مشكلة السودان فى دارفور
(من منظورنقدى لتاريخ السودان) -16
“مشكل التاريخ هو تاريخ المشكل“
بقلم/ حامد على نور (([email protected]*
1- نهدف من هذه الدراسة الى تناول مشكلة السودان فى دارفورمن منظور تاريخى، فليست ثمة مشكلة بلا تاريخ. لكن ما يُؤسفله هو ان تاريخ السودان المدون الذى درسناه وما زلنا نقرأه فىكتبنا، يعانى فى الواقع من ازمة حقيقية! فاغلب المدون عنه، يتسمبالنزعة الفئوية – ان جاز التعبير– فالكتابات التى تناولت تاريخناالوطنى، وخاصة كتب المناهج الدراسية التربوية، مشوبة بتلكالنزعة الفئوية الآحادية، التى قامت على العاطفة الذاتية وعلىالانحياز الجهوي والاثنى، ولا تخلو من العنصرية. وواضح لنا انتدوين تاريخ السودان لم ينشأ نشأة علمية او موضوعية ومحايدة،انما هو نتاج الظروف الذاتية والاجتماعية والثقافية والسياسيةالتى سيطرت على مفاهيم المتعلمين الاوائل الذين دونوا ذلكالتاريخ او كتبوا تلك الكتب – وما آفة التاريخ الا رواته– فسعوا عبرنهج تحريفى وتخريفى، الى اسقاط تلك الحالة الفئوية الجزئيةعلى الكل، ليتم تعميمه كتاريخ وطنى يُدرس لناشئتنا كجزء منتربيتهم وتكوينهم الوطني. ولا غرابة ان لم تجد الاغلبية الغالبة مناهل الوطن، شيئا ذا قيمة عن تاريخ ونضالات اسلافهم فى مرآةما يدرسون او يقراءون مما ينبغى ان يكون تاريخهم! فالتاريخالرسمى المدون، لا يتعدى ان يكون جزءً انتقائيا من تاريخ الوطن،ومع ذلك لا يخلو من الحشو والتزييف. ومن الطبيعى ألا يمسشغاف قلوب جُل اهل الوطن، ولا يحسوا بولاء له، او انتماء اليه: “ما كتبوه لتعليم الناشئة ليس تسجيل تاريخ انما مصادرة تاريخ…انها سيادة النزعة (الذاتية) مع كل ما يصحبها من خلط فىالقيم، وفقدان القدرة على التجريد، يكشف عن قلة الاستنارة، انلم يكن الذكاء“. (دكتور منصور خالد)
2- وفى تقديرى فان هذا النهج فى كتابة التاريخ قد لعب دوراكبيرا فى تشويش وتغبيش وعى الناس، اذ كان جُل اهتمام اولئكالذين كتبوه، هو تمجيد فئات بعينها وتمييزهم تاريخيا ووطنيا،واعطاء صورا مثالية عنهم، مليئة بحكايات التأسيس والبطولاتالمتوهمة والمقاطع المنتخبة من الذاكرة الجماعية المشحونةبالاساطير والاوهام. وقد ادى هذا التركيزعلى الذات الى الغاءالآخر، بل اعطى صورة سلبية ومشوهة عنه، ادت عمليا لسلبحقوقه والوطنية والانسانية لصالح الفئة التى وجدت الفرصةالتاريخية للوصول لقمم السلطة السياسية والاقتصادية قبلغيرهم، وبالتالى رأت، ومن ثم سعت أن تحافظ على هذا التمييز،وان تقاوم اى تغيير له او تحول عنه.
3– لستُ اكاديميا او متخصصا فى التاريخ او فى علم الاجتماع،وانما سعيت ان أقرأ تاريخنا الوطنى قراءة نقدية تسقط الكثيرمما حملته الينا تلك الافتراءآت المدونة باسمه. والنقد هو الوسيلةالمعرفية الاساسية للوصول الى الحقيقة، وهو أهم اداة ابتدعهاالعقل البشرى للبناء المعرفى. لقد تناول شأن تاريخنا الوطنى منهذا المنظور كثيرون، وهم اطول منا باعا وارسخ قدما ، فسبرواغوره وأوفوه حقه وقدره. ومساهمتنا المتواضعه هذه انما تتناولتاريخ دارفور كدراسة حالة من حالات ذلك التزييف المفضوحللتاريخ. فتزييف تاريخ الوطن قد ساهم بشكل فاعل فى ترسيخالمفاهيم والممارسات العنصرية المعلنة منها والمخفية من قبل نخبةاهل الثقافة المهيمنة فى البلاد، تلك الثقافة التى تمثل فى تقديرى،جوهر ازمة الوطن وعمقها الدامى.. ومهما يكن من امر، فانا لااهدف لمحاكمة التاريخ، كما لا اُحمل جيل الحاضر مسئوليةخطايا الماضى ومثالبه، وانما اسعى فقط، لمواجهة واقع ماضيناالبشع، وضرورة الاعتراف برواسبه فى حياتنا. ومجددا اتفقتماما مع المفكر والعالم السودانى، الدكتور منصور خالد، فهوخير من كتب عن ازمة الوطن وتناول نخبته – وهو منهم، واليهمينتمى– بالنقد والتحليل العلمى الموضوعى، وفى هذا الصدد يوضح:
“..لا ندعو لمحاكمة الماضى، بل نلح على قراءته بوعى نقدىيستنطق الاحداث بهدف سبر اغوار المجتمع للتعرف على القيمالتى تملكته، والمفاهيم التى سيطرت عليه، فالتاريخ يمتحنعقلانيا ولا يحاكم اخلاقيا. (…) الذى يخضع للمحاسبة هو سعىالذين تفترض فيهم الاستنارة، او ينسبون انفسهم اليها للابقاءعلى ارث تاريخى يتعارض مع كل القيم المعاصرة، بل ويصرونعلى تبريره رغم اثره فى تعميق الفوارق بين ابناء الوطن الواحد. “
(منصور خالد/جنوب السودان فى المخيلة العربية/ الصورة الزائفة والقمعالتاريخى)
تاريخ النزعة الفئوية الاستعلائية
4– اتلمس فى هذه الدراسة المبسطة، الخلفية التاريخية لنشوءهذه النزعة الاستعلائية، والتى بدأت فى تقديرى مع دخول العربالسودان، ثم تطورت فى العصورالوسيطة، وهى مرحلة الممالكوالسلطنات السودانية؛ وصولا الى تاريخنا الحديث، الذى يُورخلبدايته بالغزو التركى المصرى فى القرن التاسع عشر، حينما تمدمج هذه الممالك قسريا فى دولة واحدة، ومن ثم نشوء الدولةالسودانية الموحدة والتى عُرفت بأسم: (السودان التركىالمصرى)، ككيان سياسى جغرافى محدد، وليس كمصطلحجغرافى عرقى.. هذا الدمج للكيانات السياسية السودانية فىكيان سياسى موحد قد ساهم فى انتقال الدولة الجديدة الموحدةمن علاقات كانت محدودة بالعالم الخارجى، الى الارتباطبعلاقات اقتصادية و سياسية اكثر بالخارج وبالسوق العالمية ،(انظرمحمد سعيد القدال). وقد استمر الاستعباد التركى المصرى للسودان من العام 1821 الى 1885 حينما اسقطته الثورةالسودانية واقامت دولتها الوطنية المهدوية، والتى لم تدم بدورها سوى ثلاثة عشرة عاما (1885-1898)، فانتهت مع نهاية القرنالتاسع عشر وبداية الاستعمار البريطانى للبلاد، والذى دامسبعة وخمسين عاما، قبل ان ينال السودان استقلاله.
5– وفى العموم فان مصطلح تاريخ السودان الحديث بغرض موضوعنا هذا، انما يعنى تلك الفترة الممتدة من بداية العهدالتركى فى العام 1821 وحتى هذا العام 2018، والذى يبلغ مداه196. ويمكن تقسيم هذه الحقبة الزمنية الى اربع مراحل هامة منتاريخنا الوطنى على النحو التالى: 64 عاما تحت الحكم التركىالمصرى، 14 عاما حكم الدولة المهدية الوطنية ، 57 عاما منالاستعمار البريطانى و61 عاما هو عمر استقلالنا المجيد حتىهذا التاريخ (2017).
6– فى المرحلة الاولى من هذه الحقبة، (العهد التركى المصرى1821-1885)، نشأت الانتلجنسيا او لنقل النخبة السودانية، اول ما نشأت فى حضن السلطة التركية الحاكمة ورضعت من لبانهامنذ بدية دخولها لمناطق الشمال والوسط النيلى، (انظرمحمدسعيد القدال/تاريخ السودان الحديث). وابان الدولة المهدية، (1885-1899) وعيت اكثر بذاتها الطبقية والاثنية والمناطقية، وحددتموقفها من الاخرين بشكل حاسم. وما ان جاء عهد الاستعمارالبريطانى (1899-1956)، حتى تقوت وتعززت قدرتها فتوسعتلتصبح مؤسسة نخبوية قوية ومؤثرة فى كل مناحى الحياةالسياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية، وساهمت بشكلفاعل فى تشيكل الراى العام فى اغلب بقاع السودان بخاصة فىمناطقها بالوسط والشمال النيلى وفى المدن الكبرى والريفية فىالمناطق الاخرى، كما و ظلت محافظة الى حد كبيرعلى طابعهاالفئوى ومتأثرة بالعقل الجمعى السائد فى تلك المناطق والقائمعلى االعشق للذات القبلية والعرقية، وتعتقد فى سمو ذاتها.فأولعت فى التفاخر، وارضاء الغرور بمدح الذات، حتى ثملتالعقول من خمر المديح، فتمكنت منها النزعة الاستعلائية مما جعلالكثيرين مازالوا يتوهمون بانهم متميزون نوعيا عن غيرهم منسواد هذا الوطن. ومعلوم ان سكان الشمال والوسط النيلى،بحكم موقعهم الجغرافى، هم الاكثر انفتاحا على الحضارةالمتوسطية، وان قدرهم عبر التاريخ هو ان يستقبلوا جيوش الغزاةالاجانب القادمين من الشمال، مواجهة واصطداما او استسلامااذا ما رق الحال. وسنركز فى تناولنا على الغزوين والعهدينالاجنبيين: التركى المصرى والبريطانى المصرى للسودان، وشكلتعاملهما مع السكان وردود فعل المواطنين فى مناطقهم المختلفة،والحصيلة التى خرجوا بها. من هم الرابحون ومن هم الخاسرونمن شعوب هذه الدولة حديثة التكوين خلال هذين العهدين، ثمندلف الى العهود الوطنية لنرى خلالها الرابح من الخاسر ايضا، والحصيلة الكلية للوطن عهوداستقلالنا المجيد. لكننا قبل ذلك لابد ان نقف على الخلفية التى تمثل العمق التاريخى لموضوعنا.
تاريخ التكوين الاجتماعى للسودان
دخول العرب ومحنة الشعوب الافريقية
7– جذور الشعب السودانى ضاربة فى هذه الارض، كحضارةانسانية عريقة انشأها الشعب السودانى الافريقى منذ آلافالسنين وساهمت فى تطوير الحضارة الانسانية جمعاء، ولسناهنا فى مقام اثبات ذلك، فمن الادلة التاريخية المادية ما يكفىويزيد. فالشعب النوبى المقيم على ضفاف النيل وفى جبال كرفانودارفوروشعوب البجا على سواحل البحر الاحمر هو نفس شعوبدولة كوش النوبية التى كانت قائمة منذ قرون قبل الميلاد. ورغمتأثيرات الهجرات القديمة والحديثة من غرب افريقيا ومن شمالهاومن قبائل الصحراء الكبرى نحو ارض السودان الحالية، الا ان المرحلة الفارقة فى تاريخ التكوين الديمغرافى قد بدأ بالفعل معأجتياح القبائل البدوية من الجزيرة العربية عبر مصر وعبر البحرالاحمر نحو السودان. ولقد اثرت الحضارة العربية البدوية الجديدة تأثيرا سلبيا الى حد كبير على الحضارة النوبية السودانية المستقرة والمتطورة فى عهدها، فدمرت جزءً حيويا منها وحلت مكانها حضارة بدوية عنيفة ومتوحشة وعيا وممارسة. وصفة التوحش اطلقها شيخ المؤريخين (ابن خلدون)، قبلسبعمائة عام، على العرب البدو، فأكد طبيعة التوحش فيهم،وانهم اهل انتهاب وفساد، وامة وحشية باستحكام عوائد التوحشواسبابه فيهم..وهذه طبيعة منافية للعمران ومناقضة له. (مقدمة ابنخلدون).
8– واسم (السودان) نفسه انما اطلقه الجغرافيون العرب علىالبلاد التى تقع جنوب الصحراء الكبرى وسكانها من الافارقةالسود، تفريقا لها من بلاد (البيضان)، اى مصر ودول شمالافريقيا التى اصبحت جزءً من العالم العربى بعد ان سادهاالعرب عن طريق غزواتهم وحروباتهم الجهادية على شمال افريقياوحتى اسبانيا فى القرنين السابع والثامن الميلادى. وتؤكد الآثاروالنصب التذكارية بالمنطقة ان السكان الافارقة من البربرالامازيق هم الذين يقطنون كل شمال افريقيا منذ العصور الغابرة، وذلك قبل غارات الرومان والقبائل الجرمانية والفينيقين ومن بعدهم العرب المسلمين فى القرن الثامن الميلادى.
9– ومعلوم ايضا، ان نشأت الدول الحالية، انما قامت فى مرحلةتلك الهجرات الكبيرة للشعوب والامم من مناطق الى اخرى، وعبرالحروبات الكلونيالية فى القارات القديمة واعادة ترتيب دولهابالمغالبة، فتكونت دول جديدة ونشأت حضارات هجينة ثقافاتمتجددة؛ وقد تخلقت عدة اوطان عبرهذه الهجرت البشرية مثلألامريكتين، و دول الاراضى الجديدة الاخرى كأستراليا ونيوزلنداوشكل الاستعمار الاروبى الحدود السياسية لاغلب الدولالافريقية الحالية. وفى العصور الاخيرة استقرت الاوضاع علىما هى عليها..ولعل الملاحظ الى حد كبير ان الدول التىاسوطنتها او سيطرت عليها امم متحضرة ومتمدنة، فقد تسارعتفيها أنسنة المشاعر والعلاقات بين الشعوب، فحققت قدرا من التقدم والنجاحات الاقتصادية والاجتماعية، واما تلك التىاستوطنتها القبائل والامم المتوحشة فقد ظلت متعثرة، الى حينتجد لنفسها او يجد الله لها مخرجا. وبالعموم فقد مارستالشعوب القوية استغلال الضعيفة لدرجة كبيرة فى التاريخالانسانى، الا ان ظلم الانسان لأخيه الانسان لم يعد امرا مقبولاالان، فالقيم الانسانية الرفيعة التى سادت عصرنا قد رفضت تلكالممارسات البئيسة وقللت منها الى حد كبيرعبر انتشار مبادىءحقوق الانسان التى اخذت طابعا عالميا.
10– وتظل الحقيقة التاريخية الماثلة، هى ان دخول الرجل الابيض،(العربى ومن بعده الاروبى)، الى افريقيا عبر العهودوالثغورالمختلفه، قد نتج عنه ممارسات همجية وقاسية ضد هذهالشعوب الافريقية. فقد عرف العرب سواحل افريقيا واعماقها،ودخلوها قبل الاروبين، و هم الذين بدأوا اصطياد الافارقةواسترقاقهم والتجارة بهم، وعندما دخل الاروبيون فى هذهالتجارة، اصبح العرب سماسرة لهم. وما من شك بان دخولالعرب الى السودان كان بداية المحنة القاسية للشعوب السودانيةالافريقية الاصلية، فهناك جوانب مظلمة وسيئة كانت ومازالتسائدة فى ثقافة العرب حملوها معهم عند دخولهم البلاد، كنظرتهمالازدرائية والاضطهادية للانسان الاسود. فالعرب الذين دخلواالبلاد، ثم من بعدهم هجينهم من حملة الثقافة العربية وممنانتحلوا الانتساب اليهم اخذوا يثقافتهم، ساروا على نفس نهج الممارسات الهمجية ضد السكان الاصليين. وقد ادت تلكالممارسات الى ان يهجر السكان الاصليون المناطق التى كانوايأهلونها فى شمال واواسط البلاد وعلى ضفاف الانهار،ويهربون الى الاطراف القصية معتصمين بالجبال الغربيةاوالمستنقعات الجنوبية هربا من الغارات العنيفة الهادفة الىاصطيادهم واستعبادهم والتجارة بهم. فثقافة اصطياد وتجارةالبشر انتشرت فى البلاد وترسخت برسوخ الثقافة العربية التىاصبحت تتعاطى وبكثافة صيد وتجارة الرقيق، ثم اورثوها فيمابعد لابنائهم واحفادهم، الذين أساءوا الى خوؤلتهم واثداء امهاتهموبعضهم ما زالوا يسيئون متى ما وجدوا الى ذلك سبيلا!.
11– لقد تسرب العرب الى بلاد النوبة (السودان)، فى مجموعاتوعبر فترات تاريخية متطاولة. وكأهل بادية، كانوا يقيمون فىالفرقان والبوادى، ولهم اماكن اقامات خاصة بهم فى داخل المدن،لكنهم بالتدرج اختلطوا وتصاهروا مع المجموعات السودانيةالمحلية. ويشير بروفسور سيد حامد حريز فى احدى كتاباته، انالمستوطنين العرب لم ينشئوا حملات تبشير بالاسلام، فنشرالاسلام لم يكن سببا من اسباب دخولهم البلا، خاصة وانثقافتهم وممارساتهم الى اليوم، وحتى فى بلادهم محض عروبيةولا تمت الى جوهرالاسلام بصلة!… ان الاعرب الذين استقرواعلى شواطىء النيل واختلطوا بالشعب النوبى ذى الحضارةالضاربة فى جذور التاريخ، ونتج عن الاختلاط هجين من النوبةالمستعربين. وهناك من العرب ومن الكيانات الوافدة الاخرى، ممن(تنوبوا)- اى اصبحوا اقرب الى النوبيين– كالكنوز، واصلهم منعرب ربيعة، وبقايا الجيوش الغازية من الجهة الشمالية،ومجموعات المماليك الذين نزحوا جنوبا بعد انهيار مملكتهم فىمصر، (واصولهم من الشركس والاكراد والالبان والسلاف..الخ) وقد اصبحوا الان جزءً من المجموعة النوبية الشمالية. وهولاءواولئك من القبائل التى تقطن الشمال النيلى ممن عُرفوابالمجموعات العدنانية، ويُعرفون ايضا بالمجموعة الجعلية بكلفروعها ومسمياتها المختلفة، واخرون من جهينة القحطانية سكنواالوسط النيلى كالجزيرة وما حولها. وفى شرق السودان اختلطتايضا قبائل البجا بعناصر عربية وافدة مثل الكواهلة واخرين مناليمن، وفى غرب السودان دخلت القبائل العربية القحطانية الىكردفان ودارفور من الشرق ومن الشمال المغاربى واختلطتبالقبائل المحلية واصبحت مكونا من مكوناتها وجزء عضويا مننسيجها الاجتماعى. هكذا كان لدخول العرب المسلمين وتغلغلهمالتدريجى واستقرارهم النهائى فى السودان، اثر كبير فى تشكيل الكثيرمن الكيانات الاثنية السودانية، وانعكست بوضوحعلى ملامحهم وعلى ثقافتهم، كما ادت الى تغيرات كبيرة فىالبنية الثقافية السودانية، خاصة بعد انتشار اللغة العربية ورسوخالديانة الاسلامية فى اغلب انحاء البلاد ولو بدرجات متفاوتة. هذهالتحولات كانت اكثر وضوحا فى شمال ووسط وشرق البلاد،منها فى المناطق الاخرى مثل جنوب كردفان، والنيل الازرقواجزاء واسعة من دارفور.
12– ونتيجة لمصاهرات العرب بالسكان المحليين، زواجا كان اوتسريا، والاخير هو الاكثر انتشارا، ومع مرور الزمن وانتشارالديانة الاسلامية بين الحكام والنخب المجتمعية المؤثرة التىتغلغل العرب فى اوساطها ، فقد انتشرت العربية ايضا كلغة دينولغة تواصل بين الشعوب المتعددة وبذلك هيمنت الثقافة العربيةالاسلامية الجديدة وتغلبت على المحلية. ولعل اكبر تغير اجتماعىوثقافى حدث فى هذه الفترة هو تحول النسب العائلى و ميراثالسلطة السياسية، من الامومة الى الابوة، اى من (الرحم)، الىما يُعرف فى الفقه الاسلامى ب (العَصَبة). وعلى سبيل المثال فانالاميرة السودانية التى يتزوجها عربى، سيصبح ابنها (منالعربى)، اميرا او حتى ملكا، وذلك بحكم الاعراف والتقاليد لملوكيةالسائدة فى اغلب افريقيا آنذاك. وبوصول ملك من اب عربى الىسدة الحكم، يتحول ميراث السلطة من بعده الى العصبة، اى الىابن الملك من ظهره او الى اخيه من ابيه وليس لابن اخته اوابنبنته كما كان سائدا. هذا التحول ادى لرسوخ تمييز او سموالاصل العربى فى مفهوم هجناء السودان. اما مفهوم الهجيننفسه فى ثقافة العرب، فهو ابن المرأة غير العربية وهو عندهممعيب. وقد اوضح ابوالعباس احمد بن يحى ذلك بشكل جلىبقوله: “الهجين هو الذى ابوه خيرُ من امه“، بمعنى ان اباه عربىوامه غير عربية، (انظر لسان العرب لا منظور)، ويكون الامر معيرةحقيقية للهجين حينما تكون الام افريقية سوداء، فيصطدمالهجين بأزمة لونه وملامحه المختلفة عن ابيه العربى، فيسعى فىدأب للالتصاق (بعصبته)، والتفاخر بها فى محيط خؤلته السودالذى يتعالى عليهم. ومن المعلوم ان الآباء العرب قلما يعترفون،ناهيك ان يتفاخروا، بأبنائهم من السرارى السوداوات. ولعل فىسيرة عنترة بن شداد فى التراث العربى، ما يكفى من الدليل علىهذا الواقع.. ولقد كان عنترة اكرم واعز جانبا منًا نحن مستعربيالسودان، فقد كان يعيش فى محيط مجتمع عربى ابيض، يتوقللتخلص من عبوديته الاجتماعية ونيل حريته، اكثر مما كان يتوقالى النسب العربى. فانتسابه لعَصَبته من البيض لم يخفى عنهافريقيته المتمكنة منه لونا وملمحا، مثل تمكنها من اى سودانىآخر، وكما قال هو: “…فما لسواد لونى من دواء“. لكن سواد لونعنترة لم يقلل من عزة نفسه الابية، ولله دره من قائل: (لاتسقنىماء الحياة بذلة.. بل فأسقنى بالعز كأس الحنظل)؛ فعزة النفسالتى كان يتوق اليها عنترة هى حريتة فقط والفكاك من اسر العبودية.. وعلى كل فقد انتزع عنترة حريته بينما فشلنا نحنمستعربى السودان ان نكونوا عربا معتبرين، بقدر فشلنا فىان نكونوان افارقة محترمين..! ثم عز علينا بعد ذلك ان نرضوالأنفسنا بان نكون مسخا للاثنيين! ..فبينما نرى انفسنا عربا،بل وانتحلنا الانتساب الى اشراف العرب!… الا اننا فى نظرالعرب (أسياد الاسم)، افارقة سود وندعى الانتساب للعروبة!.. ومن جانب نضطهد اخوتنا وابناء جلدتنا الافارقة، بل ويطلقونعليهم صفة “العبيد “.. لكن اخوتنا ”العبيد“ هولاء يسخرونمنًا، ويتهكمون علينا، اذ يروننا غِربانا نختال بريشطوائيس!.
وفى صبيحة استقلالنا وعند تولى اول قيادة وطنية زمام السلطةفى البلاد، فاذ بقيادتنا السياسية المستعربة، تحسم امرالهويةالوطنية لكل شعوبنا المتنوعة بالعروبة!.. فازددنا غربة عن انفسناوعن العالمين! … وازددنا ضياعا واستلابا، وبلغ بنا الرهق كلمبلغ – (والرهق فى اللغة هوالحمق والسفه/ لسان العرب)- ونحننرى تاريخنا وتراثنا وحضارتنا المتجذرة منذ الاف السنين فىارض هذا الوطن، مرهونة للعرب! وظللنا من بعد ذا ننظر الىتاريخنا نظرة اثنوغرافية، فيما بدأت حتى المجتمعات الاثنوغرافيةتنظر الى نفسها نظرة تاريخية (بيير نورا)
نواصل (2-6)
*باحث وناشط مدنى