ولألوان كلمة
بقلم : حسين خوجلي *
كان الأب موظفاً محترماً بوزارة سيادية في قلب الخرطوم. يسير مشواره اليومي نحو الوزارة بعربة إنجليزية قديمة ولكنها نظيفة ومصانة وتعمل بجدول راتب يحدد أيام الزيت والنظافة والصيانة ولها دفتر معهود مثل دفتر (الكنتين) المجاور وبقية نثريات ومنثورات التكاليف الحياتية..
وكان يرافقه في مشواره اليومي من أم درمان إلى الخرطوم أو بالأحرى ما بين سبل كسب الهدوء وسبل كسب العيش ثلاثة من أبنائه الخريجين الموظفين كانت عربة واحدة وأنس واحد وميزانية واحدة ومائدة واحدة بلا تفلت ولا حرية أكثر مما ينبغي ولا ضوضاء بأكثر مما تريد الحارة ويريد المكتب ومكارم الأخلاق والمواهب المعتادة في الكورة والفن.
ودارت دورة الأيام وتقاعد الأفندي المحترم وجاء بغتة مشروع النفط السوداني الذي أنجبه شعبنا بمنتهى الكرم والذكاء وتخلصت منه حكومتنا الفتية على طبق من ذهب وبمنتهى السفيانية واستهبال الغفلة والعفو عند اللا مقدرة..
على أي حال هبت رياح النفط على الأسرة فصار للأبناء «أولاد البنزين الحلم» ثلاث سيارات دفعة واحدة بالأقساط وثلاثة زيجات بالأقساط وثلاثة شقق بالأقساط..
وأصبح الراتب لا يكفي الحد الأدنى من الاحتياجات، فالمنزل الذي كانت تخرج منه سيارة واحدة بأربعة أعضاء منتجين وزاهدين ومترعين بالعفاف والرضى.. أصبحت تخرج منه أربعة كوارث أسرية..
أب غاضب من تصرفات لوثة النفط والأقساط وأبناء لا ينامون من أثر الشيكات المرتدة.. وزوجات لا يعرفن ولا يسمعن عذراً من الذين باعوا لهن الذهب ذلك الذي قرروا إحالته فجأة إلى نحاس واعتذارات وهل يفيد الاعتذار للذي تعود السهل الميسور ولو أدرك في آخر النفق قيداً من حديد وثقلاً من فولاذ؟..
بدأت إشكالات الأسرة الطيبة تتصاعد مع تصاعد الأسعار.. وارتدت وتكاثفت الشيكات جملة واحدة لأصحاب الشقق وأصحاب السيارات وأحلام السيدات اللائي لا يقبلن عذراً وقد قالت يومية التحري المنشورة أن:
الأول الآن وبشهادة الشهود رهن الاعتقال حتى يدفع الالتزام شاملاً الأرباح وأتاوات القبض وامتيازات الدرك.
والثاني خرجت زوجته ليلاً تحمل ورقة طلاقها ومعها لفافة طفلها الأول الرضيع إلى بيت أبيها الذي لا يحتمل ميزانية إبنته فكيف يحتمل طفلها وغضبتها ويأسها وخيبتها!!!
أما الثالث فقد تسلل إلى خارج الحدود عبئاً على أصدقائه في أحد بلاد المهجر النفطية وقد ضاقوا به واحداً بعد الآخر.. صحيح أن كرم السودانيين لم ينتف ولكن تلك العواصم ذات القلب الصلد صارت لا تحتمل ضيفاً ودوداً عابراً فكيف لها أن تحتمل ضيفاً ثقيلاً مقيماً..
أما الأب فقد أصابته جراحات السنوات وضيق ذات اليد وبقشيش المعاش وتفلت الأبناء فزوى الجسد وانزوت الروح فصار شبحاً ناحلاً أقرب للجدث وهو يشاهد أبناءه وقد جار عليهم الدهر بحلم زائف وثروة أصابتهم بأمانيها الكذوب وسحاباتها الخلب..
ولأن السودانيين كالعادة لا يجيدون فن دراسة الجدوى وفن جدوى انتظار العواقب في كل شيء كان سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً فقد صارت الأقساط السهلة أسواطاً عسيرة تلهب ظهور الآلاف من طوابير حلم البترول وقطاره وقطره الذي صب في ديار حسبوها لو أرادوا النجم جاءت بالدراري فتوارت فجأة وهى لا تلوي على شيء.
هل صحيح والسؤال لأهل السلطة وأهل الرأي وهذه الأسرة المنكوبة.. هل صحيح أننا وقعنا نيفاشا من أجل السلام كما ندعي الآن؟
هذه الكلمة السحرية التي يتداولها الجميع اليوم من أهل الحزب وقادته ووزرائه ونحن من ورائهم كأنها المنجى ومبعوث العناية الإلهية من وعثاء الانفصال الذي لم يعلم به أحد ولم يعمل على تفاديه أحد..
لا وألف لا.. فنحن لم نوقع نيفاشا من أجل السلام نحن وقعنا من أجل نيفاشا التي تحفظ الوحدة التي تنجب السلام واقتسام الأمل والألم والثروة والثورة على القديم وحتى لو صدقنا هذا، فهل حققت نيفاشا هذا السلام المدعى؟..
لا وألف لا فالذي يحدث الآن في منطقة أبياي ينذر بحرب ضروس لن توقفها النيات الطيبة لمولانا أحمد هارون والحلو أو طبطبة اللجان المشتركة ما بين الوطني والحركة واقتسام الجيش هنا وهناك للمناطق المحروقة بوضع اليد حتى حريق جديد أبشع وأشمل.
أين يا سادتي هذا السلام المدعى والشعب السوداني لا يعلم حتى صدور هذا العدد لمن ستمضي جنوب كردفان ولمن تؤول النيل الأزرق والسلطنة الزرقاء..
أين ذلك السلام وحتى الآن لا يعلم أهل الداخل ولا أهل الخارج أين حدود السودان القديم من حدود السودان الجديد.
أرأيتم تلك العجلة الخرقاء ونحن نبارك التصويت لصالح حق تقرير المصير ونحن نعلم مصيرهم ولا نعلم مصيرنا؟!
إن المحزن في الإدارة الحالية لبلادنا وقادة القرار المالي والإداري والتنفيذي فيها أنهم أصحاب عبقرية متصاعدة في البطء المعياري والخيال المعتم لاكتشاف المشاكل واكتشاف الحلول..
فهم من جيل يحسبون أن الأيام وحدها والتقادم هما القادران على فك الشيفرة وتقديم مقترحات الانفراج دون أن يبذلوا أسباباً لذلك ولا جدل ولا حتى مجرد مؤشرات غائية أو تمهيدات على درب التعقيدات التي تتحرك بمتوالية هندسية مخيفة على أعتاب كل صباح جديد كنا سنجد لهم العذر.
لو كانت الأزمة أزمة نظام إذاً لسهل الحل بشيء من الخوف التحريضي أو التواضع المبذول.. ولكن الأزمة صارت أزمة وطن بحاله وطن أصبحت معارضته لا تثق في فرقائها ولا في رفاقها وحكومة لا تثق في حكمتها ولا محاكمها.
وطن أصبحت أزمته الاقتصادية تتصاعد في كل يوم ببعد دراماتيكي وتأكل الزيادات الطاحنة في أسعار السلع وأسعار الخدمات كل أمان الريف وأمن المدينة في ظل بؤس كامل لمؤسسات الضمان الاجتماعي والكفاية الشعبية لدرء مثل هذه المخاطر الهيكلية التي وصلت عصب المتبقي من الطبقة المتوسطة تلك التي أحالتها من درجة الفقر المقدور عليه لدرجة «الشحدة» الجانحة التي سفرت بالأوجه العفيفة والأيدي التي لم تمتد يوماً إلا للسلام والترحيب..
إني بكل ضعف الرجاءات والاجتهادات ومعي الملايين لا نصدق أصلاً بأن هنالك حزب اسمه المؤتمر الوطني مدخر لليلة شاتية وإظلام بدر فهو حالة أسوأ من الحزب الوطني بمصر الشقيقة
حزب يتبخر عند أول مواجهة ساخنة تلفح وجهه المقروح بـ «بودرة» النضالات والاعانات والكوادر التي أجابت دعوة المكاسب والمناصب ولم تجب أبداً دعوة الكفاح والفلاح.. وهى مكاسب لأسفهم من ترابها لا يحسدهم عليها أحد..
ولهذا وبهذا ومعي الملايين وأنا بهذا زعيم بأن هذه السلطة أوجدها وأدارها وسوقها الإسلاميون لا المؤتمر الوطني ولذلك فهم وحدهم المسؤولون عن خلاص الإنقاذ من المؤتمر الوطني وخلاص الحركة منه بل خلاص السودان أجمع من الجميع وهذا أدنى درجة من درجات التطهرية.
إن هذا المؤتمر الوطني العبقري الألمعي الذي لم يقرأ درساً من دروس الحياة والسياسة وحظ الآخر في الاقتسام قد اكتسح الانتخابات البرلمانية الأخيرة كاملة غير منقوصة وقد جاء برلمانه الأخير مبرأً من كل عيب وصوت أو لون مغاير أو جملة نشاز..
فكيف لكم أن تتخيلوا برلماناً سودانياً في الألفية الثالثة ليس فيه أو به أنصاري أو ختمي أو شيعي أو شيوعي أو شعبي.. مع أن هذا الشعب له آلاف الممثلين الأغيار في الألوان والألسنة والأصقاع والمعتقدات والمزاجات
والذي أعلمه أن ألف ناصح وناصح قال لدكتور نافع نفعنا الله بعلمه وجاهه وصلاحه أن المعارضة في كل الأوراق الفكرية على مستوى المنطقة والعالم قد أفادت وأجادت «بل أن المعارضة في هذه الدنيا التي بين أيدينا بعض من توقعنا لو لم نجدها عليها لاخترعناها».
إن كل الدنيا المتاحة تحلم بالصوت الوطني الحر المعارض إلا نافع وحزبه والوفد «المرافق» له.
يحدث هذا مع أن الرسل أنفسهم من أولي العزم لم يحلموا ولم يقدروا ولم يستطيعوا أن يحققوا مجتمعاً خالصاً من الأعداء والمختلفين والمخالفين.. مع أنهم كانوا يعلمون أنهم أي المعارضين مثل ذلك بل أشد عداوة إلا أن ميثاق الدين والإنسانية كفل لهم حق المواطنة وحرية التعبير وحرية التجمع وحرية التطاول وحرية التجريب لينالوا حظاً ما ناله أهل السبق فإن تقهقر أهل الحق بالحق الذي يدعونه جاءوا ليتوسلوا الناس والصناديق ألف مرة.
نعم إن الإسلاميين عليهم الآن الآن بالاعتراف بأن الذي نالوه في الحكم والحاكمية واعتلاء عروش التجريب والتنصيب أكبر من أعدادهم وكسبهم ومواهبهم..
مع أن هذا الاعتراف المُر لا يقلل من فضائلهم في الحماية والاستشهاد والصبر والمصابرة حينما كان كل العالم المتأمرك ضد السودان الصادق في بدايات الثورة وعقيبها..
وهذا الاعتراف المُر الباسل يجب أن يتصاعد بفضائل الزهد والتنازلات حتى تصل بهم لدرجة البصمة بأنهم مجرد فصيل من فصائل الشعب السوداني حالفه الحظ وخالفته العواقب والعقاب..
وللشعب الحق بأجماعه أن يحاكمهم كما حاكم غيرهم من لدن الأزهري حتى جعفر نميري واسلاب الأحزاب.. يصفح أو يجرم أو يشيد أو يعدد أو يعيد.. فهذا لعمري عصر الجماهير وهذا عهد الحكومات التي تتأدب بأدب الجماهير والديمقراطية والاحتكام للمشروعية واستلهام الرضى من رضى الملايين..
وإن كان لنا ملحظ يجب أن يدون هنا فهو أن هذا الشعب لم ينتفض كما فعلها غيره في المنطقة ليس خوفاً ، فقط لأنه يدري أن السودان الراهن يمر بفترة نقاهة ما بعد الانفصال وحمى وسهر ما بين قواصم دارفور وتربص العدو القريب والبعيد .. لقد استحى هذا الشعب العظيم الحكيم من هذه السلطة فسامحها فهل تستحي هى لتراضيه وتتوسل إليه!!
ولأن الناس قد يئسوا من كمالات التوصيف للأزمات والكوارث وأعراض المرض والابتلاء فقد جاءني خاطر بروشتة أو وصفة أو حل
وهو أن يجلس على صعيد الأرض الطاهر كل الذين فعلوها والذين سوقوها والذين استحلوها والذين استحلبوها والذين سرقوها والذين استعاذوا منها من أصحاب السبق والطلقاء والأدعياء على كل هؤلاء أن يكتبوا كراسة فكرية نادرة وصادقة تقرأ الواقع الذي حولنا تقرأه بكفاءة وعقلانية وشجاعة وتجرد..
وأن يطلق سعادة الرئيس الذي ما زال شعبنا يثق فيه بصدق رغم كل المنغصات الجانبية سراح هؤلاء القدامى وابدالهم بحكومة تكنوقراط من أبناء كل التيارات بلا تمييز مشهود لهم بعلو الهمة ونظافة اليد والقلب واللسان والوطنية والمهنية..
مع فترة إنتقالية تصفي أدواء القبلية والعنصرية والمظالم وتترفق بأهل دارفور وتمسح على رأس الريف وتربت على كتف المدن الصغيرة وتفتح أبواب الأمل وتجري انتخابات نظيفة يكف عنها سوط المال وأعقاب البنادق وعبارات الترغيب والترهيب
وبعدها صدقوني فإن كل الذين يتخلقون من رحم الحريات فهم هدايا الخالق لخلقه ولو تأبى أهل الشمولية والثيوقراطية والفردانية والاستبداد..
عزيزي القارئ أنا لم أنس تلك الأسرة في أول المقال تلك التي خدعها بريق النفط والمال الراحل والسراب ولكن يظل حلهم وحل بلادهم في الغيث وأول الغيث الاعتراف والانصاف ودرء الكفاف باشاعة دولة العز وكنز الفرح..
ولنا عودة