في الأسبوع الأخير من مايو المنصرم طرأت مستجدات عسكرية وسياسية بالسودان، ومضت في اتجاه يقتضي تساؤلاً ملحاً عن إلى أين تتجه الحركات المسلحة.
فعلى صعيد الحركة الشعبية شمال، اندلعت منذ الخامس والعشرين منمايو الماضي معارك دامية بالنيل الأزرق بين مكونات جيش الحركة الشعبية هناك، وتبودلت اتهامات بين فصائل من الجيش كلٌ يتهم الآخر بالتصعيد، رئاسة الحركة تتهم مجموعات مؤيدة لمجلس تحرير جبال النوبة بأنها تعمل على تحريض الجيش الشعبي وتهاجم الرعاة وبعض الحاميات، ومجموعات من الجيش الشعبي ترد الاتهام لقوى مسلحة تابعة للقائد مالك عقار رئيس الحركة، والمحصلة معارك داخل الجيش الشعبي تمتد حتى أحد معسكرات اللاجئين، يروح ضحيتها العشرات، وفقاً لبيانٍ صادرٍ من جهةٍ أسمت نفسهاالمجلس القيادي العسكري.
هذا الانفجار في الاوضاع داخل الحركة الشعبية لا يمكن قراءته بعيداً عماحدث في الس
ابع من مارس الماضي بعد إستقالة القائد عبدالعزيز الحلو ومقررات مجلس جبال النوبة التي جمَّدت نشاط الأمين العام للحركة ودعت لمؤتمر قومي استثنائي، خاصةً وان أبناء الجبال يشكلون نسبة مقدرة منقوام الجيش الشعبي بالنيل الأزرق بعد إنضمامهم لنصرته عند بداية الحربالثانية.
أما حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي فقد تعرضت مواقعها لهجوم من مليشيا الدعم السريع في شمال وشرق وجنوب دارفور، وفقاً لبيانٍ صادرٍ عن الحركة والذي قال إن مقاتلي الحركة استبسلوا حتى نفدتذخائرهم فاستشهد عدد من القادة وأُسر عددٌ آخر بعد أن كبدوا مليشيات الدعم السريع خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات.
لكن حجم الخسائر في قوات الحركة وعتادها ينبئ عن عامل المفاجأة الذي يضع قوات الحركة، وهي قد قاتلت لقرابة الأربعة عشر عام في ذاتالحيّز الجغرافي في وضعٍ مكشوفٍ جعل منها هدفاً ربما سهلاً لقوات الحكومة، وهنا يحتاج الأمر لوقفة، إذ كيف تفاجأ حركة مسلحة على أرضهافتضطر لخوض المعركة حتى آخر جندي، أهو سوء تقدير ام إنه أمرٌ آخرأكثر سوءاً؟!
جانبٌ آخر كشفه بيانٌ للحركة؛ وبعد انجلاء المعارك قالت حركة تحريرالسودان أن مليشيا الدعم السريع قامت بمهاجمة عدداً من القرى وأحرقتهابالكامل وقتلت مواطنيها ونهبت ممتلكاتهم، وهذا يحدث عادةً في فوضىالحرب بدارفور ، غير أن اﻷمر الذي يثير الدهشة أن قادة هذا الهجوم منقبل الدعم السريع هما القائدين عبدالله شغب ومحمدين اورقاجور وقد كاناحتى اتفاق أبوجا في العام 2006 من أبرز القادة العسكريين بحركة تحرير السودان، حيث كان عبدالله شغب قائدا للواء الحدود ومحمدين قائداً كبيراً لأحد ألوية الحركة، ثم وفي لمحةٍ أقرب للكوميديا السوداء انتقلا لمهاجمةالمناطق التي كانا على استعداد للموت دفاعاً عنها..!
وعلى صعيد حركة العدل والمساواة السودانية.. وصل وفدٌ للخرطوم يضماثنين من مؤسسي وقادة العمل المسلح بدارفور، ففي الثلاثين من مايوالمنصرم حطَّت بمطار الخرطوم طائرة تقل الباشمهندس أبوبكر حامد نور ، أحد أبرز مؤسسي وقادة الحركة، والذي شغل منصب منسق عام الحركة فيبداياتها ثم أميناً لأمانة التنظيم والإدارة بها قبل أن تصدر حركته بياناً بفصله مؤخراً. يرافقه الشيخ سليمان جاموس أمين أمانة الشئون الانسانية، وقد تم إعفاءه من منصبه قبل أيام، جاموس أيضاً من مؤسسي العملالمسلح بدارفور في جانب حركة تحرير السودان، وقد كان من رافضي إتفاقأبوجا لينضم في ابريل 2009 لحركة العدل والمساواة السودانية، جاءالرجلان للخرطوم برفقة أعضاء من الحركة، يحملان مبادرة للسلام منالداخل بعد خمسة عشر عاماً من العمل الفاعل في المقاومة المسلحة بدارفور.
السؤال؛ هل لا زالت القوى المسلحة قادرة على حملة السلاح؟!
الواقع يقول ان من أكبر مشاكل العمل المسلح الآن هي حالة عدم الرضاالتي تسود داخل فصائل المقاومة المختلفة، فبعضها ظهرت فيه صراعاتوإنقسامات أُرجِعت لغياب المؤسسية، وظهر تململٌ في صفوفها في صورةمذكرات تطالب بالإصلاح، كما اتجهت بعض العضوية، وحتى قادة منالصف الاول، لتجميد عضويتها تلقائياً دون ضوضاء، وقد يمضي الامراكثر من ذلك فتبدأ الانقسامات في محاولة الإعلان عن نفسها، كما فيالحركة الشعبية شمال، او يحدث التفلت في صفوف العسكريين والسياسيينفينحازوا لمعسكر الحكومة، ما يعني نزفٌا للعضوية التي آمنت وعملت فيميادين مشروع هذه الحركات للمقاومة المسلحة لسنواتٍ طويلة، يستوي فيهذا التسرب القيادات والقواعد خصوصاً بالمجموعات المسلحة بدارفور .
وبدأ البعض في البحث عن وسائل لإختراق حالة اللا حرب ولا سلم، فيلتقطون قفاز المبادرة منفردين في محاولةٍ لإنجاز ما يمكن انجازه كما فيحالة ابوبكر حامد وجاموس من العدل والمساواة.
وهنا يجب ان نضع في الإعتبار الظروف الإقليمية التي تصب في غالبها فيمصلحة الحكومة، فدولة الجنوب كانت آخر من طلب من المجموعات المسلحةإخلاء أراضيها تنفيذاً لاتفاقاتها مع الحكومة، أما دولة تشاد فأصبحتمنصة لعقد الاتفاقات مع حملة السلاح.
هل لازالت هذه القوى تؤمن بحمل السلاح كطريقٍ للتغيير؟ في الواقع أنعبارة إسقاط النظام عبر العمل المسلح اختفت من أدبيات القوى المسلحةمنذ إعلان باريس الذي تم توقيعه في الثامن من اغسطس من العام 2014 بالعاصمة الفرنسية، بين الجبهة الثورية (قبل انقسامها) وحزب الامةالقومي، مع ظهور عبارات أخرى بديلة في ثنايا بنود الاتفاق، فقد ورد فيفقرة وقف الحرب، في البنود الثاني والثالث والثامن الآتي: (وقف الحرب هوالمدخل الصحيح لايٍ حوار وطني) و (الجبهة الثورية تعلن استعدادها لوقفالعدائيات في جميع مناطق العمليات) و (أكدت الجبهة الثورية رغبتها فيإنهاء الحرب التي فُرِضت عليها) .
وقد كانت الجبهة الثورية اكثر وضوحاً في موقفها من حمل السلاح فيإعلان نداء السودان الذي وقعته مع حزب الأمة وقوى الإجماع الوطنيوالمجتمع المدني بأديس أبابا في الثالث من ديسمبر 2014 م ، جاء فيإحدى الفقرات ما نصه (العمل من اجل تفكيك نظام دولة الحزب الواحدلصالح دولة الوطن والمواطنة المتساوية، عبر النضال الجماهيري اليوميوصولاً للإنتفاضة الشعبية) انتهى.
إذن ومنذ ذلك التأريخ تغيَّر شعار المقاومة السودانية المسلحة ، وفقاً لما وردأعلاه ، من إسقاط النظام عبر العمل المسلح الى العمل على تفكيكه عبرالنضال الجماهيري .
هذا على مستوى الشعارات، في واقع الأمر ان هذه الفصائل لا زالت تحملالسلاح لكنها لا تحارب الحكومة، قد تحارب نفسها في نزاعاتها الداخلية، وقد تفاجئها الحكومة بهجومٍ على مواقعها، في نهاية الامر فان هذه القوىان أردنا وصفا دقيقا لوضعها الآن، تحتفظ بالسلاح، أو ما تبقى منه، ربماكضامنٍ لأي اتفاق متوقع مع الحكومة، أو للضغط به لتعزيز الوصول لفرصاتفاقٍ تساوي ما قدمته المناطق التي تدور فيها الحرب من خسائرٍ فيالأرواح والممتلكات ودمار لمناطق باكملها وما عاناه الشعب السوداني منغيابٍ للحريات وتدميرٍ ممنهج لكافة أوجه الحياه.
أحداث الاسبوع الأخير من شهر مايو الماضي، كنموذج، داخل القوى التىتحمل السلاح لأجل التغيير، تطرح أسئلةٌ ملحَّة لا يملك أجوبتها الا قادةالفصائل المسلحة أنفسهم؛ هل لا زالت الرؤية واضحة لديهم، هل نزيفالثورة بالمعارك الخاسرة والحروبات الداخلية والانشقاقات والتساقط لايقتضي وقفةٌ واعية لمراجعة واقع ومستقبل العمل المسلح، هل لا زالوا يحملونالسلاح لأجل التغيير؟
سلمى التجاني