ما الذي لم يقله دكتور حامد برقو في حواره؟

ما الذي لم يقله دكتور حامد برقو في حواره ؟
بقلم / حاج علي

كٌنتُ دوماً وما زلتُ على قناعة تامة بأننا أمةً لا تُحسن السمع , وإذا سمعت فإنها ـ في أحايينَ كثيرةٍ ـ تتعمد أن لا تفهم أو تتغابى كي لا تتجشم مشقات منعرجات الفهم , ربما كان هذا الاستهلال للحديث محبطاً نوعا ما لذوي الحساسية العالية من القراء , وربما كان صادماً لأدعياء الفاهمة , لكن اغلب الظن أنه يجد القبول للذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه , فحاسة السمع نصف الطريق إن لم نقل كل الطريق إلى النجاح , لأنها البوابة المشرعة أبداً نحو العقل , فالأعمى غير المبصر يسمع , والأبكم الذي لا ينطق يسمع ما دام كليهما يتمتع بتلك الحاسة سليمةً , وكلاهما يفهم ويصير بوساطتها وبها وحدها عالماً تطبق سمعته الآفاق وما أكثر الأمثلة على المبدعين من فاقدي البصر , وهي فوق كل هذا نعمة ونعمةٌ كبرى وما أبلغ قوله تعالى : (….. لهم قلوبٌ لا  يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الْغَافِلون ) , سورة الأنعام , عجباً لهذا الخيط الرفيع والرفيع جداً بين الإنسان والحيوان مجرد توظيف للأدوات أو الأعضاء التي تكاد تتطابق أو أنها متشابهةً بصورةٍ تجعلها أقرب إلى التماثل في كثير من الأجزاء المكونة لها ! , فتوظيف أدوات الحس لدى الإنسان وحُسن التصرف في استخدامها هو الذي يصنع هذا الفارق بين أن تكون عاقلاً متدبراً أمورك ومتفاعلاً مع الآخرين مؤثراً فيهم ومتأثراً بهم أو أن تكون غافلاً ومغفلاً مستغفِلاً الآخرين ومُسْتَغْفَلاً في ذات اللحظة , ويا لها من مصيبة كبرى في أن أكثر ممن يتبجحون اليوم في عالمنا ويتحكمون في مصائرنا أن يكونوا من فئة المغفلين , والطامة الكبرى أنَّ لهم أنصار وأتباع ومعجبون وجمهرة لا تعد ولا تحصى من جيوش المستغفلين , الذين بلا شك يندرجون تحت هذا الاستفهام الاستنكاري البليغ : ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ؟ ) , ولا نريد في نهاية المطاف عزيزي القارئ أن نكون من أولئك الذين يقولون : ( لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ) , نسأل الله أن لا نكون جميعاً منهم أو معهم , دفعني لهذه المقدمة الشاقة المرهقة ما قرأته من حوار أجراه الأستاذ صلاح شعيب من ” منتدى الأحداث ” مع الدكتور حامد برقو , وقبل أن أستفيض أود أن أثبت شيئاً واحداً ومهماً وهو أنه لم يحدث لي الشرف بأن تعرفت على أو قابلت أي من الرجلين إلا من خلال قلمه وإبداعه ولكن أحسب أن هذا وحده يكفي حتى إشعارٍ آخر , إذ أنني أطمح فيما هو أكبر من ذلك , أطمح بأن تتاح الفرصة لأمثال هؤلاء من أرباب العقول النيرة والأقلام الصادقة بأن يفرغوا ما امتلأت به مواعينهم من معرفة وتجارب , وأن تُفتح لهم المنابر ليتحدثوا حتى نرتاح قليلاً مما أزكم أنوفنا وشنَّف آذاننا , فقد ظللنا دهراً طويلاً لا نسمع إلا الغث من القول والفارغ من الكلام مما لا يسمن أو يغني من جوع , آلاف من الألقاب العلمية لا ندري أي رياح قد أتت بها , لم تتجاوز ثقافتها كسر همزة إنَّ أو الفعل المعتل الآخِر أو ما يخرج من السبيلين , وأطفالنا قد استطالت مفاهيمهم نحو أساس البلاغة للزمخشري واشرأبت أعناقهم إلى عالم الكتاب لسبويه وغازلوا سواد العين لأستاذه الخليل وحجزوا لأنفسهم مراتع للعب على مدارات كواكب المجموعة الشمسية , فالعالم قد تطور وقطع مسافات سحيقة في كل مضمار للإبداع إلا نحن وذلك لأنه قد احترم القوانين المؤدية إليها وهو أن ترتفع بأدوات التفكير لديك إلى أعلى مستوى مؤهلة إليه وتستنطق أقصى ما أودع فيها من كفاءة , قرونٌ قد مرت علينا ونحن حبيسو أسر التقاليد البالية وضحايا أكذوبة التاريخ الزائف الذي يُحركَ دفته خيال العرق المتضمخ بالتعالي , والعالم أجمعه قد تضافرت جهوده لدك قلاع الاسترقاق ونسف حصونها ومحو كل أثر قد يذكره بالعبودية , ونحن ما زال فينا ـ كما قال مظفر النواب ـ أبو سفيان بلحيته الصفراء يؤلب باسم اللات العصبيات القبلية ! , فعلى سبيل المثال لا الحصر ماذا يعني أن يُخصص مكان للقبيلة في طلب الاستخدام أو التقديم للخدمة العامة ؟ , أي جهل هذا وأي رجوع للوراء بهذا البلد وبأجياله ؟ , ودول الخليج العربي ـ باستثناءات محددة ـ والتي يفترض أنها الموطن الأصلي للعروبة , تسعى اليوم لمنح الجنسية لأي كان ما دام قادراً على العطاء , لماذا ؟ أليس احتراماً للإنسان وطمعاً في قدرته الفطرية على العطاء والإبداع ؟ , نحن نحتاج الكثير حتى نتنبه من غفلتنا ونعرف أين هو موضع الحصان من اتجاهي العربة ثم نتضامن بعدها لنكتب معاً صفحةً جديدة للتاريخ لتتحدد من بعد ذلك هويتنا ثم نعرف من نحن وإلى أين سائرون ؟ وعلى وجه أخص مما نحتاج هو أن نمتلك القدرة على التمييز بين ما هو تدويخ للعقول وترويضٌ للنافر منها نحو آفاق المعرفة , وبينما هو محفزاً لها وموجهاً من بعد ذلك في الاتجاه الصحيح والذي يمكن أن نصطلح عليه اختصارا بالوعي , ولكي يحدث هذا الوعي لابد أن يكون هناك تراكم معرفي أو ما يطلق عليه تراكم كمي للمعلومات , وهذا يبدأ قطراتٍ قطرةٌ فقطرة تتدفق من أقلام صادقة لتتفجر من ذاك ينابيع للتغيير أو ما يُعرف بالثورة , واحداً من تلك الأقلام أحسب أنه قلم الدكتور برقو الذي استطاع أن يلامس وبواقعية شديدة أغلب إن لم أقل كل ما يؤرقنا من معضلات وأن يجيب عليها في أضيق مما أتيح إليه من مساحة وهنا كانت تكمن عبقريته , والذي أحسب أن التوفيق كان حليفه فيما جاء به من إفادات , وهذا من وجهة نظري الخاصة , نعم قد يتفق معي بعض القراء وقد يختلف الآخر , فالآراء ألوان تتباين بتباين ما أستخدم فيها من أصب
اغ , وفي هذا الشأن فإني أستهدف ذاك المتباين لما يولده اختلافه من صراع ولما يؤدي إليه هذا الصراع من جدل وحوار سيفضي حتماً ـ في نهاية المطاف ـ إلى نتائج غاية في الإبداع , عشرة محاور كانت مطروحة من منتدى الأحداث تأرجحت بين : ” فهم الهوية , مستقبل السودان , غياب القيادة المجمع عليها , تصورات الحل لأزمة دارفور , الانتخابات , الاستفتاء , ضعف الهمة القومية , الفشل السياسي للتنظيمات السياسية , المقارنة بين صراع الهامش والايدولوجيا ـ طبعاً في مواجهة سلطة المركز ـ و أخيراً : المثقف السوداني ـ سلبياته وإيجابياته أو حسناته وعيوبه كما ورد في الحوار ” , هذه هي النقاط العشر التي نحسب أنها أسئلةً كبيرة والتي نحسب من الواجب أن يسألها كل منا لنفسه ويحاول من ثم الإجابة عليها , ولأنها تُشكل في تقديري المرتكزات الأساسية التي يمكن أن ينبني عليها الأساس العملي للمستقبل الذي ننشده جميعاً بصيغة أن يكون وأن تكون , أعني ـ مثلاً ـ أن يكون المثقف فاعلاً معطاءً وملتصقاً بالجماهير ومؤثر فيهم , فبلا جدال نحن أكثر ما نكون احتياجاً لذاك المثقف الذي يأخذ من هذا الإرث الفلكلوري الثر للمجتمع السوداني ثم يرده  إليه إبداعاً مبهراً وجاذباً  نحو التوحد والذي بإندغامه مع جزيئات إبداع الآخر وتلاحمه تبدأ تتحدد وترتسم ملامح الهوية التي ظلت كنزاً مفقوداً طال زمان البحث والتنقيب عنه , فبناتنا مثلاً يمتن إعجاباً في أبن الأرندلي ولا يكدن قد سمعن برابحة الكنانية أو يعرفن شيئاً عن فاطمة أحمد إبراهيم , وأبناءنا ـ حتى طلاب الجامعات ـ يتخذون مثلاً أعلى من عمرو دياب وأبطال المسلسلات التركية ولا يكادون قد مروا ولو كراماً بعلي دينار أو وقفوا يوماً مترحمين على الماظ أو سمعوا بمن يسمى عبد اللطيف وهكذا قس , ستجد الفوضى طافحة في كل محفل ومحفل ولكن هل سألنا أنفسنا ما السبب وراء كل هذا التهريج والهباب ؟ بلا شك إذا كان رب البيت بالدف ضارب فما شيمة أهل البيت إلا الرقص والطرب , فمن يتحكمون في هذا الشعب السوداني ومنذ أن فطر الله السماوات والأرض لا هم لهم إلا مصالحهم الخاصة فهم لا يشبهون هذا الشعب ـ لا من قريب ولا من بعيد وإن يكونوا قد خرجوا من أصلابه , فبمجرد اعتلاء أحدهم كرسي السلطة يتناسى أو حتى ينسى أنه كان أبن فلاح بائس وأن آباءه كانوا يتوارثون البؤس جيل إثر جيل ـ هذا إذا كان منحدراً من هذه الطبقة المقهورة ـ ومن عداهم ؟ , فعدا هؤلاء ففئاتٌ أرستقراطية نعرفها كلنا , وهم جميعاً قد فشلوا وإن حرصوا على الظهور بثوب الحادب على مصلحة هذي البلاد , فشلوا في إرساء دعائم مشروعٍ قومي يستوعب هذا الكم الهائل المتنوع الذي يشكل هذه الديموغرافيا السودانية بتنوعها الثقافي المميز , فبعد أكثر من نصف قرن من توال حكام الشمال ونحن وطن بلا هوية , ونحن علمٌ موحد يرفرف في سماء قصر الشعب ونفتقد الشعور القومي الذي يدفعنا في اتجاهه , ورئيس يجلس على كرسي الرئاسة والإحساس الذي يتملكنا جميعاً أنه يمثل نفسه , إذاً فأين العيب ؟ أفي الزمان ؟ أم فينا نحن الشعب ؟ أم الحكام ؟ حقاً إنها جريمة قد ارتكبت في حق هذا الوطن الكبير الذي يحسدنا عليه الآخرون , ولا نريد أن نبرئ أنفسنا ـ نحن المفترض أنهم جمهرة المثقفين ـ فلا شك في إن المثقفين شركاء في الجريمة , أضعف الإيمان بالسكوت عليها كل هذا الزمن الطويل , وختاماً إن كان الأولون ـ من المناضلين ـ قد فشلوا لضعف قراءتهم للواقع أو لأسباب أخرى يمكن أن تكون وجيهة , ففي تقديري أنه قد آن الأوان لصوت جديد أن يرتفع ولآذان أكثر رهافة أن تَستمع ولأحرف أكثر صدقاً أن تُكْتَب وبمفاهيم أفضل استيعاباً يجب أن تُفهم , ليتحول كل هذا من بعد ذلك إلى  عمل لصياغة وجه التاريخ من جديد وهذا ما يُعرف بالايدولوجيا والتي أحسب أن شرارتها قد بدأت بالفعل وتجدني لا أحسُ في نفسي حرجاً أن أسميها بايدولوجيا الهامش والتي أؤمل من الجميع التضامن في اختطاط مبادئها , فالعار كل العار والعيب كل العيب أن نرضخ أكثر من هذا لنير تلك الآيدولوجيات الظالمة ولذاك العقل البالي الذي لا يملك إلا أن يرتد بنا إلى الوراء , وأخيراً شكراً لأخي دكتور برقو فلم يبق هنالك شيئاً لم يقله حسب رؤيتي المتواضعة……..

حاج علي ـ Monday, October 12, 2009

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *