معتصم الضوي .. عبقري القصة الساخرة. بقلم: إبراهيم سليمان

معتصم الضوي .. عبقري القصة الساخرة

 بدغدغة فنية غير مقصودة، كشف لنا القاص المبدع معتصم الحارث الضوي عن فحوى مجموعته القصصية القصيرة جدا “راسكلنيكوف متمردا” المنشورة منذ عام 2011م بالقاهرة وبسماحته المبذولة، أرسل لنا منها نسخة ناعمة على الفور، قرأت نص التقديم الباذخ للدكتور د. عبد العزيز غوردو أستاذ تاريخ الإسلام والحضارة بجامعة وجدة ـــ المغرب .. وقفتُ مطولا متأملا جمال النص التقديمي، الذي يبشر جمال المجموعة، حيث قال: “نصوص “راسكلنيكوف” يوحدها الوجع، والسخرية المريرة من الواقع الممض .. إنها صرخة المشلول القليل الحيلة، الذي لا يملك غير الجهر بصوته، في وجه جلاديه، وفي وجه العاشق أيضا”.

قلتُ لنفسي، هذه المقدمة تستحق إعداد متكأً وفشارا .. أكملتُ قراءة كتاب “العقاد يحكي أسرار حياته” للأستاذ معتز شكوي، ثم هيّأتُ نفسي، لحشرها في جوف القصرة القصيرة جداً، دون سابق دراية كافية بكنهها، وكما ورد عن عميد الأدب العربي طه حسين في سفر معتز شكوي المشار إليه، أنه لم يفهم عبقرية عمر للعقاد، ورجع بعد رحيل العملاق صاحب العبقريات، وقال إنّ ذلك يعود لقصور في مقدرته الاستيعابية للطرح الفلسفي لعبقرية عمر تحديدا. كذلك يمكنني القول اقطع “ضراعي” لو أدعيتُ أنني فهمتُ نصف ما جادت بها قريحة القاص الفذ معتصم الحارث الضوي، وبصراحة هذه أول مرة أجد وأتمكن من قراءة سفر كامل عن القصة القصيرة، أو القصيرة جدا، موحدةً فنياً ، وبذات مبرر د. طه حسين لعجزه فهم عبقرية عمر، عجزتُ أنا كذلك عن الفهم التام لهذه المجموعة، حتى بعد القراءة الثانية، لكنني بجد استمتعتُ بالخيال الجامح، وانتشيتُ حتى الثمالة، بالترميز الفني العالي جداً، بما ظننتُ أنني فهمته، لعلمي أنّ بعض النقّاد يرجعون انحدار الأدب العربي، باقترابه من السطحية والواقعية، وأنه يسمو بقدر سموه في الخيال، وهو ما التمسته في هذه المجموعة الفريدة والمدهشة بالنسبة لي.

تبسمتُ مرارا، ونهضتُ وقوفا من مقعدي، وهللتُ من سخرية راسكلنيكوف بطل هذه القصص المتناهية القصر، والتي لم يتجاوز متوسط عدد كلمات القصة الواحدة منها العشرين كلمة.

وليس بعيدا عن خلاصة النص التقديمي للدكتور عبد العزيز غوردو، والذي جاء متماهياً من السرد القصصي، ومجارياً له عمقاً وترميزا، يمكنني القول حسب فهمي المتواضع، أنّ الوحدة الفنية لإجمالي الستين قصة، هي سخرية راسكلنيكوف من أزمة الضمير الإنساني، وسخرية من الأقدار، وسخرية من أزمة قلوب البروليتاريا العاشقة، وأزمة متاهات الحكم الرشيد .. وأزمة الرشوة والمحاباة .. سخرية من بلاهة العسكر، مقابل نباهة شباب الثورة “ساري الليل” .. الإشفاق من غرق العسكر في أكوام الجماجم وحفنات المبادئ.

 

ــ يرى راسكلنيكوف أنّ الوزارة تسلب الإنسانية، ويرصد لنا كيف أنّ الحروف تضامنت وانتفضت لتعاقب الصحفي المنافق عندما عجزت البشرية عن ردعه! وكيف اضطرت الورود إلى غسل وجوهها بالمياه المعدنية في المطار، وهي هاربة فيما يبدو، حفاظاً على انضباطها عندما تسيّب الندى وعبث بمواعيد رحلتها بين السماء والأرض!

ــ نجد راسكلنيكوف نصيراً للبروليتاريا، يتعاطف ساخراً من تدني مستويات معيشتهم، حيث يصور لنا كيف لعامل حالم لا يمتلك قيمة شراء غرفة، أن يخطط لإنجاب “درزنة” أطفال جميلين في بيت إيجار، بينما تحلم شريكته المستقبلة ببيت ملك! والغرابة، أنّ هذا العامل يبدو أنه نزل المعاش، إن لم يكن في بعض البلدان يطلقون على الراتب المعاش.

ــ يتعاطف راسكلنيكوف مع ابن العامل الذي يستاء من أنه يفطر يومياً بالفول، ويرجى منه أن يحب والده؟ ويتضامن مع هذا الوالد الذي يعجز عن شراء كيلو عظام لأسرته، ويكتفي بوعيد القصاب البرجوازي الشجع!

ــ في نظر راسكلنيكوف البروليتاريا الفقراء، هم الأنقياء؛ يكفيهم ضحكة الحبيبة التي تضئ دنياهم المظلم حتى مع النور، ويرى أن الحبيبة أغلى من الوطن، وأن جهنم كسر الخاطر أقدر على إذابة جليد المتجمد بفاعلية أكثر من طاقة الذرة، وأن العاشق الولهان يرى الشبع العاطفي، تتخم المعدة، وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان! لكن بسخرية سوداء، يجعل العشق القاتل، أمراً يمكن فرضه بأحكام قضائية!

ــ يستاء راسكلنيكوف من تدني الإنتاجية، ويمتعض من تسكع البروليتاريا في كافتريهات المصانع، لدرجة تضطر المناضد إلى المطالبة بخفيض ساعات عملها هي وليست ساعات عمال المصانع! وقد يفهم من  هكذا مشهد، استغلال البرجوازية الطفيلية للبروليتاريا، بفرض ساعات عمل مفتوحة في غياب النقابات العمالية، لذا جاء في غلاف المجموعة، وهو محمولاً، أي راسكلنيكوف على أعناق البروليتاريا فيما يبدو.

يبدو لنا إنّ راسكلنيكوف فيلسوفا، متأثرا بالصقيع السايبيري الذي يتماهى اسمه معه.

كل واحدة من الستين مشهدا، تحتاج لتشكيلي حاذق، يظل يستجدي ريشته لأيام قد يتجاوز عدد كلماته، للتقريب المعني الترميزي حمّالة الأوجه، هنا تتجلى براعة العبقري المتواضع معتصم الحارث الضوي.

//إبراهيم سليمان//

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *