من الافضل ان يعلن الرئيس السوداني انه رئيس مدى الحياة للسودانيين من دون ‘لولوة’

الامر المعلوم في الازمة السودانية انها ازمة تاريخية تراكمية نتجت عن شوفينية متعمدة مارسها العقل السياسي والاجتماعي والثقافي، الذي تملّك قيادة زمام الامور في البلاد لفترات ليست بالقصيرة، وفي حال كهذا لم تؤرخ للازمة السودانية بدءا مع نزول السماويين الجدد وحكمهم ونظامهم بقيادة البشير وجماعته، رغم انهم امتداد لمكونات ذلك العقل السياسي ونفس المدرسة، ان لم يكن نفس المنهج التربوي، ولكن وسط هذا وذاك المتفق عليه ان الاخير لت وعجن في مجريات هذه الازمة من دون منهجية وفي عشوائية من دون منازع، فلم يعد منضبطا فيها، بل في الغالب نجد ان مجمل سياساته تتطابق واهواءه وانحرافاته السياسية المتعددة، وفي اكثر من مجال، فيها تصاعدت الازمة وتناسلت، ومرد ذلك سياسة الانحراف العالية الوطأة التي اتخذها وصعبت عليه من بعد اداراتها وكذا على مهندسي الازمة العاملين معه في تجميع خردتها واعادة تصنيعها مجددا لتقديمها للاستهلاك مع انتهاء مدة الصلاحية.

في هذا الانحراف البشيري تغيرت معالم الازمة وجغرافيتها السياسية والاجتماعية وكذلك اللاعبون فيها مع منظومة الوعي المعرفي لانتقال نحسبه تاريخيا بالضرورة ان يقع لتسوية سياسية شاملة للازمة السودانية. والمؤكد في هذا الاطار ان اي بحث جدي لفترة انحراف حكم عهد الرئيس البشير لا توازيها من حيث ادواتها وممارساتها اي من الانظمة السياسية التي تعاقبت على حكم السودان، المعروفة بالانظمة ‘الوطنية’، بقدر ما انها تتماثل وتتطابق في استنساخ مع نظام الكولونيالية والقوى المتحالفة معها التي استعمرت السودان في القرن التاسع عشر، وحافظت على وحدته، رغم سياسية ‘المناطق المقفولة’ التي انتهجتها جنوبا لحماية وتحصين شعوب وقبائل الجنوب من اي استلاب او تغيير ثقافي ديني قادم من الشمال، في حين ان الاستعماريين السماويين الجدد جاؤوا في شكل وصاية او انتداب او حماية او جميعها، بحيث دفعتهم نزعاتهم وطموحاتهم الذاتية الى قطع البلد الى قسمين غير نافعين بعدما كان واحدا ويمكن ان يكون وقتها نافعا بمعطيات العصر.
وضمن سياق امتدادات راهن هذه الازمة، نجد المعامل الثابت فيها خلال الخمسة والعشرين عاما الماضية هو الرئيس السوداني، حيث ظل يلعب دور اللاعب المسرحي والمرحلي الاهم في خيوط الازمة، بحكم انه ممسك بدفة القيادة وقيادة الازمة التي صعب عليه نفسه التحكم والامساك بها من جانب، ومن جانب ثان يعتبر هو احد اهم المطلوبين فيها لانه احد منتجيها، بل عقدتها المركزية التي تعقد الوصول الى مدخل للحل السياسي الشامل، وضمن هذه الثنائية المتناقضة، فضلا عن الضغط السياسي والاقتصادي جراء آلة الكفاح العسكري التي تخوضها الجبهة الثورية السودانية، وبالاخص بعد الانتصارات الاخيرة في جنوب كردفان – مواقع قريبة من مركزية الدكتاتورية في الخرطوم – على المليشيات العسكرية لحزبه، حيث اثبتت الجبهة الا مجال لهزيمتها، رغم حجم التجهيزات والاعدادات التي صاحبت عملية البشير لكسر’ شوكة التمرد النهائية’ كما يقول. هذه العوامل مشتركة مع حالة الاحتقان السياسي والاقتصادي والامني التي تعيشها البلاد والاضمحلالات التي تعرفها السلطة من الداخل، وكذا انشقاقات نادي الكبار في مليشيا حزبه الحاكم وحالة الافلاس الاقتصادي والسياسي الواقعة على الدولة والنظام، والفساد المستشري، كلها مجتمعة دفعته مؤخرا الى التبرع – في ظل عقل حاكم يرى في ما يقوم به هبة خالصة منه – بمبادرته التي اطلق عليها ‘الوثبة الوطنية ‘ التي صاحبتها انتقادات من اطراف عدة لا لشيء، فقط لماضي وحاضر الرجل/ الحكم الذي لا احد في المجتمع السياسي يثق فيه، كما لم يسجل في تاريخه عملا التزم به، وعدم الثقة هذه باتت من البديهيات في الثقافة السياسية للحكم، حيث بالمقابل يعضد ويلتزم بكل ما من شأنه ان يضفي اهمية على كرسي عرش الجلوس الانقلابي ولو بشرعنة جديدة، الا انها لا تنفي اصل الاشياء، وهي سلطة ‘الخوذة والبوت’ التي حكم بها السودانيين.
هذه المبادرة التي سماها ‘بالوثبة الوطنية’ او ‘الخدعة الوطنية’ او’اللولوة الوطنية’، جاءت في اهم مرتكزاتها لتحقيق السلام وبنود اخرى في اطار حوار وطني سوداني شامل، لتخلق معها حراكا صوريا لدى فاعليات المجتمع السياسي بتعدد قواه وموازين القوى فيه. يذكر ان هذه المبادرة تشمل ايضا طباخين وطهاة وفي الخدمات وهؤلاء ينقسمون الى اساسيين وثانويين وهذا بالطبع يستوجب وجود مستهلكين من الدرجة الاولى والثانية واخرين للفتات وهم معرفون، الى ذلك تختلف مرامي واهداف ومسوغات ومؤامرات كل فريق، فمنهم من يرمي الى تثبيت سلطة التمركز في شكلها التاريخي المهيمن ولو اختلفت الالوان والسيناريوهات وشكل الديكور والرسم والنحت، علما ان تلبيتها لهذه الوثبة ما جاءت الا لاجل ديمومة هذا التحالف التاريخي المسيطر القائم على لعبة العملة الواحدة ذات الوجهين لبقاء المنظومة، اما الثانية فتمثلها قوى النظام وعلى الارجح وفق معطيات الماضي/ الراهن تريد استثمار هذا المناخ الذي رسمته لنفسها واسمته ‘اصلاحا’ وفيها اختلفت التأويلات، حيث من سماها ‘لولوة’- واردة في العامية السودانية وتعني اللف والدوران لاعادة انتاج نفسها عبر تبديل تحالفاتها السابقة بتحالفات جديدة وجدية اكثر، ومن خلالها تسعى لترميم نظامها السياسي بنظام تسميه قوميا وطنيا شاملا وديمقراطيا لمن يريد الاضافة، من دون فتح باب التعليقات، واهم ما في هذا النظام المنتج هو شكلانيته بالنظر الى القيم المرتقبة رفعها ومصدر صناعة القرار فيه، وهو الاساس، لانها لا تفقد اوراق ادارة اللعبة والتحكم، ما دامت هي المسيطرة على اعمدتها الاساسية مثل الامن والجيش والشرطة والقوى الامنية غير المعروفة لاي من الجهات تنتمي، فضلا عن الميليشيات الحكومية ذات العناوين المختلفة التي تتطلب انشاء وزارة خاصة لها قد تكون موجودة ويقودها شخص او شخصان في قمة الهرم المسؤول- بعدما اخذت شرعيتها في العمل خارج القانون في كل اجزاء السودان وخارجه برئاسة الرئيس السوداني لترويع المدنيين، فمثلا نجدها قمعت التظاهرات في الخرطوم والابيض ومدني، اما في الخارج فصدرتها الى مدن الجنوب الليبي بطائرات لمحاربة القوى المناهضة للحكم الجديد، اما القوى الثالثة فهي تأمل الاستفادة من هذا الحراك لاجراء جراحة بيضاء للنظام تمكن من تفكيكه والاطاحة بالجنرال سلميا والتأسيس لنظام دستوري ديمقراطي حقيقي، فيما القوى العسكرية الثورية ما زالت ترصد ‘لولوة’ منظومة التمركز الجارية وما تسفر عنها من ‘لولوات’ جديدة، ام انها ترتقي الى المسؤولية ومسؤوليتها في الازمة السودانية وتلبية استحقاقاتها التاريخية والموضوعية.
الى ذلك نجد ان هذه الوثبة التي جاءت بعد ربع قرن من الزمن حولت المجال السياسي خلال هذه الايام الى مزاد علني مفتوح للمبادرات من اجل تقديم حل للازمة الوطنية، علما ان جميعها تقع في خانة ردة الفعل دون الفعل نفسه، الذي يفقدها درجات ونقاطا مهمة في الصراع السياسي، وبما ان زمام المبادرة في يد السلطة بلاشك يجعل صاحب السلطة هو الفاعل الاساس وباستطاعته جر من يراه مناسبا الى خندقه وبشروط قد تكون توافقية او مفروضة او تنازلية، وهو الشيء الذي يجعل الباب مفتوحا لمزيد من الطروحات والمساءلات، ومنها توقيت الاطلاق والهداية الوطنية الني نزلت فجأة وسبب نزولها بعد خمسة وعشرين سنة من لا شيء وحاصل جمعه وطرحه وضربه وقسمته هو صفر كبير، ولماذا اراد النظام التأسيس ورعاية حكم انتقالي وفي فقراته حكومة وحدة وطنية او حكومة ادارة ازمات وطنية واطلاق الحريات العامة وتفعيل القضاء وحكم القانون ومعالجة قضايا السرقة الموصوفة للدولة، التي تسمى بالفساد وكسر شوكة اجهزة الامن والشرطة والاستخبارات وحقوق الانسان والحرية السياسية للاحزاب وفاعليات المجتمع المدني وتهيئة الاحزاب في هذا الجو لصياغة اوضاعها الداخلية تمهيدا للمعركة الانتخابية ومن ثم الدعوة لمؤتمر قومي دستوري تناقش فيه قضايا البنيوية للازمة، وفي هذه المرحلة- ان تمت- يتم تحييد العدالة والانصاف وملف الجرائم المرتكبة في عهد البشير وبرعايته المباشرة او غيرها. وفي مفارقة هو ذاته الذي يقوم برعاية هذا الانتقال، بل يرأسه ويقرر فيه ولما لا قد يعاد انتخابه مرة اخرى، واول ‘فوز′ له في يونيو/حزيران العام 1989 والى اليوم.
تبقى تلك الخطوات ان تمت في اطار هذا التحالف التاريخي من شأنها ان تخصم من رصيد الجبهة الثورية السودانية وتسحب منها ارصدة مهمة كمباحث الديمقراطية والحريات وحقوق الانسان والحكم المدني والتوافق السياسي. من ادوات الصراع السوداني المشتركة وطنيا ضمن مطلبيات اقليمية وجهوية، ومن ثم العمل على منهج الاندماج والاستيعاب ضمن نسق نفس المنظومة، لذا نعتقد ان اي تحول انتقالي لا يلبي متطلبات حراكه التاريخي العام الذي تم تجاه الدولة مباشرة، لا الجهة او المطلبية، مع اعادة صياغة هذه الدولة، يبقى عملا عبثيا واستفزازيا ولا معنى له، ولا اعتقد ان الجبهة معنية بها، بل المزيد من الاقتتال في دولة الصراع، ويبقى في الاخير ان الموضوع السوداني بقدر ما هو موضوع وطني الا انه دولي ايضا وتتوافر فيه كل الشروط بما فيها شروط تهديد الامن والسلم الدوليين والاقليميين، وبالتالي الطرح الدولي عبر البوابة الاوروبية التي رفضها الحزب الحاكم لمعالجة الازمة السودانية، الذي يسعى بدوره الى تسوية داخلية لفرض شروطه واملائها على الاخرين في ‘لولوة’ ضمن لولواته المختلفة الاشكال ليست مدخلا صحيحا لمعالجة المأزق التاريخي للسودان، وبالاحرى الافضل فيه ان يعلن الرئيس السوداني انه رئيس مدى الحياة للسودانيين من دون ‘لولوة’ كشأن الراحل بورقيبة في تونس، والخيار يعود للشعب السوداني الذي فرض عليه تحت وقع السلاح حكم الربع قرن.

محجوب حسين
كاتب سوداني مقيم في لندن
القدس العربي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *