بقلم : حسن ابراهيم فضل
شكل التاسع من يونيو الجاري ,نقطة فارقة في مسار تحقيق العدالة في الازمة السودانية في دارفور , وذلك بمثول المتهم علي محمد عبد الرحمن الشهير ب (علي كوشيب ) امام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي والذي يتهم بارتكاب اكثر 50 جريمة ضد الانسانية وجرائم الحرب في دارفور, بل اعطت العملية الامل لأسر الضحايا في ان العدالة ستنجز بعد ان اصاب الكثيرين منهم اليأس والاحباط , وشكل ايضا دفعة مهمة للمحكمة بعد ان اصاب صورتها الكثير من التساؤلات حول قدرتها على تحقيق العدالة في دارفور خاصة بعد حفظ ملف الرئيس الكيني كنياتا وما اعتبره مناهضي المحكمة عدم قدرة وضعفا في اليات المحكمة لتحقيق العدالة.
وتعتبر المحكمة الجنائية الدولية بالنسبة لدارسي القانون الجنائي الدولي هي علامة بارزة في تاريخ الفقه الجنائي الدولي وتطوره منذ محاكم نوريمبرج إلى محاكم لاهاي ومن الإفلات من العقاب إلى حكم القانون ,ويعتبر الملاذ الاخير للضحايا في ظل انعدام العدالة وتسيييس المؤسسات القضائية في الدول التي شهدت جرائم خاصة السودان الذي يعتبر النظام القضائي فيه من أسوأ النظم القضائية في العقدين الاخيرين وذلك لتصريح معظم المهنيين من القضاة واستبدالهم بموالين للنظام وفق سياسة التمكين المتبعة في حكومة المؤتمر الوطني.
وما ان أعلنت المحكمة الجنائية في بيانها يوم 9 مارس 2020 ان “علي كوشيب موقوف لديها بعدما سلّم نفسه طوعا في جمهورية إفريقيا الوسطى، بناء على مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحقه في 27 أبريل 2007”. وتلى ذلك مثوله الاول امام المحكمة في جلسة توجيه التهم ,سرعان ما طرحت العملية عدة تساؤلات حول الدوافع والظروف التي دفعت الرجل لتسليم نفسه وهل هناك صفقة ما بين الرجل والمحكمة او بينه الحكومة؟ ,وهل سلم كوشيب نفسه امتثالا لنصائح عشيرته ,وهل فعلا زيارة التعايشي الى الاقليم وام دافوق تحديدا امتدت نحو الحدود افريقيا الوسطى؟ وما اثر ذلك المثول على تحقيق العدالة والمصالحة في دارفور ؟
لم يكن علي كوشيب رجلا عاديا بالنسبة للقضايا التي يتهم بها والمتهمين الاخرين، (الرئيس المخلوع عمر البشير وزير دفاعه عبدالرحيم محمد حسين ووزير داخليته أحمد هارون، وعبدالله ), حيث يعتبر كوشيب هو المنفذ الحقيقي وهو الرجل الاكثر وحشية والاداة الباطشة في الارض والذي تمت علي يديه قتل المئات من المدنيين العزل وحرق القرى وتشريد اهلها بصورة ممنهجة والتي خلفت اكثر 600الف قتيل واكثر مليوني نازح , ؛يضاف الى ان الرجل يعتبر الصندوق الاسود لأسرار “الابادة ” التي شهدها الإقليم وشريك ومخطط لمعظم الفظائع التي ارتكبت باعتبار انه الخبير بتضاريس وجغرافية المنطقة الاثنية ,وبالتالي ليس من السهل ان يسلم كوشيب نفسه دون ان تكون هناك مغريات قدمت له او ظروف قاهرة ربما جعلت خياري الموت او المحكمة خياران لا ثالث لهما .
غير ان الاحاطة ببعض المعطيات على الارض فيما يلي ظروف علي كوشيب يمكن ان يعطينا بعض المؤشرات التي ربما تكون دفع الرجل لتسليم نفسه او ربما جعل نفسه في موقع سهل للمعنيين للوصول اليه.
علي كوشيب ظل حتى بعد سقوط البشير ,محاط بمليشيات قبلية تأتمر بإمرة الجيش ومسئولا فاعلا في امن الولاية و الدائرة المحلية(محلية وادي صالح ) او ما يعرف بقطاع جنوب غرب , وهذا بشهادته وبشريط فيديو متداول ظهر الرجل يتحدث امام جمع من اهل مدينة ام دافوق المتاخمة لجمهورية افريقيا الوسطى وامام عدد من قوات الشرطة وقوى المقاومة اثر حادث وقع لاحد المعلمين في المدينة , وفي هذا الشريط توعد كوشيب الجاني بالقتل واعترف اما ذلك الجمع انهم قتلوا الكثيرين امثال ذلك , وهذا يعطينا مؤشر مهم جدا ان الرجل ظل محل ثقة لدى عدد من قادة الحكومة والجيش ان لم يكن كلهم , والا لم يظهر رجل مطلوب للجنائية بجرائم وفظائع بتلك الضخامة ويتحدث بتلك الثقة.
الامر الاخر وهو مؤشر مهم ان كوشيب ربما فقد السند خاصة لدى عشيرته (التعايشة) بعد سقوط النظام ,ببساطة شديدة كانت القبيلة او القبائل بشكل عام تحمي مجرميها بأوامر مباشرة من النظام البائد حيث لا خيار ترهيبا وترغيبا ,ولما سقط النظام اصبح امر حماية المجرمين جريمة وبالتالي جعل الرجل يستشعر الخطر, اضافة الى صدور مذكرة توقيف من النائب العام السوداني .
نقطة اخرى مهمة وربما لا يقوله اهل وعشيرة كوشيب صراحة او جهرا لكنه وفق وقائع كثيرة ربما تشكل واحدة من الضغوط التي ساهمت او دفعته لتسليم نفسه , وهو ان التعايشة بالنسبة لكوشيب اخوال وليسوا ابناء عمومة او قبيلة !!! كيف ؟
اهل قرية كوشيب يقولون همسا وجهرا في احايين كثيرة ان كوشيب ينحدر من احدى قبائل دول الجوار ما بين تشاد وافريقيا الوسطى وان والده اتي (ناجعا) والنجع لمن هم خارج الاطار الدلالي ( الناجع من ترك اهله وتغرب عنهم وقطن لدى عشيرة اخرى ) وهذا سلوك معروف لدى قبائل دارفور وغالبا ما يزوج هذا الناجع بإحدى ارامل او مطلقات القبيلة وهذا الذي حدث مع والد كوشيب وفق هذه الرواية وبالتالي ووفقا للحمية القبلية لم يكن هناك وجيع كما يقولون للدفاع عنه. ( اشير الى ان هذه الرواية استقيتها من احد ابناء العشيرة لم اجزم بصدقيتها ).
فضلا ان احد اقاربه ظهر في فيديو على احدى منصات مواقع التواصل الاجتماعي , يؤكد ان علي كوشيب هرب الى افريقيا الوسطى ليسلم نفسه بعد مضايقات تلاقاها من عدد ممن كان يثق بهم حسب وصفه , وانه اتخذ هذه الخطوة بعد مشاورات عديدة، نصحته بتسليم نفسه للجنائية , بالإضافة الى تقارير غير مؤكدة تقزل ان عضو مجلس السيادي محمد الحسن التعايشي والذي يجعهما ذات القبيلة هو من نصححه بان يسلم نفسه وربما شهادته ضد مرؤوسيه قد يخفف عقوبته ان لم تبرئه.
يظل قضية العدالة في دارفور كلمة مفتاحية في عملية السلام والاستقرار في الاقليم , وهي عملية متلازمة ومقترنة كذل ,ك بالمصالحة كواحدة من الاليات المهمة التي ينبغي ان تقام وبصورة واسعة مستصحبين الارث الثر من تراث اهل دارفور القضائي .
ولعل من الاشياء المهمة التي انجزت في عملية السلام التي تجري في عاصمة جنوب السودان جوبا , ان افرد ملفا خاصا للعدالة والمسائلة والمصالحة كعملية لازمة للاستقرار , واتفق الاطراف على ضرورة مثول المطلوبين للجنائية الدولية امام المحكمة , ويعتبر مثول كوشيب اول الغيث , فضلا عن انشاء محاكم خاصة لمحاكمة المتهمين المفترضين وكل من ثبت ضلوعه في تلك الجرائم ,ونصت الوثيقة الدستورية ايضا على مبدأ العدالة الانتقالية التي تقضي بمشاورة الضحايا للتقرير بشأن المتهمين بارتكاب جرائم، إما التسوية وإما القصاص وهذا امر جيد لكنه يحتاج لتضافر جهود جميع المعنيين لجعل ذلك واقعا معاشا , لا يمكن اغفال العدالة لا بد من تحقيقها وكذلك المصالحة , وبدونتحقيق السلام و العدالة لم تتحقق الاستقرار.
بقي ان نقول ليس كل من ( فش غبينته دمر مدينته) ,ببساطة تحقيق العدالة من شانه ازالة الاحتقان والضغائن التي سببتها هذه الجرائم وبالتالي تحقيق الاستقرار المنشود, وقبل ذلك كله تحقيق السلام الشامل العادل في ربوع الوطن واسكات قعقعة السلاح في هوامش الوطن الجريح.
حسن ابراهيم فضل
[email protected]