مخاض الانتخابات السودانية …الصناديق الملغومة

على مسافة أيام من موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في السودان، وهي الأولى منذ 24 عاماً، تعيش الخرطوم حالة تشبه المطبات الهوائية بين تهديد «الحركة الشعبية» بالانضمام الى أحزاب المعارضة في الشمال، وتلويح الرئيس السوداني بإلغاء الاستفتاء على مصير الجنوب، والتدخل الأميركي لتمرير العملية الانتخابية بأقل ما يمكن من الأضرار والتداعيات. إنها الصناديق الملغومة والمفتوحة على أزمة جديدة بعد الاعلان عن النتائج، يمكن أن تنسف موسم المصالحات وتعيد الأزمة كلها إلى حالة متفجرة.


3 معطيات تحكم المشهد السوداني قبل عشرة أيام من موعد المعركة: الأول انسحاب ياسر عرمان مرشح «الحركة الشعبية لتحرير السودان» من السباق الرئاسي الذي يعتبر تقويضاً لمسألتين: شرعية هذه الانتخابات من جهة والتعاون بين شريكي الحكم في الشمال والجنوب من جهة أخرى. الثاني مقاطعة أحزاب المعارضة (معظمها على الأقل) العملية السياسية، بالتنسيق مع الحركة الشعبية احتجاجاً على عدم نزاهة العملية الانتخابية. والثالث تهديد الرئيس السوداني عمر البشير بإلغاء استفتاء كانون الثاني (يناير) 2011 حول مصير الجنوب، احتجاجاً على مواقف الشريك الجنوبي.


في هذه الأجواء بدأ المبعوث الأميركي إلى السودان سكوت غريشن محادثات أزمة، لطمأنة الخرطوم الى الدعم الأميركي للعملية السياسية، ومحاولة إقناع أحزاب المعارضة المقاطعة بالالتزام باتفاقات العام 2005 التي أنهت عقدين من الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وعلى أساسها انضمت الحركة الشعبية إلى الائتلاف الحكومي. لكن المساعي الأميركية- حتى أواخر الأسبوع الفائت- أحدثت انقساماً حادا بين أحزاب المعارضة من دون أن تزيل التوتر من الاجواء السياسية.


يزيد الوضع تعقيدا ان اتفاق التسوية الذي عقد حول دارفور لم يدخل بعد مراحله التنفيذية، وان أطرافاً سودانية كثيرة تعيش حالة عدم ثقة بالتدابير التي اتخذت لاجراء العملية الانتخابية وتعتبرها عملية ملغومة، وهذا يعني في مجمله ان الوضع السوداني مفتوح منذ الآن على انتخابات مشكوك في نزاهتها وشرعيتها، فضلا عن انه مفتوح على طلاق محتمل بين الشمال والجنوب. ومع أن نقطة التلاقي الوحيدة بين السودانيين هي الاقتناع العميق بفداحة تجدد الحرب الأهلية- اذا تجددت- وفداحة استمرار الكارثة في دارفور، وما يترتب على الحرب والكارثة معاً من تداعيات، فإن كل شيء يدل على أن السودان يعيش أزمة قيادة حقيقية قد لا تنفع معها مساحيق التجميل في اعادة الاعتبار الى النظام الحاكم.


هل تكفي الأيام القليلة المقبلة لانقاذ العملية الانتخابية وبالتالي مشاريع المصالحة؟

الحركة الشعبية لتحرير السودان تقول انها سحبت مرشحها في السباق الرئاسي وقررت مقاطعة العملية الانتخابية في دارفور «لأن هناك حرباً في الاقليم وحالة طوارئ».

وعزا عرمان هذا القرار الذي قال إنه جاء بتنسيق مع تحالف المعارضة، إلى أن لدى حركته وقوى المعارضة لائحة طويلة من المآخذ على الطريقة التي تدار بها الانتخابات، من تسجيل اللوائح وحتى طباعة أوراق التصويت، وأبدى ثقته في أن باقي مرشحي الرئاسة سيقاطعون الانتخابات. في غضون ذلك دخل تحالف المعارضة مرحلة حاسمة لتحديد موقف نهائي من المشاركة، وسط انقسام بين أطرافه، إذ اعلنت أحزاب «الاتحادي الديموقراطي» و«المؤتمر الشعبي» و«التحالف السوداني» أنها لن تقاطع الانتخابات. وأعرب المسؤول السياسي لـ «المؤتمر الشعبي» كمال عمر عن دهشته إزاء قرار «الحركة الشعبية» سحب ترشيح عرمان. وقال إن ذلك أكد لهم أن موقفهم من دخول الانتخابات كان صائباً، وأنه «لا يمكن أن نعتمد على قوى سياسية ليست موحدة».


من جهته أكد رئيس «حزب التحالف الوطني الديموقراطي» العميد عبد العزيز خالد الذي ينافس على الرئاسة أن حزبه «قرر الاستمرار في الانتخابات بكل مستوياتها». وقال إن حزبه «يحترم خيارات قوى المعارضة في الانسحاب أو مواصلة المشوار، وبالتالي فإننا لن نتخذ قراراً من وراء ظهورهم».


وكان عرمان أشار إلى أن لدى الحركة مشاورات مع بعض الأحزاب التي لديها مصاعب في سحب أعداد كبيرة ممن ترشحوا على مستوى عدد من الولايات، لكن إذا اتفقت كل المعارضة، فيمكن أن نقاطع الانتخابات (بجميع مستوياتها) في ما تبقى من ولايات الشمال»، إضافة إلى دارفور.

لكنه أكد مشاركة حزبه في الانتخابات في الجنوب التي تعتبر شرطاً لازماً لإجراء الاستفتاء بحسب اتفاق السلام. وحمّل «المؤتمر الوطني» الحاكم «مسؤولية دفع الجنوب إلى الانفصال» الذي توقع أن يؤول إليه الاستفتاء في كانون الثاني (يناير) المقبل. وقال إنه سيشجع المعارضة على عدم منح الشرعية للبشير وعلى مقاطعة الانتخابات، لا سيما في دارفور والانتخابات الرئاسية.


الانفصال في الأفق ماذا يعني هذا كله؟

إنه يعني أن السودان الذي وقع اتفاق السلام في العام 2005، ودشن مفاوضات دارفور في الدوحة، يقف عند منعطف خطير عشية الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية التي يفترض أن تجري في 11 نيسان (ابريل) الحالي. وقد تؤدي الانتخابات الى نتائج من خارج الصناديق تدخل الوضع الأمني والسياسي ككل في حالة من عدم اليقين.

نقرأ في دراسة أعدها فيليب دو بونتيه محلل شؤون افريقيا جنوب الصحراء «يوريجا غروب» (Eurasia group):

في جوبا، عاصمة الجنوب، الانتخابات هي عملياً حدث من دون أهمية، وتُعتبَر مجرد إجراء شكلي على الطريق نحو الاستفتاء حول استقلال الجنوب في كانون الثاني (يناير) 2011، والذي يعتبر أكثر أهمية بالنسبة إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تتخذ من الجنوب مركزاً لها. فالانتخابات الوطنية هي مجرد جزء من اتفاق السلام الشامل الذي تم بوساطة أميركية، وهي آخر تنازل في الطريق نحو الاستفتاء.


والمرشح الذي اختارته الحركة الشعبية لتحرير السودان للرئاسة- قبل أن يعلن انسحابه- هو انعكاس للامبالاتها. فبدلاً من تسمية قيادي حقيقي في الحزب يحظى بدعم كبير، رشّحت سياسياً شمالياً غير معروف يدعى ياسر عرمان. وربما كانت هذه المبادرة عبارة عن لفتة شاملة لكن حظوظ المرشح محدودة جداً. تضيف الدراسة: لن تُقاطع النخب السياسية الجنوبية في الحركة الشعبية لتحرير السودان والأحزاب الأصغر الانتخابات الوطنية، لكنها ستركّز كل مواردها ومناوراتها السياسية على الفوز بالمقاعد التي تأمل هذه النخب في أن تقود إلى تشكيل حكومة دولة جنوبية مستقلة في أقل من عام. وانتخابات الرئاسة والحاكميات في الجنوب والبرلمان الذي يتخذ من جوبا مقراً له، مهمة للغاية في هذا السياق. والمنطق السياسي واضح هنا؛ فبما أن الاستقلال هو فعل إيمان في جوبا، فلماذا يزعجون أنفسهم بانتخابات لن تدوم مفاعيلها أكثر من عشرة أشهر، في الوقت الذي ستولد فيه دولتهم الخاصة التي يتوقون إليها منذ وقت طويل؟ لهذا السبب، عقد سالفا كير، رئيس حكومة جنوب السودان شبه المستقلة، العزم على الاحتفاظ بمنصبه في حين أُرسِل ياسر عرمان لتمثيل الطموحات الرئاسية الشكلية للحركة الشعبية لتحرير السودان في الخرطوم.


لكن، إذا ما كان الاستقلال يُعتبَر محتوماً في جوبا، فكيف يُنظَر إليه في الخرطوم؟ هل حزب المؤتمر الوطني الحاكم بزعامة البشير مستعد للتعايش مع جنوب مستقل يضم أكثر من ثلثَي الاحتياطي النفطي للبلاد؟ وماذا عن الأحزاب الشمالية الأكثر قومية أو ميلاًً نحو الإسلامية التي قد تكتسب نفوذاً بعد الانفصال؟


يعتبر عدد كبير من الخبراء في الشأن السوداني الذين يدقون ناقوس الخطر حول استقلال الجنوب منذ توقيع اتفاق السلام الشامل في العام 2005، أن التعايش مستحيل، ما يضع الشمال والجنوب في مسار تصادمي قد يؤدّي إلى تجدد الحرب الأهلية. ووفقا لهذه المدرسة الفكرية، سيضع حزب المؤتمر الوطني عوائق إجرائية ويستخدم ذرائع أخرى لإرجاء الاستفتاء إلى ما لا نهاية، ما سيدفع بالحركة الشعبية لتحرير السودان إلى إعلان الاستقلال من جانب واحد. وهكذا سترى دولة جديدة النور، لكنها ستكون عُرضة إلى خطر هجوم وشيك من الشمال.


السيناريو الآخر

لكن هذا السيناريو ليس حتمياً البتة. فثمة أدلة بأن الخرطوم وبلداناً أساسية أخرى في المنطقة مثل مصر، ليست مستعدة وحسب للتعايش مع جنوب مستقل (ولو بحذر)، بل إن هذا ما تتوقّعه الآن توقعاً تاماً. لم يعد السؤال المطروح، هل ستولد دولة جديدة في الجنوب العام المقبل؟ بل هل ستعيش بسلام مع جارتها وتكون دولة مستقلة قابلة للحياة، لا منطقة موضوعة تحت حماية المجتمع الدولي؟


صحيح أن السلام شرط مسبق كي تكون الدولة الجديدة قابلة للحياة، لكنه ليس ضمانة. فالدولة المئة والثالثة والتسعون في العالم (بحسب تصنيف الأمم المتحدة) التي لا منفذ لها إلى البحر وذات الحكم السيئ (حتى الآن) والغنية بالموارد والعرضة للنزاعات، ستولد مع كل الخصائص التي نجدها عند الدول الأكثر هشاشة في العالم التي حدّدها عالم الاقتصاد في جامعة أكسفورد بول كولييه. ومع اعتماد الحكومة على النفط للحصول على 98 في المئة من عائداتها، وفي غياب شبه كامل للبنى التحتية خارج جوبا، من الواضح أنه سيكون على المانحين تحمّل أعباء معظم الفواتير التي قد تصل إلى مليارات الدولارات سنوياً للحؤول دون غرق الحكومة.


ومع ذلك، من غير المحتمل أن تتجدّد الحرب الأهلية السنة المقبلة، رغم انعدام الثقة بين الخرطوم وجوبا. لقد تعرّض اتفاق السلام الشامل إلى انتكاسات عديدة منذ العام 2005، لكنه لم ينهر، مُظهراً قدرته على الصمود تحت الضغوط. ورغم ذهنية الربح والخسارة وسياسة حافة الهاوية اللتين اتّسم بهما تطبيق الاتفاق طوال سنوات، قدّم الجانبان في اللحظات الحاسمة تنازلات صعبة لابقائه حياً. فقد رأى الطرفان أن فوائد التقيّد بالاتفاق، ولو كانت مؤلمة في معظم الأحيان، تتفوق على تكاليف انهياره. وتريد حكومة البشير احكام قبضتها على السلطة وتطبيع العلاقات مع الغرب إن أمكن؛ أما بالنسبة إلى جوبا فلطالما كان الاستقلال هو المكافأة. هذه النتائج واضحة للعيان الآن، ولا تُقصي واحدة منها الأخرى.


غير أن النجاح يتطلّب جولة أخرى من التسويات، ولاسيما في ما يتعلق بعائدات النفط. سوف يكون من الضروري الإبقاء على شكل معيّن من تقاسم العائدات النفطية من أجل التخفيف من وطأة التداعيات الاقتصادية لانفصال الجنوب عن الخرطوم.


وتنتهي الدراسة الى القول:

لكن، حتى لو تحقّق هذا السيناريو السلمي نسبياً في الأشهر العشرة المقبلة، ليس واضحاً على الإطلاق بأن الجنوب المستقل حديثاً سيكون دولة قابلة للحياة تتمتّع بالاكتفاء الذاتي. ويخشى حلفاء جوبا الطبيعيون (بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وجيرانها في المنطقة مثل كينيا وأثيوبيا) أن يُصبح جنوب السودان الدولة العاجزة التالية في أفريقيا، ناهيك عن تحوّله مصدر إلهام للحركات الانفصالية في مختلف أنحاء القارة، بدءاً بمناطق أخرى في السودان مثل دارفور. فالتنافس على الموارد النادرة يؤلّب أصلاً المتّحدات والمجموعات العرقية بعضها على بعض، ما أدّى إلى تجاوز عدد الضحايا في الجنوب أعداد الذين سقطوا في دارفور العام الماضي. وبحلول كانون الثاني (ينيار) 2012، ربما لن تحذّر عناوين الصحف الرئيسة حول السودان من تجدّد الحرب بين الشمال والجنوب، بل من خيبة الأمل المتزايدة، والخصومات العرقية، والتململ داخل الجنوب نفسه.

العالم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *