الجزء الأول (1/3)
في الوقت الذي يسعي فيه كل فريق من مسؤولي اللجان المنظمة في الدوري البريطاني لكرة القدم في هذا الصيف لعام 2018 ليبرز حجته لزيادة اسعار التذاكر للمباريات او نقصانها، يبدو أن كلا الفريقين متفقان علي ان الهدف هو تقديم خدمات أفضل للحضور، بحيث لا يؤدي تحسين الخدمات لفئة معينة، علي حساب تدنيهما لدي فئة أخري، ومنطلقان من مبدأ أخلاقي عالي ورؤية إنسانية سامية تسعي لجعل حضور مباريات كره القدم متاحاً للجميع. كما تعملان قدر الإمكان علي عدم حرمان أي شريحة من المساهمة في هذا المنشط المهم بالنسبة للشعب البريطاني والتفاعل إيجابياً مع كآفة أعضائه الذين يؤدون وظيفة اجتماعية قبل أن تكون رياضية. السؤال بالنسبة لهم ينحصر في الاتي: كم من الزيادة يمكن أن تُقترح بحيث لا يؤثر ذلك علي الحضور وإحساس شريحة من المواطنين بالحرمان؟ هذا حال تعاملهم مع المنشط الرياضي، ماذا عن تعاملنا مع الحج كأعظم نداء الرباني؟
حُرم كثير من المسلمين مؤخراً من أداء شعيرة الحج من جراء الاعتماد لبند “الحج السياحي” و “الحج المميز” و “الحج الفاخر” (الذي تتراوح تكلفته بين العشرة الاف ريال والعشرة الاف دولار لغير الخليجين)، وحج المسئولين والدستوريين، والمتنزهين الاخرين من بلاد المسلمين الذين ليس لهم حاجة إلي الله ولا يرغبون في رضوانه؟ ما الذي فعله هؤلاء الموظفون كي يستحقوا حج مجان أولي أن تدعم به خدمات أناس كرسوا حياتهم لخدمة الوطن والدين وادخروا اموالا ليحجوا من عرق جبينهم؟ ماهي الاسس المبدئة لهذه السياسة – سياسة تصنيف الحجيج؟ هل هي ريعية ربحية بحتة أم أنها مؤسسية تنظيمية، أم الاثنان معاً؟ كيف يؤثر ذلك علي حكمة مشروعية الحج، الشعيرة الوحيدة التي الُغيت فيها كل سبل التفاوت كي تتحقق الوحدة الشعورية للأمة ويحس الكل برهبة الموقف ويستشعر عظمة الامتثال يوماً للواحد القهار؟
لاحظت ان متوسط العمر في الحج قد انخفض مقارنة بالسنوات الماضية وأنَ هنالك شباب متوهج ومنفعل بالمناسك بيد انني لا أدري كم من هذا التوهج قد يُجد طريقه الي منافذ الفكر ومدارج الروح أم انه سيظل تدين خامل مثل تدين آبائهم وأمهاتهم – الدين الذي يقود الي امتثال واستكانة ولا يحرض علي بعث اَي تساؤلات؟ هل أحبطت التجارب اليمينة واليسارية هذا الشباب فانعزل المعترك ورضي “بإيمان العجائز”، أم إنه أصبح واقعياً وأرتضي العلمانية الوجودية كوسيلة للتوفيق بين ما هو زمني وما هو روحي؟
بغض النظر عن قدرة هؤلاء الشباب للتمييز بين العلمانية الوجودية وتلكم المؤسسية، لقد ضاعت قيم الرحلة الروحية واندثرت سمات المؤتمر الفكري العظيم فلم يعد هناك استنهاض لوحدة شعورية او اعادة تقويم لمشروع فكري إنما تخدير واستخفاف ودغدغة للعواطف التي ما عادت تجدي في زمن التكتلات الإقليمية والتحالفات الاستراتيجية. لقد بات الرصيد الروحي العظيم مهدراً والعاطفة الدينية مندلقةً علي الرصيف تنتظر من يوظفها لصالح المشاريع الاستيطانية كافة أو الإرهابية. أكثر ما أخشاه هو تسرب الشرك الي هذه العبادة العظيمة مرة أخري فيصبح عبادة وثنية بعد أن برأه سيدنا إبراهيم وَبيَّن مناسكه سيدنا محمد – هذان الرجلان العظيمان والنبيان الكريمان اللذان وضعانا علي المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها الا هالك.
هل هذا هو الحج الذي أُفعم به قلب برعي اليمن ذاك الصوفي العظيم حتي فاض محبة ولهج بقصيدته التي سار بها الركبان؟ رغم أنه لم يدرك أرض الحجاز حساً بيد أن القلب وعى فجاد اللسان بمعان عجز عن فهمها وإدراك كنهها الثقلان، فظلت معانيها تتجدد لستة قرون:
يا راحلين إلى منىً بقيادي * هيجتموُ يوم الرحيل فؤادي * حرَّمتمو جفني المنام لبُعدكم
يا ساكنين المنحنى والوادي * سرتم وسار دليلكم يا وحشتي * العِيسُ أطربني وصوت الحادي
فإذا وصلتم سالمين فبلغوا * مني السلامَ أُهَيْلَ ذاك الوادي * وتذكروا عند الطواف متيماً
صبّاً براه الشوقُ والإبعاد * لي في ربى ظلال مكة مرهم
فعسى الإلهُ يجود لي بمرادي
لقد استحالت القيم المعنوية إلي حيل مادية، ولم يتبق غير وضع تماثيل العلوج وزوجاتهم وبناتهم داخل الكعبة، وذلك منذ أن تواطئ دعاة السلفية مع الصهيونية والإمبريالية العالمية وعملوا علي قمع الشخصية الإسلامية الحقيقة فأحالوا الدين إلي مسخ ومخلوق شائه لا هو قادر على النهوض بأعباء الرسالة الخالدة ولا هو قانع بالخنوع فما زالت فيه نخوة؟
ألم تقول الميثولوجيا أن اللات والعزّي كانا رجل وامرأة من أهل الطائفة، لم تسعفهما تقواهما فأطاعا هواهما وزنيا عند الكعبة، ممّا أغضب الرب فسخط عليهما وجعل منهما صنمين ظلت قريش تعبدهما حتى فتح مكة؟ ما هو السبيل لاستنقاذ الحنيفية الإبراهيمية من دواعي “الشرك الأكبر” المتمثل في موالاتنا لأعداء الملة وتملقنا لعلية القوم – الذين هم في الأصل أسافل الرعية– في كل وقت وحين؟ لماذا نُصِّر في الاستمرار لخداع أنفسنا والتنكر لذواتنا في الاعتقاد بأننا نتقرب الي الله زلفي بإتباع منهاج أصبحت علله واضحة؟ إنها نكبة الغت بظلالها علي كل حياتنا وستظل مالم نقف وقفة صارمة مع ذاتنا ونعمل علي إعادة تقويم وجهتنا. وهنا لا بد من وقفة مع قوله تعالي: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (سورة البقرة – الآية 198) وإلا فأيُّ نُصرة للإسلام وأيُّ هزيمة للشيطان وأعوانه يمكن أن يحدثها هذا “التدين الخامل” او نقيضه، “ذاك الثائر” والمندفع بلا روية أو هدي فكري؟
سأرجئ الحديث عن الجانب الفلسفي الفكري ، وأركز في هذه السانحة علي الجانب الإجرائي المؤسسي للحج. رغم الارتباط العضوي بين ما هو إجرائي وما هو مبدئي/رؤيوي في اي عمل تخطيطي. فغياب الموجه الفلسفي والفكري لنشاط ما، او تمثله بصورة سلبية، يخلق إشكال مؤسسي يحول دون تحقيق الأهداف الاستراتيجية العليا ويجعل من الصعب إذا لم نقل من المستحيل إحكام دورة تصميم وتنفيذ السياسات؛ لا سيما توفير سبل التقييم المنهجي والمتابعة الدورية، والعمل علي تقنين اطر الشفافية المحاسبية، فتح قنوات الاتصال بين الجهات (التواصلية)، تبادل المعلومات (التبادلية)، ومشاركة كافة الفرقاء في عملية اتخاذ القرار (التشاركية).هذه الاشتراطات الثلاثة للحوكمة (الشفافية والمحاسبية والاعتراف متمثلاً في التشاركية والتبادلية والتواصلية)، يتم اختصارها في عبارة (TAR: transparency, accountability, & recognition). تكاد تكون كل الإشكالات التي سأتحدث عنها نابعة من اختلال في هذا التوازن الذي يضممن حيوية المؤسسة وفاعليتها. وغيابه يعني بالضرورة تخبطها وفي نهاية المطاف انهياريها.
لولا أن وزراً أثقل ظهري وفريضة اقتضت صحبتي لزوجتي، لم أكن أنوي أن احج البيت الحرام للمرة الثانية، وقد أديت الفريضة قبل تقريباً ربع قرن من الزمان ولزم أن افسح المجال لبليون ونصف مسلم يتوقون للتعلق بأهداب الكعبة. كما وجب أن أرتب أولوياتي بطريقة ترعي حرمة المسلمين التي هي أهم أعظم من حرمة البيت، وحاجتهم التي تسمو فوق حاجتي للتنزه الروحي. لا ادري كيف تناسيت واقع الاضمحلال الإداري والأخلاقي الذي اصاب بلادي، والذي تخطي حدودها الجغرافية (الواقع أن كل واحد منَا مسكون بجزء ولو يسير بهذه الخصال الذميمة، إذا لم تكن رئته قد تلوثت وأصابها بل تسرطنت وأصابها هذا الفيروس المميت)، أو لعلي توهمت بأننا برئنا من علل الإنقاذيين وفضيلتهم الكبرى التي تمثلت في الكذب. لعلي “دغست” فلم أتفحص كلمات مسؤول الحملة ولم أدقق في وعوداه، أو لعلها لهفة الوصول إلي الأماكن المقدسة.
عزمت علي الحج في وقت متأخر، فلم يكن لدي فرصة غير التقديم “للحج السياحي” (لا تَغٌرّنّك هذه العبارة الجاذبة والمستفزة في آن واحد، فبعد قليل ستكتشف الكثير المثير)، نظرت في مراتب “الحج السياحي” فاخترت المرتبة الوسيطة (ب). بيد أنني اكتشفت منذ الوهلة الأولي –وذلك مباشرة بعد أن وضعت حقائبي في غرفة الفندق بالمدينة المنورة – ان هذه تصنيفات هلامية لا تخضع لأي أسس موضوعية، فقط ما يعتقده منظم الحملة، الذي سأختار له اسم مستعار أو اسم حركي كي لا أحرجه (يونس شلبي)، الممثل المصري الظريف الذي يغضبك وسرعان ما يسترضيك ويفرحك. فتكون علي شأن هذه الميلودية العاطفية حتي ختام المسرحية ، هذا إذا لم تصبك سكتة قلبية قبل أن يسدل الستار علي هذا المشهد الدرامي.
تجرأ أحد الحجاج وسأل مسؤول الاستقبال عن مرتبة التصنيف للفندق، فقال له الموظف بكل أمانة “بالدفرة عمل 2 نجوم.” لعل القرب من الحرم المدني قد أسعفه رغم رداءة الغرف وسوء الخدمات وتسرب رائحة الصرف الصحي للغرف! لا يفوتك أن “يونس شلبي” اختار له ولأسرته غرفة في الطابق ال 13 لا تتسرب إليها هذه الروائح النتنة. لاحظت لاحقاً أن تدني الخدمات جاء نتيجة عوامل كثيرة من اهمها ادماج اخرين وغير مستحقين، مثل الزوجة والأبوين والأبناء. هؤلاء يضمهم منظم الحملة دونما حياء. واذا ساءت الأمور وقفت زوجة الوكيل لتقول للناس “أعفوا لفلان ولا تدعو عليه في الحج.” ما هذه البلاهة؟
هذه “السيدة الفاضلة تدري جيداً أنّها تحج “كيري” (مجاناً) من أموال هؤلاء الغلابة كل عام، هذا إذا لم تصطحب معها أمّها وخالتها وبنت جارتها. تذكرني هذه السذاجة بحيثية حصلت لي مع أحد أعوان الإنقاذيين، قال لي وقد رآني أجتهد ولا أكاد أحصل علي حصة تدريبية ذات قيمة، وذلك قبل أعوام عندما كنت أعمل مستشاراً في البلد المنكوب: “نحن يا دكتور بنحَصِّل عطاءات فيها قرشين حلوات، بس يكون في علمك نحن بنقسم مع الوزارء، و”التقي” منهم بنضع له الفلوس في شنطة، لأنه لا يحبذ مس الحرام ويفضل أن تنزلها الخادمة أو الزوجة من الضهرية نهاية الدوام!” حاجة أخطر من التحلل، هؤلاء المتأسلمين يعتقدون أن الأخرة إشاعة.
قلت لأحد أقربائي، دعي يعمل في برلمان الأفك الذي يصادق علي أقوال الشاويش مدعي الإسلام “كامل الدسم”: “ألا تخشى أن تبعث يوم القيامة مع شهداء الزور؟”. قال لي بالحرف الواحد: دا لو قُمْنَا. يعني ببساطة هم عبارة عن ملاحدة، مش حتي منافقين متسترين بالإسلام. لو أسقطنا جميع التفاصيل ولم نؤمن بأقاويل الفقهاء وادعاءات الوسطاء، فهم سيناكفون في الحقيقة الواحدة التي لا مراء فيها، والتي تمثلت جلياً في قوله تعالي: (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ
فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ) (سورة الحج – الآية 7).
لا يكاد الحاج يتجاوز عقبة حتي يتهيأ لمفاجأة تفسد عليه صفوه وقد تبطل عليه حجه اذا لم يضبط أعصابه. مثلاً، عندما تعاقدنا مع “يونس شلبي” قال لنا أن الفندق الذي حجزه لنافي مكة يقع في “الدائرة المركزية”، بمعني أنه علي مرمي حجر من الحرم أو أنه يسهل الوصول إليه بالأرجل. واقع الأمر أنه لم يكن فندقاً، بمعني أنه لا يحمل ترخيص فندق فليس لديه حتى مجرد يافطة وقد استنتجت أنه مجرد نُزل أو بيت ضيافة يبعد من الحرم 5 كيلومترات، في منطقة الحجون بالتحديد لمن يعرف أحياء مكة. لم يعبأ مسؤول الحملة بمجرد توفير حافلة لتقريب المسافة لكبار السن، النسوة وأصحاب الأعذار، إنما استمرأ الكذب كعادته وقال لهم “هداك الحرم بتشاف بالعين!” يا راجل، دا كلام، هو الساعة بتاعت الحرم بتتشاف من مدينة جدة بالعين. هالني عزيمة هؤلاء وإصرارهم علي المشي 10 كيلومترات ذهابا وإيابا الي الحرم لأداء جميع الصلوات. لكنهم المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات في صلابتهم وكبريائهم فلا غرابة ولا عجب.
إن أكبر امتحان للرجل أو المرأة أن يوضع في معية قائد (حملة) كذّاب، لأنك إن تحاملت شققت على نفسك وإن تخاذلت أتهمت نفسك وأذهبت مروءتها. تتحمل الاسرة قيمة قدرها 100 دولار في المتوسط بالإضافة لما تدفعه للحملة كي تتواصل وتأكل أكل بمستوي معقول في اليوم. ماذا عن الشخص الذي دفع كامل مدخراته ولا يقوي علي تحمل تكلفة إضافية ولو أن يكون شراء كرت لتعبئة شريحته للتحدث مع أسرته وطمأنتها؟ قد يأتي الحاج فلا يجد طعاماً وقد وعده “يونس شلبي” بالبوفيه المفتوح فلم يجد غير “الفول المطروح” “وصحن الطحنية المشلوح”، بل إن معظم أعضاء الحملة كانوا يذهبون للأكل في المطاعم المجاورة ولم يكلفوا انفسهم مشقة التكلم مع هذا الشخص الذي دفعه الجشع لاعتماد عدداً من الحجاج أكبر بكثير من العدد الذي تعاقد به مع صاحب المطعم. فهل هذه فنيات إنقاذية أم انحرافات سلوكية بشرية؟ الاثنان معاً. لم نكن ننحدر الي هذا الدرك من السوء قبل الإنقاذ – السلطة المشؤومة التي جسمت علي صدر الشعب السوداني منذ ثلاثة عقود – لكن الإستهبال كان خصلة كامنة فينا، وستظل ما لم نعمد إلى تقويم ذواتنا المنحرفة.
مثلاً، لقد بحثنا، أنا واولاد حجتي واذا شئت بعثتي، في شأن الاكتظاظ الذي أعاق إمكانية كثير من الحجاج من التحرك داخل الخيمة في مني للتعبد أو لقضاء الحاجة، فوجدنا أن بعض الحجاج يستضيفون اهاليهم او اصدقائهم دون ان يراعوا شعور اخوانهم الحجاج مستغلين الفوضى التي كانت السمة الرئيسيّة للمعسكرات السودانية مما جعل فضائها مرتعا للحجاج “الكيري” (غير المعتمدين لدي سلطات الدولة المضيفة أو حتي أصحاب الحملة). حتي إن المصري أو الكاميروني لا يذهب إلى بني جلدته لأن معسكرهم تحكمه ضوابط صارمة ولو أن يكون استخدام المرحاض، لكنه يأتي إلي إخوته السودانيين فنسبة كبيرة من الحجيج متواجدة في الشوارع ولا تجد مرافق في منى أو عرفة. تحمس مدير الحملة، في يوم من ايّام منى واراد طرد احد الحجاج بعد ان اشتكي اليه البعض عدم توفر مراتب يتوسدونها أو فسحة ينامون فيها. وكما بيّنت لكم فهو فهلوي مما يوعز بأنه رجل فهلوي لا تستطيع كرهه وإن اكتظت منه، ولا يمكنك أن تضمر غير محبته. فقد تراجع بفنية عالية وأحتضن الرجل وقبله في رأسه بعد أن اكتشف أنّ هذا “المسكين” قد دفع له 700 الف جنيه، قيمة تفويج 5 حجاج (سد بيتو حسب تعبيره وأربعة رجال من أقربائه).
هذا اخفاق اداري مريع طال الهرم من أعلاه الي أسفله، وانحطاط قيمي أناخ بكلكله علي جسد الوطن الوجيع. ولذا فقد قررت منذ اللحظة الأولى التعامل مع هذه الحالة الكارثية بإيجابية فعكفت علي تدوين ملاحظاتي البحثية علي أمل ان يطَّلع عليها يوماً صاحب ضمير، علماً بأن المسؤولين المنوط بهم مراقبة إوضاع الحجيج يتنزهون في البوفيهات ويتبرطعون في صالات “كبار الزوار”.لم أكتظ من شيء مثل لبسهم للأحرام وقد كان حريُّ بهم أن يكونوا متأهبين لتدارك أخطاء الموظفين الأخرين والاعتكاف علي خدمة المحرمين. ولهم في قول الحافظ بن رجب الحنبلي أسوة حسنة، فقد قال معزياً من لم تتيسر له سبل الحج:
من لم يستطع الوقوف بعرفة، فليقف عند حدود الله الذي عرفه
ومن لم يستطـع المبيت بمزدلفة، فلْيبت على طاعة الله ليُقَرّبه ويُزْلفَهُ
ومن لم يقدر على ذبح هدْيه بمنى، فليذبح هـواه ليبلغ به الُمنى
ومن لم يستطع الوصول للبيت لأنه بعيد،
فليَقصدْ رب البيت فإنه أقرب إليه مِنْ حبل الوريد
رغم الإخفاقات المؤسسية المريعة إلا أن هناك شعوباً كثيرة عكف قادتها علي تهيئة المناخ المادي لها ممّا سهل لها ادخار طاقاتها للترقي الروحي والفكري، فيما وجد الأخرون أنفسهم محاصرين بتحديات جمّة فأهدروا الطاقة تلك في مقاومة التدني النفسي واحتسبوا لأن المعضلات بالنسبة لبعضهم ترد الي القدر – قردنا كاد ويش نعمل – وليس لأي منطق اداري او مالي. والحال بين العجز والإفلاس، فقد يستحي المرء أن يقول أن أفراد شعبنا قد الِفوا المهانة فلم يعودوا يستغربوا سوء المعاملة وإذا ما لقوا معاملة حسنة فالأغلب انهم يعجبون، ومن أنِف منهم فإنه لا يفلح في تمرير شكواه عبر قناة مؤسسية، فإنها فالأصل لا توجد. رأيت اناساً، بل حجاجاً، يقومون بلهفة الي الاكل ويكسلون عن الذكر بل يغطون في نوم تحسدهم عليه الفيلة، يستيقظون بنشاط غزلاني وتسمع لحركتهم جلبة تزعج القردة متما أعلن عن وضع الطعام علي الطاولة. هذه لم تك يوما من سماتنا. فقد كنا وما زلنا أصحاب يقين، نتحرك بتؤدة ونتحفز بكبرياء لمعالي الأمور ولا تستفزنا صغائرها.
يمر المرء بالفقراء في معسكري منى وعرفة (إنني أستخدم هذا المصطلح مجازاً لأن الفقير لا يملك مثل هذه الأموال الطائلة ليحج بها، لكن هذا الشخص الميسور سيكتشف ما أن يصل إلي المعسكر أنه سرق ولا حيلة له غير التبسم فقد يقرر مندوب الحملة عدم إرجاعه)، فيشمئز من القذارة التي تحيط بمعسكرهم، يمر بالأغنياء (قد لا يكون بعضهم غني بالمعني لكنه يحرص علي الامتياز الذي يضعه في خانة الميسورين وإن كان معسراً، من باب “يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون”، وهذا مرض قديم ابتليت به الأمة)، فيحسدهم علي بلادتهم وبؤس آفاقهم بل تفرغهم للأكل والشواء والتعرف علي الوجهاء. يكون في علمك، المجموعات الديلوكس هي ديلوكس مِن حيث المرقد والمأكل والمشرب وليس التّذوق!
لا يوجد في هذه المعسكرات وعاظ مؤهلين أو مرشدين تربويين مهمتهم الارتقاء بأفهام الحجاج ومخاطبة الجميع، الكل حسب إدراكه. وإذا ما وجد ذاك الواعظ فإنه سيلحظ تعطل قرائن الاستشعار لدي المتلقي أو انشغاله بالجانب الفيزيولوجي، إمّا إسرافاً في حالة “الحج الفاخر”، أو إجحافاً في حالة “الحج السياحي”، الذي يبذل أفراده قصاري جهدهم في محاولة للتغلب على المعاناة اليومية المتمثلة في صعوبة التنقل، الحصول علي الأكل أو الانتظار في الصف لقضاء الحاجة.
(سألت إحدى الحاجات وهي في طرقها إلي السُفرة امرأة مُسِنّة عن نوع الأكل الموجود، فقالت لها الأخيرة وهي في غاية الاشمئزاز “يا بتي، هو في شنو بلا الجغاميز بتاعت كل يوم”). وإذا ما وجد الحاج فرصة، فإنه لربما استغلها في متابعة الشمارات (الأخبار الفارغة) التي تبثها مختلف الجهات ويتم تناولها بيسر في الوسائط الاجتماعية، سيما أنّ خادم الحرمين حفظه الله وبارك في عقبه ما قَصَّر واهدي كل حاج وحاجة واحد غيغا أرسلت له مباشرة في أول أيام النسك!.
لا يختلف مدراء الحملات من حيث البؤس الإداري وعدم الكفاءة المهنية لكنهم يختلفون في طريقة تعاطيهم مع هذا العجز. إذا كان “يونس شلبي” يعتمد الكذب وسيلة لتغطية الفجوات المتعمدة وأحيانا غير المتعمدة– لأنّ القرارات الإدارية لدي موظفو الدولة المضيفة تشوبها أحياناً العشوائية والفجائية التي تجعل اصحاب الحملات يعجزون عن التنسيق والتنوير، فإن “سعيد صالح” قد يتمثل الورع او يقوم بتمثيل بعض الأدوار المسرحية الأخرى، كل ذلك لتدارك بعض المواقف الحرجة التي هي من صنع أيديهم جميعاً، كأن يقبل احدهم اضافة شخص لم يك مدرجاً في برنامج الإسكان المعلن أصلا أو يدرجه في اللحظة الأخيرة جشعاً ومجاملةً، لكنه عِوَض عن مكاشفة زملائه الذين يلزم التنسيق معهم او مُناصحتهم، فأنه يلجأ الي المراوغة او يقرر الاختفاء تماما لساعات، عَل المعضلة تحل نفسها.
لحظت هذا الأمر مراراً، وانتبهت إليه، خاصة عندما كانت تكتظ ساحة الطعام وتزدحم حتى لا تكاد تسع لثلث عدد الحجاج. حينها يهرب كي لا يُواجه بشكوى أو ملامة. في أول يوم لنا بالمدينة المنورة وعند تقاطر الوفود تحمّس “يونس شلبي” وتصرف بصورة حِمْشَة، فعمد إلي السفرة وألقى بالأواني على الأرض تعبيراً عن سخطه وعدم رضائه بالخدمة التي يقدمها المتعهد، أو هكذا زعم فأنا لا أصدقه. وإذا ما حدث الأمر فهو مجرد مسرحية لأن المتعهد إنما يقدم الخدمة التي عُهِد إليه بتقديمها لا أكثر ولا أقل. لا يفهم من كلامي أنني أعترض على السرقة، حاشا وكلا، لكنني أتوقع من الكل، يشمل ذلك وزارات الأوقاف للدول الإسلامية والدولة المضيفة، تجويد مواعين السرقة. الا ترى أن في الأمر خلل فكري ووجداني؟ نحن نتفكر في طريقة ضبطنا لمواردنا المادية، في الوقت الذي تهدر فيه مواردنا الروحية وتغلق فيه أفاقنا المستقبلية؟ هل باليد حيلة؟ نعم. يجب علينا مواجهة هذا العبث في كافة المؤسسات فأي إبطاء من هذه اللحظة فصاعداً يعني لزاماً الفناء.
كان العمانيون معنا في نفس الفندق في المدينة المنورة بيد ان سُفرتهم كانت مختلفة وتصرفاتهم كانت رزينة نسبة لعددهم، ومظهرهم كان أنيقاً ومنضبطاً. واذا أردت ان تعرف لماذا هُمِّلنا بهذه الطريقة وفِي هذه المدة الوجيزة، فانظر الي مليكهم ومليكنا والي نخبهم ونخبنا ولن تحار حينها. لا أكاد أخفي إعجابي بهذا الشعب الذي يعتبر برنجي (أميز) الشعوب الخليجية، فهو شعب واقعي ليس لديه أي أوهام، غني لا يتفاخر بأمور مادية ويعتز في غير ما كِبّر بحضارته الإنسانية، مُجِد لا يتوانى عن التحصيل، أمين لا يَدَّخِر الفضل فيدعي مجهودات الأخرين، حيوي لا يخشي التفاعل مع المتميزين بل يسعى الاستفادة منهم، ووقور لا تستفزه الحادثات فيحصد الكوارث والملمات. حريُّ بمن كانت هذه خصاله أن يزدهر.
قد نعلم أن الادارة العامة للحج والعمرة اعتمدت 40 وكالة،40 وكالة “معتمدة”، من اعتمدهم ووفق اَي آلية وبأي مواصفات؟ هؤلاء عبارة عن “مراسلات” يجهلون ابسط قواعد النظم الإدارية وكثيراً ما تأخذهم نوعا من الرهبة حال التعامل مع موظف الدولة المضيفة الذي لا تحكمه لوائح او قوانين إنما أمزجة ورعب من رؤسائه. فقد يقرر هذا الاخير إلغاء تصديق الوكالة لأتفه الأسباب ولن يتراجع حتي لا يتهم بأنه ضعيفاً. إن كثيراً من المدراء هؤلاء لا يستمدون مكانتهم من تميزهم الإداري أو تفوقهم المهني – خاصة في دول الملح – إنما فقط مقدرتهم على “التفنييش.” هذا السلوك يخلق مناخاً من الرعب يستحيل معه إحداث تراكم معرفي، لأن الموظف الصغير لا يكون همه تقديم الرؤية السديدة، إنما فقط إرضاء تلك الشخصية المريضة.
لا يوجد إداريين في هذه الحملات إنما فقط جهلاء متنزهين، ومن عجب أنهم متأففين عن خدمة من دفعوا لمجيئهم الي هذه البقاع الطاهرة. صحيح أن هناك أمية وتخلف حضاري لدي الغالبية من شعوب المسلمين، بلادنا خاصة، لكن هذا لا يعطي أمراء الحملات وقادة المنظمات مبرراً لإهمالهم بل اضطهادهم. فلا بقاء لهؤلاء الأمراء وأولئك القادة إلا بهؤلاء الضعفاء: تصح هذه المقولة بالمنطق الغيبي (ألا بفقرائكم ترزقون)، وبالمنطق المادي (فمرتبات الموظفين أو حتى رشواهم من دافع الضريبة، المزارع أو الراعي). هل الأولى لموظف الحملة أو موظفتها أن تلبس إحرامها وتعمد إلى التعبد بنسك وكأنها تؤدي الصلاة في غير وقتها، أم الأولى أن تهرع الى الاتصال بالسلطات وتحثها على البحث عن العجوز التي ضلت طريقها ولم يعثر عليها إلا بعد ثلاث ليالي وقد انهكها الجوع وأرق مضجعها الخوف والارتباك بعد أن ضاع عليها أحد أركان الحج؟
بلغت النذالة يوماً بمدير حملتنا واذا شئت مِحْنَتنا أن أبلغ الحجاج في رسالة مكتوبة أرسلت بالواتسب، نصها كالآتي (رغم إنها لم تُرْسَل إلي مباشرة فأنا لم أضُمَّن في مجموعته إذ أبلغته منذ اليوم الأول أنني لن أسكت على هذه المسخرة وسوف أبرئ ذمتي بتوثيق هذه المهزلة التي تسمى زوراً حملة. قال لي بعض الحجاج: “لماذا تريد أن تدوش رأسك– وقد رأوني أسجل ملاحظتي طيلة الفترة التي قضيتها بالمعسكر – فالحال كله من بعض”؟. قلت: هذه السلبية والروح الانهزامية هي التي سمحت لهؤلاء الأراذل أن يتسلقوا فوق رؤوسنا. ليس في السودان فقط، إنما في كل بقاع العالم العربي والإسلامي. فقد تطابقت ملاحظتي مع ملاحظات أخت فلسطينية وأخ عراقي وأخر جزائري وأخرين): “نذكر الحجاج الكرام بان الاطعام بفندق مكة سيبدأ من يوم غدا الجمعة وان وجبه الحجاج بالمخيم حتى العشاء اليوم ..المتعجلين الذين يغادرون عقب الغداء يتحوطوا لذلك …مع الشكر.” انتهي الاقتباس. لكأنه يريد أن يومئ بأنه وفر لهم طعاماً يوماً، علماً بأن الكل قد اتبع أسلوب “المهارات الفردية” منذ اليوم الأول. بهكذا اُسلوب يتم التعامل مع هؤلاء الفضلاء والبشر الضعفاء الذين يفتقر بعضهم الي اَي حيلة المالية وقد لا يحسنون التصرف في مثل هذه الظروف وذاك الوقت العصيب. يا حليل ستات الكسرى والعصيدة فقد منعتهم سلطات الدولة المضيفة من بيع الطعام في منى لكنها لم توجد لهم بديل.
على كل، جزى الله إخواننا وجيراننا الليبيين (في المعسكر وفي الوطن) على حسن صنيعهم، فقد تبرعوا لإخوانهم السودانيين، المتأخرين غير المتعجلين، ببواقي المؤن التي رتبتها لهم حملتهم في حقائب يأخذونها متى شاءوا وأنّى أرادوا. هل أقعدت السودانيون طيبتهم عن المطالبة بحقوقهم وتقصيهم لمطالبهم بصورة منهجية، أم أن عفويتهم – وإذا شئت سذاجتهم – هي التي شجعت حتى مدراء الحملات، دعك عن قادة الدويلات، الإجتراء عليهم؟ لا أدري. لكنني موقن بأن تواضع الشخص يجب أن لا يحملك على ظلمه، بل يجب أن يكون ذلك مدعاة لإنصافه. عموماً انا لا أطمح في الوقت الحالي وبالكادر الذي رأته عيني تصميم برامج (application) يزود الحجاج بأدق تفاصيل الخدمات، تقدير المسافات، يحدد مواقهم، وإن كان الأمر في غاية اليسر، كالتي توفرها حملات الحجاج الأمريكيين. لكنني أطمح إلى توفر الخدمات بمقاييس محلية مرضية تجعل الإنسان المسلم، سوداني، مغربي، فلبيني، أو غيره، يؤدي مناسك الحج بكرامة.
يجب أن ننظر في الكيفية التي يمكن أن تتم بها ترجمة هذه الروح التكافلية التي التمسناها في الحج الى قيم مؤسسية تكون سبباً في نهضة الأمة ومدعاة لتعاونها لتحقيق تنمية مستدامة تتكامل فيها كل الطاقات بعيداً عن التنافس ذو الابعاد الصفرية والروح العدائية المقيتة التي لن نحصد منها غير الهلاك. وذلك بعد أن تكون الإمبريالية قد أفرغت مخازنها من الأسلحة وعبّت أرصدتها بأموال المسلمين. وإذا ما أُحْرِجت فهي تتحسر أحياناً على استهداف “التحالف” لراحلة تقل الأطفال من منازلهم إلى مدارسهم. كيف يحرص المسلم على إفقار جيرانه في الوقت الذي يجب أن يعمل فيه على الإعداد لخطة استراتيجية تنموية تصونهم عن الاستقطاب الأيديولوجي وتنئ بهم عن الولاءات الطائفية؟ ألم تكن 70 عاماً كافية لتحقيق هذه الغاية الإنسانية السامية والمادية الراجحة؟ ما لنا لا نتعلم الدروس ولا نأخذ العبر؟
بكى إمام الحرم المدني وأبكى في أخر خطبة له يوم الجمعة (فأهل المدينة ما زال فيهم رقة لم تعهد عند هؤلاء البدوان)،والتي سبقت نفرة المسلمين وتوجه غالبيتهم نحو مكة لأداء طواف القدوم، حرضهم وأوصاهم على التواصي بالحق، وهو يعلم حجم المكايد التي يكيدها لهم أبناء الملة قبل “أعداء الدين”. كلنا مغلوبين على أمرنا، فمن يا ترى يصون حرم التمكين ويرعى حرمة المسلمين؟ بل من ذا الذي يسعى لإفهام المسلمين أن مهمتهم تتجاوز حدود عقيدتهم الى الإنسانية جمعاء، فهذا من صميم رسالتهم، وهذا هو سبب تلبيتهم لنداء سيدهم وشفيعهم الذي كرر في حجة الوداع قوله: أيها الناس .. أيها الناس .. أيها الناس، ولم يكن مطلبه حينها فقط إنصاتهم إنما أيضاً كان مقصده إسماعهم أن رسالتهم لا تقتصر على جماعتهم.
وهذا البعد الإنسانوي لم يفهمه المسلمون على أنه تعارض بين الإنسان والإله أو أنه صراع أفضي إلى إحداث قطيعة بين العالم الأرضي والميتافيزيقا، مما سهل استبدال الوجود الإلهي بالوجود الإنساني وادى تلقائياً إلى تأليه الإنسان. لأنهم عندما يرددون بصوت واحد: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا، فهم إنما يُقِرون إمكانية التجاوز لهذه الثنائية والتضادية من خلال مفهوم الصيرورة المعوّض لمفهوم الوجود، لكن دون السقوط في شرك العبادة لتلك الأقانيم، كما في فكر محمد إقبال “الذي يردّ هذا المفهوم للوجود، ويقرّ نسقاً آخر يرتكز على التصوّر القرآني المقرّ بالتطوّر والصيرورة، لا الجمود والثبات الذي صنعه الفقيه المتأخر” (عبدالله إدالكوس، موضوع الدكتوراه “النزعة الإنسانية في الفكر الإسلامي المعاصر” 2014).
برز اتجاه “أنسنة الفكر الإسلامي وخطابه بتضمينه القيم الإنسانية” حسب رأي الدكتور عبدالحميد الأنصاري (جريدة الأيام البحرينية، 1 فبراير 2014)، وتطور مؤخراً على أيدي نخبة فكرية مستنيرة، منها: الشيخ حسن الصفار في سلسلة مؤلفاته ومقالاته وبخاصة كتابه القيم (الخطاب الإسلامي وحقوق الإنسان)، وللدكتور عبدالجبار الرفاعي، المفكر العراقي، كتابه المرجعي الهام (انقاذ النزعة الإنسانية في الدين)، وللدكتور سعد الدين هلالي، أستاذ الفقه بالأزهر، كتاب نفيس (الإسلام وانسانية الدولة)، للباحث المفكر زكي الميلاد، كتيب رائع (الإسلام والنزعة الإنسانية: كيف نعطي النزعة الإنسانية قوة المعنى؟)، ولهشام مقالته (النزعة الإنسانية والعقلانية في الإسلام) التي يعرج فيها إلى جهود المفكر محمد أركون في مجال الأنسنة، وإثرائه لهذا المجال في كتابه (معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية)، التي تختلف عن نهج المفكرين الذين وجدوا في القرآن الكريم منبعاً ثرياً وصافياً ومتجددا لاكتشاف نزعة إنسانية إسلامية، مثل شريعتي قد لا تحوجنا على التعويل كثيراً علي الفكر الغربي.
من أي المنطلقات أو الفلسفات قدمنا، فإن إبرازنا لهذه النزعة في ديننا، مهم جداً، ومهم بالدرجة التي يشتد فيها الاستخدام للدين في المحاولة لحسم صراعاتنا السياسية الأيديولوجية، كما يتم توظيفه للبت في خلافاتنا المذهبية والطائفية. الأمر الذي يعيق محاولتنا لبناء دولة المواطنة ويحول دون اندماجنا حيوياً في المنظومة الدولية.
[email protected]