ما هو رأي القوى الدولية، والإقليمية، بعد تسريب خطط النظام الإرهابية؟
صلاح شعيب
تقدر القوى الدولية، والإقليمية، المؤثرة – بالتواطؤ مع النظام – حلولا محددة نحو ما خص شؤون البلاد. ولكن تصطدم دائماً بحقيقة ساطعة مؤداها أن لا نجاح لحلول مفروضة من الخارج بلا إرادة وطنية. إذا تركنا سياسة النظام جانبا، وهي التي لا تثمر إلا الفتنة، فإن سياسة الدول العربية، والإفريقية، والأوروبية، والولايات المتحدة، تجاه السودان ظلت إما ساذجة، أو مغرضة، في كثير من الأحيان.
فقادة تلك الأقطار يعتقدون أن وجود نظام سوداني معزول عن إرادة شعبه يحقق لهم تطلعاتهم الجيوبولوتكية. غير أن الحقيقة الباقية هي أن السودانيين أثبتوا مرارا، وتكرارا، صعوبة قيادتهم قسريا. ولهذا ظلوا – رغم ضعف مكوناتهم السياسية التقليدية – عنيدين مقابل القبول تماماً بما تطرحه الحكومات الديكتاتورية التي أذاقتهم الذل، والهوان، والفقر.
وحتي كفاح الجنوبيين كان يعد ضرورة من ضرورات المقاومة المشهدية، وشكلا مميزا لنضال السودانيين ضد الظلم، أكثر من كونه روحا متأصلة فيهم لتفضيل خيار الحرب. وما تحقيقهم لاستقلالهم الذاتي عن دولة مركزية نشأت علي كبت أي تطلعات ديموقراطية عادلة، وشفافة، سوى علاج بعد الكي، وليس قبله.
لقد تعاقبت علي السودان منذ استقلاله أنظمة ديموقراطية، وديكتاتورية، حاولت أن تلعب بالتناقضات الإقليمية، والدولية، فوقا عن المحلية. ولكن كانت النتيجة دائماً انهزام مخططاتها. وبرغم أن هذا الانهزام كان يقود القوي الحية في المجتمع، في كل مرة، إلى التنائي عن بعضها بعضا إلا أن المهم هو أن إرادة المجتمع لم تنكسر. والدليل علي ذلك فشل هذه الأنظمة في بيع أجندتها لغالب قطاع الشعب، وانهيار مشاريعها، وتبعثر وحدتها، والوصول إلى مرحلة الإفلاس السياسي الذي ما بعده من فلاح، أو صلاح.
تناول الأستاذ فتحي الضو في مقاله السابق تخلقات السيناريو التآمري الذي تعده دول متقدمة بمعاونة الاتحاد الأفريقي، ومن يسمي برئيس الآلية الافريقية رفيعة المستوي، تابو أمبيكي. وقدم الصديق فتحي ملامح لجذور هذا التآمر، وكيف أن تحركات أمبيكي الأخيرة هي بداية الرواية، وما علينا إلا الخضوع في قابل الأيام إلى تتبع متنها، وحل عقدتها. وأمبيكي هذا لم يرتو من عطش المتاجرة بقضايا “السودانين”، مجتمعين، وفرادي. إذ ظل طائره، غير الميمون، يرك طوال عقد من الزمان من عاصمة إلى أخرى، مستثمرا ضعف النظام، ومتماهيا معه لتسويق حلول لقضايا البلاد المستعصية. وثمة دول هناك تدعم تحركاته الماكوكية بمظنة أنه يمكن أن يلعب دور الوسيط المحايد بين النظام والقوى المعارضة له. وحقا أن الاتحاد الأفريقي الذي ظل يدعم العصبة الحاكمة، مثلما يهجوهم الأستاذ الضو، هو حاصل أغلبية الدول الديكتاتورية. ولم يسع يوما لمساعدة الشعب السوداني في محنه الكثيرة، وذلك شأنه، أيضاً، مع الشعوب المقهورة بآليات البطش المتحكمة في مصائر شعوب دول القارة.
وتزامنا مع تحركات أمبيكي ظل الاتحاد الأفريقي داعما لهذا النظام، وكل الأنظمة الديكتاتورية السودانية، ومدافعا عن سجلها السيئ في مجالات حقوق الإنسان في كل المنتديات الدولية التي تشجب فيها سياساتها الباطشة. وعموما ليس بغريب علي الاتحاد الأفريقي أن يلعب هذا الدور فهو اتحاد زعامات. إذ لا علاقة لها مع شعوبها التي تفتقر إلى الحرية، والتنمية، والسلام. ولذلك من الطبيعي أن يكون دور أمبيكي رأس الرمح ضمن أدوار دولية أخري تتكامل لتفرض علي الشعب السوداني حلولا قد تسعف النظام المتدحرج للسقوط.
إن دولة مثل السودان لا يمكن أن تحقق تعايش قطاعاتها الاجتماعية إلا في حال اتفاقها جميعها علي نظام سياسي محقق لمصالح وجودها. وبغير دلالة التجربة السودانية علي أن الحلول الشمولية، وكذلك الحلول لمشكلات البلاد عبر الخارج، فشلت في تدجين السودانيين فإننا نعيش الآن في واقع مختلف عن دولة الستينات، أو التسعينات.
فالطفرات الهائلة في مجال الميديا الحديثة أفرزت نوعا من الوعي، هذا في وقت قللت هذه الميديا من تأثير أعلام الدولة الذي كان يخترق التجمعات السودانية، ويحرمها من الوعي بحقوقها، وتخير مصادر معارفها، وتحقيق أهدافها. ولذلك تغدو المسكنات المتمثلة في الاتفاقيات المتعلقة بمطالب جهوية، واستيعاب مقترحيها لن تصلح ما أفسده الدهر. كما أن التمثيل الرمزي لمتعلمي المناطق، والقوى التقليدية، والطائفية السياسية، وعشائر الإدارة الأهلية، وبعض قادة المجتمع الأهلي لن يحقق الاستقرار. ولقد جربت الإنقاذ منذ مجيئها كل عوامل الاستقطاب دون أن تنجح في إسكات أصوات الأغلبية الصامتة.
بل إن كثيرين استقطبتهم بالمال، والمنصب، ارتدوا عليها بأسلحتهم، واقلامهم، ومنظماتهم، وأحزابهم. والأكثر من ذلك أنه في الوقت الذي استقطب فيه زعيم الحركة الاسلامية كل هذه التمثيلات القومية الانتهازية إلا أنها طعنته من الخلف، وأفقدته السلطة. بل وشقت حركته التي بناها لنصف قرن من الزمان إلى نصفين، وتعرض هو للسجن فيما تعددت تيارات حركته، إذ كل واحدة تدعي امتلاك الحقيقة وحدها، وقد تكفر بعضها بعضا.
إن المجتمع الدولي لم يكن جادا مع نظام مضر بشعبه حتي يحمله علي تغيير سياسته تجاه مكونه المحلي. وما ضغط الدول العظمي علي المنظمة الدولية لإبقاء النظام في البند العاشر بدلا من إعادته الى الرابع من أجل أن ينعم الرعايا بجرعات حرية إلا جزرة في محاولة إكمال الصفقات. وهناك الكثير من القرارات التي أصدرتها المنظمة الدولية قد ظلت حبراً علي ورق، ولم يحدث أي تقدم بشأن المحكمة الدولية، وظلت التسريبات التي قدمتها المتحدثة السابقة باسم يوناميد، عائشة البصري، عن فشل البعثة بلا نتائج متحققة، وكذلك ظلت تقارير المنظمات الحقوقية الدولية بلا تأثير.
فضلا عن ذلك فإن النظام ما يزال يلعب دورا محوريا في الإقليم لتغذية جيوب الإرهاب الدولي عبر استضافته لعدد من الشخصيات التي تثير خطاب الكراهية، والعنف، والفتنة العقدية. وعلي المستوى الداخلي تدرك كل السفارات داخل السودان أنواع القمع الذي يتعرض له النشطاء السياسيين، والتضييق علي حركة المثقفين، وأعضاء منظمات المجتمع المدني. ضف إلى ذلك محاولات إفلاس الرصيد المالي للصحف، والاعتداء علي الصحافيين، وحبسهم، واعتقالهم دون محاكمة. كل هذه الممارسات الشائنة، والتي ظلت علي مدار عمر النظام، تقاضي المجتمع الدولي عنها، ويحاول الآن مده بشرعية لن تجمله في عيون الشعب.
لقد جاءت التسريبات التي وصلت إلى الدكتور ايريك ريفز عن اجتماع قادة النظام، ونشرها هذا الأسبوع، في وقت تحاول هذه القوى الدولية، والإقليمية، التوسط لتحقيق السلام. ولعل كل ما جاء في ذلك الاجتماع المخترق يؤكد بشكل قاطع سذاجة القوى الدولية، وصحة رأي كل القوى السياسية المعارضة بأن النظام غير جاد في حل قضايا السودان المعلقة، والتي أوصلته إلى هذا الدرك السحيق. بل اتضح تماما أن النظام يعتمد سياسة أرهابية، لا سياسة الإبداع، نحو شعبه، وكذلك المحيطين الدولي، والإقليمي. وهكذا ظل قادة النظام يغذون تلك التناقضات المشار إليها، لا لشئ إلى لتفجير المنطقة كلها من أجل بقائه بأي ثمن.
ولعل هذه التسريبات رسالة قوية يجب أن تأخذ بمحمل الجد بالنسبة لتلك القوى الدولية، والأفريقية، والعربية، المتحمسة للانخراط في مسعى التوفيق بين النظام ومواطنيه. وكذلك ينطبق الأمر على القوى السياسية، وحكومة الجنوب، والحركات المسلحة، وخصوصا هذه القوى التي ما فتئت تحاول إقناعنا بأن لا حل لقضايا البلاد إلا بالحوار مع النظام. وأي حوار يرتجى من النظام بينما قادته يجلسون ليحيكوا المؤامرات حتى ضد القوى التي صدقتهم، ووقعت معها اتفاقيات سلام، وبعضها يسعى ضمن ما يسمى الحوار الوطني لرسم جدولة للقضايا التي يجب الوصول إلى حل بشأنها؟!.
لقد أهدى المسربون لنتائج الاجتماع هدية ثمينة لكل المناضلين من أجل إسقاط النظام، وقيام حكومة ديموقراطية، هؤلاء الذين أدركوا بوعيهم الكامل بما ينطوي عليه هذا النظام من شر. فهو نظام القهر الذي ظل عبر خططه الإرهابية يقبض بالسلاح على مفاصل السلطة، ويخيف بها مواطنيه، ويعدهم مجرد مستعبدين يذيقهم الرعب دون أن يتيح لهم مجالا للتنفس بالرأي. وعلى الذين يراهنون على الحوار سبيلا لتسوية القضايا الوطنية أن يقنعونا كيف يمكن تصديق النظام الذي أكمل كل إجراءات قيام الانتخابات، ووصل إلى حد عقد انتخابات الولاة الأولية، وجهز قوته الأمنية لحراسة التزوير، ووضع من السياسات الترويعية ما يكفل له الاستمرار في سياسته العدوانية.