من نحن؟ هل من تفسير سايكولوجي للحرب الأهلية الباقر العفيف

من نحن؟ هل من تفسير سايكولوجي للحرب الأهلية الباقر العفيف
http://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=330&msg=1302161431
في السودان حرب أهلية هي الأطول عمراً في أفريقيا، وربما في العالم كله. ظلت هذه الحرب تدور طيلة عمر استقلال البلاد، منذ عام 1955 وحتى الآن في العام 2007. يقدّر عدد القتلى فيها بمليونين من البشر، والمشردين عن ديارهم بسبعة ملايين بين نازح ولاجيء. وقد قتل منذ أن استولت الجبهة القومية الإسلامية على الحكم عام 1989م، بسبب الحرب والمجاعة الناتجة عنها في الجنوب، وأخيرا في دارفور، عدد أكبر مما قتل في الحروب البوسنية والرواندية والصومالية مجتمعة.

و بطبيعة الحال كان لابد من فهم أسباب الحرب. ونعرف أن هناك نظريات متعددة لفهم جذور الحرب في البلاد ساهم بها كتاب سودانيون وغير سودانيين، وقد سقطت بعض هذه النظريات بفعل التجربة التاريخية، مثل تلك التي تَرُدُّ جذور الحرب للاستعمار الذي “بذر بذور الكراهية في نفوس الجنوبيين ضد الشماليين” عندما كان يحاول فصل الجنوب عن الشمال. فلقد أتيحت الفرصة للنخب الشمالية في الخمسين سنة الماضية أن تثبت صحة هذه النظرية في تحليل النزاع، وأن تمحو آثار الإستعمار، بتصحيح الأوضاع ووضعها في نصابها.. فعندما يُعرَف الداء يصبح الدواء واضحاً للعيان.. كان بإمكان الطبقات الحاكمة أن تعمل على اقتلاع بذور الكراهية التي غرسها الإستعمار في صدور الجنوبيين، وأن تبذر في مكانها بذور الحب والإخاء والسلام. ولكن على العكس من ذلك، فقد صبّت هذه النخب الزيت على النار، وواصلت الحرب بنشاط وهمة كبيرين، ولم يكن تحقيق السلام من أولوياتها. ليس هذا وحسب بل اتسمت حربها بالقذارة و التحلل من كل قيد قانوني أو أخلاقي. فاستهدفت المدنيين، وقتلت الأسرى، وحرقت القرى، واغتصبت النساء، وأغلقت منافذ الغذاء عن الجوعى حتى حصدتهم المجاعة، و زرعت في النفوس من الأحزان والضغائن ما يعجز عنه الإستعمار حتى لو بقي أبد الدهر. ولقد كانت تُدَار هذه الحرب باسمنا، وباسم ثقافتنا، فهي تارة حرب لنشر العروبة التي تحمل الإسلام على ظهرها، وتارة حرب جهاد لنشر الإسلام الذي يحمل العروبة على ظهره. ولكن بالنسبة للمكتوين بنارها في الجنوب هي ببساطة حرب الجلابة العرب حفدة صائدي الرقيق، وتجاره الذين انفردوا بهم بعد أن تخلى عنهم الإنجليز. إذن كلنا مسؤولون عن هذه الحرب بدرجات متفاوتة من المسؤولية، ما لم نُدِنْها، و نتبرأ منها، ونعمل من أجل إزالة آثارها. الآن تحول مسرح الحرب الأهلية إلى دارفور ، ونحن مواجهون بنفس التحدي الأخلاقي ، فنحن مسؤولون عنها إذا سكتنا ولم نصدع بالحقيقة.

والأسئلة التي تطرح نفسها بقوة هي: عماذا تدور الحرب؟. ولماذا استمرت كل هذه المدة؟ وما هي المرجعية الأخلاقية التي ظلت توجه هذه الحرب، سواء كان بالنسبة للحركات المسلحة، أو الجيش الحكومي؟

وبعبارات أخرى، ما الذي يحمل نخباً تحكم شعباً فقيراً ومتخلفاً، على إشعال حرب باهظة التكاليف، مادياً وبشرياً، ليس ضد عدو خارجي غازٍ ومعتدٍ، بل ضد قسم من شعبها؟ لماذا عجزت هذه النخب عن وقف الحرب وتحقيق السلام؟ ألم يكن السلام من أولوياتها؟ ما هو الحافز على استمرار الحرب كل هذه المدة؟ هل كنا نتقدم صناعيا و تكنولوجياً في ظل الحرب؟ هل كنا نزدهر اقتصادياً؟ ألم تكن الحرب خصماً على حقوق الشعب في التنمية، والصحة، والتعليم؟ لماذا لم تنشأ عندنا حركة شعبية ضد الحرب كما نشأت في أمريكا، مثلا، إبان حرب فيتنام؟ أليس استمرار حرب أهلية لأكثر من خمسين عاما أمر يستدعي المقاومة؟ لماذا يترك الشعب أمراً خطيراً كهذا للسياسيين والعسكريين؟ أليس الحرب أخطر من أن تترك لهما؟ لماذا تخرج عندنا مظاهرات الإحتجاج الشعبي الغاضبة ضد قتل الأبرياء في فلسطين ولبنان على يد القوات الإسرائيلية، وضد قتل العراقيين على يد القوات الأمريكية، ولا تخرج هذه المظاهرات ضد قتل المدنيين في الجنوب ودارفور وجبال النوبة والأنقسنا؟ مَن هو الأقرب إلي أهل الوسط والشمال النيلي ومن هو الأبعد؟ أهل دارفور أم أهل فلسطين ولبنان والعراق؟ لماذا نتماهى مع البعيد الذي لا يشعر بنا، ولا يأبه لنا، بل وينظر إلينا نظرة دونية، ولا نتماهى مع القريب الذي يشاركنا الوطن في الجنوب ودارفور وما يشابهما من مناطق السودان؟ ما هي جذور الحرب الأهلية في السودان، وأي النظريات أبعد غورا في الوصول إلى هذه الجذور؟ هل هي نظرية عدم الاعتراف بالإختلاف الثقافي؟ هل هي نظرية الإختلال التنموي؟ هل هي نظرية الصراع حول الموارد؟ هل هي نظرية التهميش السياسي والإقتصادي والثقافي؟ هل هي نظرية الصراع بين الهويتين الجنوبية والشمالية، أو الأفريقية والعربية الاسلامية؟ هل هي أزمة هوية في مركز الحكم وحاضنته الثقافية والعرقية؟ هل هي تعبير عن انحراف نفسي؟

محاولة لفهم الحرب الأهلية

أشرت بصورة عابرة في إطار طرح الأسئلة، للنظريات المختلفة التي حاولت فهم جذور الصراع. ولي نقد مؤسس لكل واحدة من هذه النظريات، لا يسعفني الوقت باستعراضه هنا، ولكنها جزء من كتاب أرجو أن يرى النور قريبا. بيد أني أشير هنا إلى جانب لم يُطرَق بعد وهو الجانب السايكولوجي. وأحب أن أطرح لكم هذا السؤال: هل يمكن أن يكون الجذر الأعمق للحرب سايكولوجياً؟ أنا أعتقد أن منطلق الحرب عندنا في الشمال النيلي والأوسط هو هوية مأزومة، تعاني منها النخبة الحاكمة، والنخب المتعلمة بصفة عامة، وسواد الناس. فالرؤى المتوارثة لهؤلاء عن أنفسهم رؤى ملتبسة، نتجت عنها علاقة ملتبسة مع الآخرين. أنا أعتقد بأننا في هذا الشمال لا ندري من نحن؟ أي لا نعرف حقيقة أنفسنا. وأن لنا وعياً زائفاً بأنفسنا. نحن مغتربون عن ذاتنا الحقيقية، وهي ذات نوبية. وأننا تاريخيا تبنينا الهوية العربية عن طريق التمثل الثقافي لأسباب استراتيجية مثل “التمكين”. وحتى هذه اللحظة ظل التمكين هو المحرك الأساسي لعدد من المجموعات غير العربية لتتماثل ثقافيا مع العروبة وتتبني الهوية العربية مثلما نرى في مناطق النوبة ودارفور. وحتى الهوية الإسلاموية التي تبناها الإسلامويون في التاريخ الحديث تبنوها لهذا السبب الإستراتيجي، أي “التمكين”. ولقد ظلت هذه العبارة “التمكين” من أحب العبارات بالنسبة للإسلامويين، يستخدمونها بحالة من “التمطق”، والاستمتاع. فهم أوغلوا في الاغتراب عن الذات المغترب عنها أصلا حتى اختفت ملامحهم، وعجزنا عن التعرف عليهم، ومن ثم تساءلنا من هم هؤلاء الناس؟ ومن أين أتوا؟.

الإرث التاريخي

وبطبيعة الحال فالإرث التاريخي لأجدادنا “يحط بثقله في تحديد من نحن وماذا يمكن أن نكون”. والأمر الراجح أن أجدادنا هؤلاء تعرضوا لحالة مكثّفة من حالات الزلزلة النفسية، أدّت لتَمَثُّلِهِم ثقافياً مع العرب. ومن الواضح أنه بالنسبة للنوبيين،لم يعد العالم مستقرا. فالهويات القديمة حامت حولها الشكوك، والناس لم يعد بإمكانهم أن يكونوا أنفسهم. الحوافز لإجراء انقلاب في الهوية كانت قوية وكثيرة. والشروط قد اكتملت. اضمحلت الذات (النوبية) أمام المثال (العربي)، وتم امتصاصها كليا بواسطته.

و”التمثل الثقافي”، كما يُعَبِّر ديفيد ليتين، “شبيه باعتناق الدين، وكما توضح أدبيات التحولات الدينية بصورة قاطعة، فإن ما يُعْتَبَر مسلكاً براغماتياً بالنسبة لهذا الجيل، يعتبره الجيل الذي يليه أمراً طبيعياً. ولذلك فإن الأجيال التي تنشأ في ظل التحوُّلات الدينية التي أضْطُرَّ لها الآباء، ستلجأ، مدفوعة بضغوط السلطات الدينية، إلى النظر لآبائها باعتبارهم كانوا منافقين”. هذا الرأي يشابه مفهوم دي فواه عن الهويات المصنوعة “كهويات منحرفة”. فهي تدل بالنسبة إليه “على نفعية بلغت مبلغ الشطط” وتمثل علامة على “الاختلال الداخلي”، الذي يحدث في شروط اجتماعية محدده تمارس تأثيراً هائلاً على الإدراك الذاتي للهوية الشخصية. فرغم طبيعتها المصنوعة، فإن “مكونات الهوية تستطيع إدراج الفرد في سياقها بل حتى استعماره”.
المجموعات التي تتعرض لمثل هذه الحالة من “الإدراج” لا ينبثق النظام الرمزي من ذاتها الجماعية، بل يكون مستعاراً في العادة من مركز الهوية التي تهفو إليها تلك الجماعة، وترغب أن “تكونها”، وهذا هو حال السودانيين الشماليين. هذه الشروط تعد المسرح لبروز تناقضات الهوية، ولزحف عدم الاستقرار إلى خلايا المجتمع، ولتفاقم أزمة الهوية حتى تسد عليه الأفق.

الأسطورة والحقيقه
وكما ذكرنا في أعمال أخرى، فإن هناك أسطورة وهناك حقيقة في الشمال. الأسطورة هي أن الشماليين عرب، أما الحقيقة فهي أنهم مستعربون. الأسطورة هي ان الشماليين تحدَّروا من أب عربي وأم نوبية. الحقيقة هي أنهم في غالبهم الأعم نوبة عرقيا، أبوهم وأمهم نوبا. بيد أنهم خضعوا لعملية استعراب وأسلمة، فقدت معها مجموعات منهم لغاتها الأصلية. فالشماليون إذن يبنون حياتهم كلها على الأسطورة، وهذا مكمن أزمة هويتهم. إذن فأهل الشمال مارسو عملية قتل الأب الحقيقي، واتخذوا لهم أباً بديلا، ومارسوا إقصاء الأم تماما عن وعيهم. فهل عقدتنا الأساسية شبيهة بعقدة أوديب؟. وهل سبب تماهينا مع الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين هو تماهي مع كل ما يمثله هذا الأب البديل؟. ومن الناحية الأخرى، هل سبب عدم التماهي مع الجنوبيين والنوبة والدارفوريين هو قتل الأب وقمع الأم النوبيين؟. وهل استبعاد التاريخ والحضارة النوبية من وعينا، وإدارة ظهرنا لأفريقيا المعاصرة يمكن ردهما لهذه الحالة السايكلوجية؟

إن سلاماً دائماً في السودان لن يتسنى مطلقا تحقيقه دون مواجهة تلك الأساطير واستبدالها بالحقائق، ودون استعادة الأب النوبي المُقْصَى عن وجداننا، والذي مارسنا علية حجراً صحياً، وألقينا به في غياهب جب عميق، في أقصى أعماق اللا وعْي، وهذا لعمري عقوق ليس بعده عقوق.. كما أنه لا يمكن تحقيقه دون احترام الأم النوبية وإعادة الاعتبار لإرثها وحضارتها وتاريخها. فما لم يتعرف الشماليون على ذواتهم الحقيقية، وما لم يقبلوها، و يعيشون في سلام معها، فإنهم لن يتمكنوا من العيش في سلام مع الآخرين. إنني على قناعة بأن الحرب التي تشنها الطبقة الحاكمة الشمالية على المكون الأسود للبلاد، ما هي في حقيقة الأمر إلا تعبير خارجي عن الحرب التي يشنها الشماليون على المكون الأسود داخل ذواتهم. إن المقاومة التي تصدى لها المواطنون المهمَّشون ضد مركز القوة يجب اعتبارها رمزا وحافزاً على المقاومة داخل الذات الشمالية نفسها. إن الكثيرين من المثقفين الشماليين يرون في الحرب الأهلية بين المواطنين المهمَّشين والمركز، صيحة إنذار وناقوس خطر يُقرع للذات الجمعية الشمالية. هذه الحروب تجد أساسها في الهوية، ويجب التعبير عنها هكذا. إن فشل اتفاقية سلام دارفور في التقاط هذا الجذر للنزاع في دارفور يترك، ببساطة، أصل الداء دون دواء ويكتفي بعلاج الأعراض فقط لا غير.

هذه محاولة للتنقيب عن الجذور الأكثر عمقاً للحرب في السودان ولإثبات أن سلاما دائما لن يتسنى التوصل إليه دون معالجة تلك الجذور. إنني على قناعة بأن أسباب الحرب الأهلية في السودان تنبع من مكمن الهوية العرقية، وأن الجذور الأعمق للحرب ليست سياسية، أو اقتصادية، أو تنموية فحسب وإنما هي أيضاً سايكولوجية.

لقد تحدث الكثيرون، ومن بينهم قادة التمرد في الجنوب ودارفور، عن سياسات التهميش كأحد جذور الحرب، وذلك صحيح بطبيعة الحال ولكنه ليس كافياً. لأن السؤال الذي يتبع ذلك هو ما السبب في سياسات التهميش نفسها. إن التهميش لا يحدث مصادفة ولا عشوائيا، بل هو سياسة واعية مخططة مبنية على رؤية الطبقة الحاكمة الشمالية لنفسها وتقديرها للقيمة الإنسانية للناس المهمَّشين. لقد بدا التهميش أولا على مستوى التصورات، قبل أن تتم ترجمته إلى أفعال وسياسات وتجاهل واستغلال للمناطق المهمشة ومواطنيها.

صحيح تماماً أن جميع مناطق السودان، ربما باستثناء الخرطوم وبعض مناطق الجزيرة، هي على درجة ما من درجات التهميش في التنمية باختلافات نسبية بينها، ولكن ليس صحيحاً القول بأن أسباب التهميش هي نفس الأسباب في كل المناطق. وكمثال فإن منطقة الشمالية، مسقط رأس الطبقة الحاكمة، مهمَّشة، ولكنها ليست مهمَّشة لنفس أسباب تهميش مناطق الجنوب والغرب والشرق. إنها مهمشة لأن معظم سكانها نزحوا إلى وسط السودان والخرطوم والجزيرة واتخذوها وطناً بديلاً، وكونوا الطبقة التجارية في البلاد كلها ومن ثم احتل أبناؤها مقاعد السلطة في الخرطوم. بمعني آخر، في حين أن منطقة الشمالية مهمَّشة فيما يتعلق بفقدان البنية الأساسية والصناعة، فإن أهل المنطقة ذاتها ليسوا مهمَّشين، تبعاً للمثل الشهير “الفي إيدو القلم ما بكتب نفسو شقي”. لقد ظل الذين بقوا في “البلد”، أي قرى الشمالية، ومعظمهم من كبار السن، يدعمون بالتحويلات النقدية من أبنائهم وبناتهم في وسط السودان قبل زمان أطول بكثير من بداية هجرة السودانيين لدول الخليج. وخلاصة القول أن هناك عاملاً عرقياً يعزز من أسباب التهميش في جنوب وغرب وشرق السودان، وهذا العامل غير موجود في الأسباب التي قادت إلى التهميش في شمال السودان. إن جذور الحرب تظهر واضحة للعيان في كلمات “حكمة” تلك السيدة الدارفورية التي قالت لهيلاري أندرسون أنها سمعت مهاجميها يقولون “السود عبيد، السود أغبياء، إقبضوا عليهم أحياء، قيدوهم، وخذوهم بعيدا معكم”.

إنني أيضاً على قناعة بأن القسوة التي أبدتها الطبقة الحاكمة الشمالية في قمع المكون الأسود للبلد، ليست إلا انعكاساً لرغبة الشماليين الجارفة في قتل المكون الأسود في ذواتهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *