدنية. بل صارت الإبل في بعض دول الخليج العربي وسيلة للتسلية والترفيه كما هو الحال في سباق الهجن. دخلت الإبل أستراليا في مطلع القرن التاسع عشر للنقل والاستكشاف، لكن سرعان ما تخلى عنها أصحابها وتوحشت بعد اعتماد الضأن والبقر في الإنتاج الحيواني، وتوفرت وسائل النقل الحديث. أدى توحش الإبل إلى كوارث بيئية ومشاكل اقتصادية وسط المزارعين عندما وصل عددها مليون راس في عام 2009. قامت الحكومة الأسترالية بحملة ضخمة للتخلص من الإبل بضربها بعيارات نارية عن طريق المروحيات والحملات الأرضية إلى أن انخفض عددها إلى حوالي 160 ألف رأس بنهاية عام 2013. أثارت هذه الحملة موجة من السخط لأن لحوم هذه الإبل لم يتم استخدامها وتركت في العراء غذاء لابن آوى والصقور.
ذكرنا في مقالات سابقة* أن الماشية السودانية فقدت الصفات الوراثية لإنتاج اللحم واللبن نسبة لظروف تربية الحيوان البدائية والرعي المتنقل الذي يستهلك كل طاقة الحيوان في الترحال لآلاف الكيلومترات والبحث على الأعشاب والماء في فترة الجفاف التي تمتد إلى ثمانية أشهر في العام، بالإضافة لموجات الجفاف المتلاحقة وتقلص المراعي. ومن المؤكد أن الثروة الحيوانية السودانية لا تملك أي صفات وراثية تنافس بها السلالات الحديثة إنتاجا واقتصادا. ولهذه الأسباب لجأ المزارع الحديث المقتدر حول حزام العاصمة على اقتناء سلالات حديثة من الدواجن الهولندية وأبقار الفريزيان وسلالات الماعز الشامي من سوريا لإنتاج اللبن، وسلالة ماعز السعانين من جنوب أفريقيا لإنتاج اللحوم. هذا بالإضافة لمراكز التلقيح الاصطناعي في حلة كوكو في الخرطوم بحري لسلالات الأبقار الفرنسية والبريطانية. في حقيقة الأمر أن السودان في حاجة للتخلص من سلالات ماشيته المحلية واستبدالها بسلالات حديثة ذات جدوى اقتصادية لتلبى حاجة الفرد وتزيد استهلاكه في العام من 20 كيلوجرام من اللحوم و19 لتر من اللبن، إلى معيار الدول النامية وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية البالغ 30 كيلوجرام و50 لترا تباعاً في العام*.
في العالم الحديث وحتى في البادية السودانية يتم نقل الصفات الوراثية المرغوبة عن طريق ذكور الماشية (الفحول) وليس عن طريق الإناث، وهكذا الحال في التلقيح الاصطناعي العابر للبلدان والقارات. البادية والريف تساهم بنسبة 90% من إنتاج الثروة الحيوانية ونصف هذه الثروة من الإناث، وحينما تتساوى قيمة الذكور والإناث في أسواق الصادر يؤدى ذلك للارتفاع بدخل المنتج في البادية والأرياف، إذ يعتبر المنتج الصغير أضعف حلقة في سلسة تصدير الماشية (إناثاً وذكوراً). إن أصحاب الماشية والرعاة في البادية يعيشون في أقسى ظروف الحياة حتى في هذ ا القرن الذي تقوده التقنية المتطورة، ولم توفر لهم الدولة منذ الاستقلال وسائل استقرار الرعي، ملكية الأرض، التربية الحديثة، التعليم، الصحة، السكن، الماء والكهرباء. مع كل ذلك لم يجد البدو من يدافع عن حقوقهم حتى من أبنائهم الذين تعلموا واختاروا الحياة المدنية بكل مباهجها على حياة البادية في الخيام وتحت الأشجار والنجوم. بل ظل بعضهم ينظم الشعر والأدب النرجسي للغزل في حياة البادية على الصحف الرقمية من على أريكة مكاتبهم الوثيرة وسط هدير المراوح ومكيفات الهواء، مع كامل علمهم بأن نسبة الأمية في البادية تفوق 95%، وبالطبع لم يصل الحاسوب الجوال والتقنية الحديثة القلة التي تستطيع القراءة. بل تبنى بعض المتعلمون من أبناء البدو الفكر الجمعي السوداني الساذج الذي لا يبحث عن جذور المشكلة وينغلق على نفسه دون رؤية العالم من حوله بنظرة علمية تحليله ناقدة. وبهذا الفهم الخاطئ يحمون دون أن يدركوا المستهلك والتاجر والمصدر على حساب المنتج البدوي والريفي. تماماً كما تفعل جمعية حماية المستهلك، مثلما يكشف اسمها عن هدفها، وهو حماية المستهلك في العاصمة على حساب المنتج في الريف والبادية (فحسبكم هذا التفاوت بيننا …….وكل إناء بالذي فيه ينضح).
الثروة الحيوانية في السودان على الرغم من أعدادها الهائلة عجزت عن توفير الاكتفاء الذاتي من اللحوم والألبان للإنسان وفق معيار منظمة الصحة العالمية، وذلك لأسباب أساسية أهمها تدنى صفاتها الوراثية ونهج نظم إنتاج بالية قادت إلى التنافس الحاد على الموارد الطبيعية المتناقصة بين البدو الرحل والمزارعين المستقرين. أجج هذا التنافس الحرب في دارفور والاقتتال بين القبائل وبطونها في كردفان، بعد أن صبت عليهما حكومة الإنقاذ جازولين مصفاة الجيلي، وأشعلته بالكبريت الصيني، ودعمته من عائدات نفط وذهب غرب وجنوب السودان*. إن الطريق طويل وشاق للحاق بالدول التي استخدمت سلالات ذات صفات وراثية عالية واستطاعت توفير الأغذية الكافية لمواطنيها. وتبدأ خارطة الطريق بالنقد الذاتي والفكر المنهجي والتحليلي الذي يقوده العلم، بعيداً عن الفكر الجمعي الساذج الذي يتخيل تسكع إناث الماشية السودانية في مزارع مصر وليبيا والخليج العربي. كل الدول الى تصدر الماشية تساوى بين الإناث والذكور، لكن المشكلة الأساسية في السودان ليست تكمن في منع تصدير إناث الماشية بقدر ما هي لماذا تم اتخاذ قرار المنع في المقام الأول، وما هي الأسس العلمية التي ارتكز عليها مثل هذا القرار في بلد يبلغ نصف ماشيته إناثاً! وهل طالت سطوة الذكور في المجتمعات السودانية إناث الأنعام؟
المصادر: منظمة الزراعة والأغذية للأمم المتحدة*؛ أبيى: ما جدوى الرعي المتنقل والقتل من أجل الموارد المتناقصة*؛ لغز معادلة اللحوم: 100 ألف رأس من الماشية على 30 مليون نسمة*؛ النظر خلف حدود أبيى وكادوقلى: ما جدوى الرعي المتنقل؟
* http://kurdofan.kordofan.co.uk/#home
د. أحمد هاشم، باحث في كلية الملكة ميرى للطب جامعة لندن

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *