ناطقة رسمية سابقة تزيح الستار عن شبكة الأكاذيب وأنصاف الحقائق والكتمان التي نسجتها مؤسسات تابعة للأمم المتحدة في دارفور
لا يمكننا أن نقول كل ما نراه في دارفور
بقلم عائشة البصري *
ترجمة: صلاح شعيب
صرح السيد رودولف أدادا، أول رئيس لبعثة حفظ السلام المشتركة في دارفور (يوناميد)، منذ ما يقرب من خمس سنوات بأن الحرب في دارفور قد انتهت فكان هذا التصريح مضللا. ولقد شكك كثير من الناس في دعواه، ولم أكن من بينهم. إذ إنني في ذلك الوقت كنت من ضمن الناس الذين ألقوا على أعينهم غبارا وكانوا ينظرون إلى مايجري في دارفور كمجرد نزاع تقليدي بين المزارعين والبدو الرحل.
وفي هذه الحالة من الإنكار، تواصلت مسيرتي المهنية مع الأمم المتحدة إلى ان تقلدت منصب المتحدثة باسم بعثة الإتحاد الإفريقي و الأمم المتحدة في دارفور و المعروفة بإسم اليوناميد في عام 2012. وكان إطلاعي المبكر على الأهوال التي تحدث تحت شمس دارفور القاسية قد جعلني أشعر كما لو كنت أخرج من كهف إفلاطون. لقد صارعت ضد حالة الإنكار التي كنت أعيشها، وبمرور الوقت كنت مضطرة للاقتناع بحقيقة أن الحرب البشعة ضد المدنيين مخفية عن أنظار العالم.
ففي يوم 25 اغسطس 2012، أي بعد تسعة أيام فقط من وطأ قدمي أرض دارفور، وصلتني مكالمة من صحافي يعمل في راديو (عافية دارفور) ومقره واشنطن، يستفسر فيها عن تقارير عن اشتباكات في منطقة طويلة بشمال دارفور. وبعد المكالمة عكفت على الحصول على معلومات من مسؤولي يوناميد ولقد جاء الرد: “وفقا لقادة الجيش والشرطة في الميدان، فإن الوضع في محلية طويلة هادىء. أمس لاحظوا أن القوات المسلحة السودانية والميليشيات العربية تتحرك جنوبا”.
عدت إلى الصحافي بما سمعته عن “الوضع الهادئ ” بيد أنه قد تأكد فيما بعد أن ذلك الرد كان كذبة نقلتُها عن غير قصد. بعد وقت قصير عينت يوناميد بعثة للتحقق في ما جرى في طويلة ولاحقا تأكد بما لا يدع مجالا للشك أنه خلال يومي 24-27 أغسطس قامت عناصر تابعة لقوات الحكومة السودانية كانت تتنقل على متن أكثر من 150 مركبة عسكرية بمهاجمة أربع قرى تقطن أغلبيتها جماعات من الزغاوة، والفور، وذلك بحجة الاشتباه في كونهم يؤيدون المتمردين في دارفور. وتأكد التحقيق بأن الجنود قد اغتصبوا عددا من النساء، واعتدوا كذلك على الرجال والأطفال، ونهبوا الممتلكات، ودمروا عددامن المزارع.
و كان سكان طويلة قد نبهوا بعثة يوناميد في يوم 26 اغسطس الى الهجوم في وقت اضطر الآلاف منهم إلى الفرار من منازلهم. ولكن قوات حفظ السلام لم تسرع الخطى نحو حمايتهم. لقد انتظرت هذه القوات أربعة أيام حتى تغادر قاعدتها للقيام بدوريات في القرى التي عايشت الحدث، والذي كان مسرحه يبعد نحو 12 ميلا فقط.
كانت حادثة طويلة من بين العديد من الإخفاقات المنهجية للأمم المتحدة التي تمكنت من توثيقها. وهي تجسد مدى كذب يوناميد على وسائل الإعلام، وفشلها في حماية المواطنين في المنطقة، أو في بعض الحالات فشلها حتى في بذل جهد لهذه الحماية المفترضة.
سعيت إلى فهم ما حدث في طويلة، ولهذا سألت نائب قائد قوة يوناميد الجنرال كيسامبا وينجونيس، لماذا لم يرصد ولم يرفع حفظة السلام تقارير عن حركة القوات الحكومية مع “المليشيات العربية” ، والتي تعني في مصطلحات الأمم المتحدة جماعة الجنجويد سيئة السمعة. أجاب قائلا:” في بعض الأحيان علينا أن نتصرف مثل الدبلوماسيين، لا نستطيع أن نقول كل ما نراه في دارفور.” اكتفى كيسامبا بهذا الرد، ولم يعط تفسيرا كذلك عن أسباب موقفه هذا.
تصريح كيسامبا هزني حتى النخاع، وكررت التساؤل ذاته في اجتماع لكبار المستشارين، وكان كيسامبا حاضرا بنفسه. أذكر أن صمتا محرجا ملأ أرجاء القاعة، مع غياب أي نقاش، إذ لم يدل أحد بأي تعليق. وبعد أربعة أشهر وأنا أواصل إثارة تساؤلات حول تقارير البعثة المعيبة، باحت لي السيدة عايشتو ميندادو، القائمة بأعمال رئيس يوناميد في ذلك الوقت- باحت لي في رسالة مكتوبة بأن “شخصين أو ثلاثة أشخاص اختطفوا البعثة”….هناك الكثير من التلاعب وهؤلاء الأشخاص لهم أجندات أحيانا لا تتماشى مع ولاية البعثة، ولا مع مصلحة أهل دارفور.” وكشفت ميندادو أن جميع المعلومات الواردة من البعثة تم التلاعب بها وتحويرها، وأن هذا الأمر لا تتفق معه، وقالت إنها كانت تبذل قصارى جهدها لمعالجته.
ومع مرور الوقت أصبح من الواضح ان الكذب، والكتمان، وأنصاف الحقائق لا يقتصر على بعثة اليوناميد في دارفور، بل إنها تشمل إدارة عمليات حفظ السلام، وبعض وكالات الأمم المتحدة، وحتى الأمين العام للامم المتحدة بان كي مون. وتقرير بان بشأن دارفور الذي يغطي الفترة من يوليو إلى سبتمبر 2012 (S/2012/771) تجاوز ذكر حقيقة الهجوم على طويلة. كما أنه لم يسع إلى تنبيه مجلس الأمن إلى حملة القصف المكثفة للحكومة السودانية التي قتلت أعدادا كبيرة من المواطنين في دارفور، بما في ذلك أكثر من 100 مدني في منطقة هشابة وحدها.
والأكثر إثارة للقلق في هذا التقرير هو أن بان أرجع مقتل مدني واحد وجرح ثمانية آخرين في الخامس من سبتمبر بالقرب من بلدة كتم إلى “تبادل لإطلاق النار بين الحكومة وقوات الميليشيات المسلحة العربية”. والحقيقة هي أنه لم يكن هناك تبادل لإطلاق النار، أو معركة. فقط أن الذي حدث هو أن جماعة من المواطنين العزل كانوا يستقلون شاحنة إلى مدينة كتم. وقد اوقفت “المليشيات العربية” الشاحنة، وأطلقت عليهم النار وقتلت وجرحت بعضهم بدم بارد، وذلك أمام أعين قوات حفظ السلام يوناميد الذين التقطوا صورا لهذه الحادثة بما فيها هذا الهجوم على المدنيين.
إن شبكة الأكاذيب التي نسجتها عدد من المؤسسات التابعة للأمم المتحدة في دارفور جد شاسعة. فتقارير الأمم المتحدة عن المنطقة إنتهجت أسلوبا أرويليا يقول شيئا وهو يعني عكسه. على سبيل المثال، يتم الحديث عن “الضربات الجوية” عوضا عن القصف العشوائي للمدنيين و”اشتباكات متقطعة” عوضا عن الحرب المستمرة، و” العنف القائم على نوع الجنس” عوضا عن الاغتصاب الممنهج. وبالنسبة لإشاراتهم الى القوات النظامية التابعة للرئيس السوداني عمر البشير كثيرا ما كنت أتساءل عن كيف يمكن أن يكون هناك أي شيء “نظامي” لحشد من المقاتلين الذين ينتهكون القانون، و يعملون بالاشتراك مع فرق الموت، يعني الجنجويد الذين لا يفرقون بين المدنيين والمقاتلين، يفتكون الأطفال بالقنابل، ويروعون الكبار، ويغتصبون النساء، وينهبون، ويحرقون كل ما يمكنهم حرقه.
في السياق نفسه، وربما الأكثر فظاعة هو إزالة الأمم المتحدة لكلمة “الجنجويد” من قاموسها. ففي يوليو 2004، وإستجابة للضغوط الدولية، منح مجلس الأمن الخرطوم ثلاثين يوما لنزع سلاح الجنجويد وتقديم قادتهم إلى العدالة، أو مواجهة “مزيد من الإجراءات “. ولكن بدلا عن نزع سلاح الجنجويد تجرأ الرئيس السوداني على إدماج عدد غير محدد منهم في القوات المساعدة التابعة للحكومة، بينما واصل آخرون القتال من على ظهور الإبل والخيل، مرتدين الملابس المدنية، أو الزي العسكري. وقد حذر تقرير فريق خبراء الأمم المتحدة في 30 يناير 2006 مجلس الأمن من هذه الحيلة.
ويبدو أن نية مجلس الأمن لحرمان ما يسمى ميليشيا الجنجويد من حيازة الأسلحة، من خلال اعتماد القرار 1556 (2004)، تم التحايل عليها إذ أن عددا من الميليشيات كان بالفعل جزء رسميا من أجهزة الأمن الحكومية، أو أدمجت المليشيات في الأجهزة الحكومية، وبخاصة قوات الدفاع الشعبي، واستخبارات حرس الحدود، وشرطة الاحتياطي المركزي، والشرطة الشعبية وشرطة الرحل وذلك بعد إعتماد القرار 1556.”
إن الأمم المتحدة فشلت في البوح لأهل دارفور والعالم بهذه القصة. حين إدعت الخرطوم أن الجنجويد في دارفور لم يعودوا موجودين بالفعل، فلقد تظاهر دبلوماسيو الامم المتحدة بأنهم لم يروهم أثرا أيضا. فلقد تحدث مبعوث الأمم المتحدة للسودان آنذاك جان الياسون إلى رويترز في أكتوبر 2008 و قال إن الجنجويد لم تعد مجموعة واضحة المعالم. أما البعثة والأمم المتحدة فقد أخفوا أيضا كلمة “الجنجويد من التقارير والتصريحات العلنية. ومنذ نشر العملية المختلطة في عام 2008 ظهرت كلمة الجنجويد” التي وردت مرة واحدة فقط ضمن أكثر من ثلاثين تقرير بشأن دارفور، ومما لا شك فيه أنها ظهرت عن طريق الخطأ!
وعوضا عن ذلك استخدمت الأمم المتحدة عددا كبيرا من التسميات الخادعة، منها “الميليشيا العربية “،”الميليشيات الموالية للحكومة”،”الميليشيات المتحالفة مع الحكومة”،”الميليشيا القبلية العربية”،”الميليشيا القبلية”،و”الجماعات المسلحة”. وكونها تفعل ذلك فإن الأمم المتحدة قد تبنت الخط الرسمي للحكومة السودانية في إلقاء اللوم بسبب الفظائع على صراعات القبائل والمليشيات الخارجة عن السيطرة. والحقيقة أن لا شيء يمكن أن يجعل البشير وحكومته أكثر سعادة من ذلك. فقد عرضت الأمم المتحدة ذريعة مثالية لهم ليزعموا أنهم أبرياء من الجرائم التي ارتكبت من قبل قواتهم الخاصة، في الوقت الذي يدعون في الواقع أنهم سرحوا الجنجويد.
إن تعقيدات هذه الحرب استغرقت مني شهورا لفهم مجرياتها وما تعنيه مسمياتها. ومع ذلك كان أكبر كفاحي عرض إجابات صادقة ـ وفي الوقت المناسب ـ للأسئلة المتزايدة الملحة من الصحافيين الذين كانوا يائسين لعدم سماع الحقيقة حول الجرائم التي ارتكبت في دارفور، وهوية مرتكبيها. وتمر اسابيع دون الإيفاء باستفسارات وسائل الإعلام، إذ لم يتم الرد عليها بشكل كاف، وإن حدث ذلك يكون رد اليوناميد غامضا. وفي حالات كثيرة يتنازل المحررون بعد تجاوز وقت الاجابة عن العديد من اسئلتهم التي تموت تبعا. وأنا أيضا أنهكت جسدي بنضالي المستمر للحصول على إجابات موثوقة وفي الوقت المناسب إلى أسئلة وسائل الإعلام.
وفي الرابع من أبريل 2013، أي ما يقرب من ثمانية أشهر من تقلدي منصبي استقلت. إذ اكتشفت أن قوات يوناميد – خلافا لادعاءاتها – لم تبذل أي جهد لمنع المتمردين العدائيين والمدججين بالسلاح من إختطاف 31 من النازحين، كانوا مسافرين تحت حراسة اليوناميد لحضور مؤتمر للنازحين يوم 24 مارس في نيالا.
بعدها لم استطع ان اتكلم نيابة عن بعثة غير قادرة على حماية المدنيين العزل، وغير قادرة عن التوقف عن الكذب حول الأحداث الجارية في الإقليم. وبينما كنت أستعد لمغادرة البعثة بعد بضعة أسابيع، تجلى السر وراء تشويه الأمم المتحدة اللفظي المفضل للحقائق، وأعني بذلك السر وراء استخدام عبارة ” معتدين مجهولي الهوية” لوصف من يهاجم قوات يوناميد. ففي ليلة 18-19 أبريل 2013 تعرضت قوات اليوناميد إلى هجومين في غضون أربع ساعات في مدينة مهاجرية (في شرق دارفور) من قبل قوات الحكومة السودانية. أسفرت المعركة الطويلة عن وفاة أحد جنود حفظ السلام وضابط سوداني. وفي الصباح الباكر الذي أعقب وقوع الحادث اقتحم الملازم إبراهيم أبو بكر عبدالله، يرافقه بعض الجنود، مقر يوناميد، وهناك هدد بشن هجوم آخر في حال فشل البعثة في دفع الدية مقابل قتل يوناميد لأحد ضباطه.
وبناء على نصيحة من كارين تشالين، رئيس الأركان بالبعثة، وبدعم من رئيس قسم الاتصالات والإعلام، مايكل ماير، قرر رئيس يوناميد الجديد محمد إبن شمباس تشويه هذه الحقائق. لقد أصدر بيانا تطرق إلى الهجوم الثاني فقط ، حول الجناة التابعين للحكومة إلى “مهاجمين مجهولي للهوين” وتم طمس كل الحقائق التي تثبت مسؤولية جنود الحكومة عن الهجوم – هذا على الرغم من إعرابي عن قلقي إزاء هذا التقرير غير الدقيق والناقص الذي يضلل الحقائق، بما قد يشكل انتهاكا للسياسة الإعلامية للأمم المتحدة.
وفقا لهذا تركت دارفور ثم كتبت تقرير نهاية مهمتي في 11 مايو 2013، والذي فصلت فيه أسباب استقالتي وطلبت من إدارة عمليات حفظ السلام النظر في انتهاكات يوناميد للسياسة الإعلامية للأمم المتحدة. ولكن تم تجاهل ندائي، وفي يوم 30 اغسطس طلبت رسميا من مكتب خدمات الرقابة الداخلية للأمم المتحدة فتح تحقيق حول العديد من الأكاذيب والتضليل الذي وثقته.
وقد أجابت الأمم المتحدة على طلباتي بصمت مطبق. وبعد فشلي في ملاحقتها من أجل التحقيق عما أثرته قررت وضع هذه المسألة أمام الرأي العام عن طريق تسريب الوثائق التي تظهر ما قامت به الأمم المتحدة من تستر. وبما أنه من الأرجح ألا تقوم الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي – المنشغل بالدفاع عن مجرمي الحرب أكثر من حماية شعب دارفور – بالتحقيق في مخالفات خاصة بهما، فإني آمل من وسائل الإعلام، والرأي العام عموما، أن يأخذ زمام المبادرة، ويدعو الأمم المتحدة، وكذلك الاتحاد الأفريقي، لإجراء المساءلة.
إن قصدي من كل هذا ليس انتقاد الأمم المتحدة، والتي عملت لها بجد وإخلاص لسنوات، وإنما أود فقط تقديم شهادة حول كيفية التستر على الجرائم الخطيرة ضد المواطنين وقوات حفظ السلام الخاصة بدارفور، وإعادة تسليط الأضواء على دارفور. وأملي الآخر هو أن المجتمع الدولي سيوقف، في وقت قريب، المذبحة ويتوسط لسلام شامل وحقيقي لجميع ربوع السودان.
وباعتباري عربية أفريقية، ومسلمة، فإني أرفض أن اظل صامتة بينما يقتل المدنيون الأبرياء باسمي. اخترت أن أنهي مسيرتي المهنية في الأمم المتحدة لاستعادة حريتي في التحدث. لقد فقدت وظيفة فحسب، ولكن عددا لا يحصى من سكان دارفور ما زالوا يفقدون حياتهم.
* متحدثة سابقة باسم بعثة حفظ السلام المشتركة في دارفور (يوناميد)، هذا المقال نشر في مجلة (Foreign Policy) بتاريخ 9 أبريل 2014