وفقاً لسُّودان تريبون في 3 فبرير 2019، طَلَبَت إثيوبيا من السُّودان تشديد الرَّقابة على عمليات تهريب الأسلحة عبر الحدود المُشتركة، وتضييق الخِنَاق على المُهرِّبين (الذين تمَّ تحديدهم) حسب تقرير وزارة الخارجيَّة لمجلس النُوَّاب، وأَلْمَحَ الإثيوبيُّون لـ(نكسةٍ) دبلوماسيَّةٍ بين البلدين، كقَطْعِ هذه العلاقات أو بأقلِّ تقدير تَأثُّرها سلباً، مُؤكِّدين بأنَّهم أبلغوا البشير ومُعاونيه بقلقهم و(جِدِّيتهم) للسيطرة على (حدود بلادهم)!
يجب التذكير بدايةً بعدم وجود أي اتِّفاقية (مُوثَّقة) للحدود بين البلدين، بسبب إثيوبيا التي ظَلَّت (تتهَرَّب) من ترسيم حدودها معنا، طَمَعاً في أراضينا، والتاريخ حافل بصراعاتها/مُمارساتها (في هذا الصدد) مع جيرانها بالقرن الأفريقي. وبالنسبة للسُّودان، فقد استَغَلَّ منيليك الثاني (1889-1913)، هزيمة المَهْدِيَّة أمام الإنجليز، واستولى على بني شُنْقُول والقَلَّابات، بحِجَّة تأمين الطرق التجاريَّة، وادَّعى أنَّ حدودهم تمتد لتشمل القضارف وكركوج على النيل الأزرق، حتَّى مُلتقي النيل الأبيض بنهر السوباط. وتلبيةً لمصالحها الاقتصاديَّة، سَمَحَت بريطانيا لإثيوبيا بـ(حكم) إقليم بَنِي شُنْقُول، دون إشارةٍ للحدود لعِلْمِهَا التام بـ(سُّودانيَّة) الإقليم، على أن يقوم منيليك بـ(دَفْع) مقدار من الذهب المُسْتَخْرَج من الإقليم، لمُمثِّل بريطانيا التي كانت تَحْكُم السُّودان آنذاك، وبذلك أصبح الإقليم في حكم (المُؤجَّرْ)، تدفع الحبشة (ذَهَباً) مُقابل بقائها فيه. وهذا السردُ التاريخي المُوثَّق والمُختصر، ضروريٌ لتوضيح (تَجَذُّرْ) أطماع الإثيوبيين في السُّودان، واغتصابهم السَّافر لإقليم بَنِي شُنْقُول، بإنسانه المُتكوِّن من جميع قَوميَّاتنا السُّودانيَّة الأصيلة، وبخيراته وموارده الطبيعيَّة الوافرة، وهذه كارثة تتحمَّلها جميع الأنظمة التي حَكَمَت السُّودان، والقُوَّى السياسيَّة والنُخَب المُتَحَزِّبة/المُستقلَّة، منذ الاستقلال وحتَّى عهدنا هذا.
ظَلَّ الإثيوبيُّون مُتأهبين للانقضاض علينا، إلى أن وجدوا (ضآلتهم) في البشير وعصابته الإسْلَامَوِيَّة، خاصَّةً عقب (تَوَرِّطهم) في مُحاولة اغتيال حُسني مُبارك عام 1995، فبدأوا باحتلال الفشقة التي تُعدُّ أخصب الأراضي الزراعيَّة بالقرن الأفريقي، وتمَّ قتل المُواطنين ونِهْبِ مُمتلكاتهم وتشريدهم، واستمرَّت تَوَغُّلات الإثيوبيين بأراضينا حتَّى بلغوا منطقة الدندر وأقاموا فيها (قُرىً) كاملة، حسب إفادات مُمثِّل الدندر المُستقيل من البرلمان، لصحيفة اليوم التالي في 2 يناير 2018! ثُمَّ جاءت طامَّة سد النهضة وتوقيع البشير على اتِّفاقيَّته (الكارثيَّة)، وأضحت مُصيبتنا (مُركَّبة)، حيث غلُبَتْ الضبابيَّة/العموميَّة على مُفردات/بنود الاتفاق، وغابت النصوص الواضحة بشأن تأمين سلامة السد أو التعويض في حالة الخطر، وإتاحة الكهرباء بمُقابل أو بدونه، وحجمها ومسئوليَّة وتكاليف نقلها، حَتَّى عمليَّة التشغيل والملء تسيطر عليها إثيوبيا، بخلاف الأضرار البيئيَّة الأُخرى! والمُصيبة الأعظم، أنَّ البشير وعصابته لم يُطالبوا باسترجاع إقليم بني شُنقُول، رغم تأكيدات إثيوبيا المُتكرِّرة بعدم اعترافها بالاتفاقيات السَّابقة، خاصَّةً اتفاقيَّة 1902، التي بمُوجبها يحكم الإثيوبيُّون إقليم بني شنقول، كما أتَاحَ المُتأسلمون ميناء بورتسودان للإثيوبيين، دون أي عوائد معلومة ومحسوسة..!
من السذاجة بمكان (الاستهانة) بتصعيد الإثيوبيين (المُفاجئ) لهذه القضيَّة، ونَبْرَتِهِم (التهديديَّة) الواضحة وتفسيرها بغير حقيقتها، والتي تُنبئ عن خطواتٍ/إجراءاتٍ أكثر (جُرأةً) ووقاحة في المنظور القريب! فمزاعمهم هذه تَتَنَافَى مع الواقع الفعلي، وتُثير التساؤُل عن أين هي (الحدود) التي يتحدَّثون عنها، وهم مُتوغِّلون فعلياً دَّاخل السُّودان؟ ومن قام بترسيم هذه الحدود ومتى وأين وُثِّقَتْ؟! وكيف يتَّهمون السُّودانيين بتهريب الأسلحة، ومليشياتهم تقتل مُواطنينا داخل أراضينا وتنهب مُمتلكاتهم؟! يبدو أنَّ الإثيوبيين استشعروا خطر الحِرَاك الشعبي الرامي لاقتلاع البشير وعصابته، فأرادوا الإسراع بابتلاع المزيد من أراضينا قبل نجاح حِرَاكنا وبلوغه غاياته، وذلك بِعِلْمِ ومُباركةِ ما يُسمَّى مُجتمع دولي/إقليمي! والرَّاجِح، وفق المُعطيات الماثلة، أنَّ إثيوبيا ستلتهم أراضينا بالجنوب الشرقي تحديداً، حيث الزراعة المطريَّة وامكانيَّة تحويلها لمَرْوِيَّة بمياه سد النهضة وغيره، ويَقْوَى هذا الاستنتاج أكثر باكتمال طريقها (البَرِّي) الدَّولي الجديد مع كينيا، الذين أمَّن لها ميناءً بحرياً بتكلفةٍ أقل، ولقد مَهَّدَ الإثيوبيُّون لذلك فعلياً، بوصول احتلالهم حتَّى الدندر وفق ما أشرنا أعلاه!
ولعلَّ إثيوبيا ليست وحدها (الطَّامِعَة) والمُتعجِّلة لالتهام المَغَانِم قبل زوال البشير، فقد سبقها بعض الطَّامِعين لنَهْشِ السُّودان والنَّيْلِ من مُقدَّراته، بعدما استشعروا خطر الحِرَاك السُّوداني الشعبي المُتصاعد، كالإماراتيين الذين حاولوا التهام ميناء بورتسودان في غَمْرَة انشغالنا بالحِرَاك، وهناك السعوديُّون الذين نَالوا أجزاءً واسعة من أراضينا بعضها لمُدَّة 99 عاماً، باتفاقيَّاتٍ (سِرِّيَّةٍ) ومشبوهة، بجانب (البُدُون) والرَّوهينقا وما رَشَح من حديثٍ عمَّا يُسمَّى (سَدَّ القاش)، وأطماع إريتريا في كسلا وطوكر. وهناك مصر التي التهمت حلايب والأراضي النُّوبيَّة، بما فيها أرقين التي أصبحت ميناءً بَرِّيَّاً للمصريين، وتَوَغَّلوا أكثر حتَّى شمال دارفور، بجانب التَحَرُّكات التشاديَّة المُريبة، وهي جميعاً مُعطيات تُؤكِّد بأنَّ الطَّامعين سيُسارعون لالتهام ما يستطيعون من مُقدَّراتنا، مُسْتَغِلِّين انشغالنا بالحِرَاك وعَمَالة البشير وعصابته.
إنَّ الدُوَل/الجيوش حينما تُحَارِب خارجياً تَنقسم لمجموعات، تُؤدِّي مهاماً مُتعدِّدة بالتوازي (في وقتٍ واحد)، وتَتْرُك بعض قُوَّاتها بالدَّاخل للحراسة والتأمين، حتَّى وهي في جبهات القتال تَتَوَزَّع الأدوار، ما بين حِرَاسةٍ ورَّاحة وكَرٍ وَفَرْ، ولا تَنْكَبْ جميعها في أمرٍ واحد وتترك البقيَّة. كذلك الحال لفَرُق الكُرة، نجدها مُقَسَّمة لخاناتٍ مُختلفة، وفق تكتيكاتٍ مُتنوِّعةٍ تنتقل بينها بِدِقَّةٍ وسلاسة، ولا تَتَّبع نهجاً واحداً. ونحن نخوض معركتنا ضد المُتأسلمين وسادتهم بالعالم الخارجي، علينا تقسيم أنفسنا لمجموعات تُؤدي أكثر من دور، كالتخطيط (الآني والاستشرافي)، والإدارة الميدانيَّة للحِرَاك الشعبي، ومُتابعة ومُراقبة مُقدَّراتنا وحمايتها من الابتلاع، وتقييمٍ وتقويمٍ كل هذه الجهود، مُستفيدين من قدراتنا الأكاديميَّة والمعرفيَّة المهولة في مُختلف التخصُّصات.
نحن إذ نَنشُد التغيير ونتطلَّع للنهوض، علينا ترسيخ هذه المنهجيَّة، والابتعاد عن (الارتجال) و(الاستسهال)، الطَّاغي على جميع مُمارساتنا في كافَّة الأصعدة. ولقد خاطبتُ كثيراً القانونيين السُّودانيين، بالدَّاخل والخارج، لإعداد مُذكِّرات قانونيَّة (رصينة) للأُمَم المُتَّحدة وغيرها من المُنظَّمات، وإدانة الاحتلالين المصري والإثيوبي وتثبيت حقوق السُّودان، أُسوةً بالتنظيمات/الكيانات المصريَّة والإثيوبيَّة، الذين رفعوا مُذكِّراتهم رغم أنَّ بلادهم (مُعْتَدِيَة) وبلادنا (ضحيَّة)، كما نَّاشَدَّتهم باتِّخاذ التَّدابير القانونيَّة الكفيلة باسترداد أموالنا المنهوبة، والحِفاظ على مُقدَّراتنا المُبَاعة والمرهونة للدَّائنين، وأُجَدِّد دعوتي السابقة للقانونيين الشرفاء لاتخاذ التدابير القانونيَّة اللازمة، لمُجابهة هجمة الطَّامعين المُتزايدة على مُقدَّراتنا، والعمل في خطوطٍ مُتوازية جنباً لجنب مع جهود الحِراك الشعبي، للحفاظ على ما تَبقَّى من بلادنا واسترداد المنهوب منها.