مأساة دارفوريين “مجزرة بانتيو نموذجا”..وخطرفات وزير الداخلية السوداني
لا تبدو مأساة السودانيين مع نظامهم نهاية المطاف. بل هي فصل أول ومستمر من حقيقة تمثل واحدة من أكثر الحقائق العالمية قسوة, تتوالي تفاصيلها عبر وقائع وأخبار متلاحقة, منها أخبار عن مجازر, وقوارب الموت في البحار والمحيطات, والسودانيون عالقين في المطارات وفي مراكز الحدود البرية, والسودانيون أبرياء تم اعتقالهم وتوجيه تهم كاذبة لهم, واضطهاد عنصري يصيبهم في بعض البلدان, وعن هائمين علي وجوههم في شوارع وحدائق عواصم ومدن. وكلها أخبار لا تقل قسوة عن حياة لاجئين يعيشون في مخيمات, تفتقد لأبسط أسس الحياة الانسانية, قرابة منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
لقد فتح نظام المؤتمر اللاوطني أبواب المأساة الجهنمية منذ 30يونيو 1989, ومازالت فصولها مستمرة, وقد تسبب في قتل لنحو نصف مليون دارفوري, والآلاف من المعتقلين والمختفين قسرا الذين لا يعرف أحد مصيرهم, وكان من نتائجها تدمير القري وممتلكات ملايين دارفوريين ومصادر عيشهم, كما دفعت كثيرين منهم الي الهجرة والتشتت في العالم, لاجئين, تجاوز عددهم مليون انسان وسط كارثة هي الأخطر والأسوأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وسط تلك اللوحة, تتوالي تفاصيل, تختلف في مجرياتها عن ممارسات السلطات السودانية ضد مواطنيها, لكنها تتوافق من حيث المحتوي مع تلك الممارسات. وهي خلاصة, التي ترسمها سياسات العديد من البلدان, حيث يتعرض اللاجئون دارفوريون لمشاكل وصعوبات تعمق مأساتهم التي صنعها النظام, وتضعهم في مكانة من يتحملون نتائجها, وقد ساهمت سلطات تلك البلدان في خلق أجواء مناهضة للدارفوريين في محاولة لاعطاء تصرفاتها وسلوكياتها مبررات داعمة. وقد يصبح الأمر مفهوما في ضوء حقيقة أن اغلب تلك البلدان يماثل او يقارب محتويات السلطة السودانية وتوجهاتها السياسية.
ان قتل ابناء دارفور سواء في الخارج او داخل دارفور نفسها مباح لهم وهي سياسة ثابتة لنظام الحاكم, وفي يوم الثلاثاء الماضي تم تصفية أكثر من 350, وجرح أكثر من 170, ومازال 103 من مفقودين,علي يد قوات رياك مشار متمرد ضد نظامه, بدولة جنوب السودان الوليدة, اثر الهجوم علي مدينة بانتيو عاصمة ولاية الوحدة النفطية. ان معظم القتلي تم استهدافهم في داخل المسجد, وهذا صدمة حقيقية بالغة الحزن من هذه مجزرة علي اناس ابرياء تكبدوا المشاق لكسب لقمة العيش في دولة جنوب السودان ولا صلة لهم باي جهة سياسية او عسكرية. وبرغم صمت رسمي وشعبي وغير مبرر ازاء مجزرة, ورغم قسوة ووحشية هذه المجزرة البربرية في التعامل مع التجار والعمال العزل,فان فصولا اخري لا تقل قسوة عنه, والأهم والمهزل في هذه الفصول حملات من التحريض والتضليل العنصري تشن ضد الضحايا في الاعلام خاصة ما كُتب في جريدة الانتباهة السودانية. والأبرز والمحزن ما قاله وزير الداخلية السوداني عبدالواحد يوسف ابراهيم بالامس وهو تحريض عنصري معلن عن اباح دم دارفوري, ويقول( ان ما حدث لهؤلاء الضحايا من قبل قوات مشار جرته عليهم الجبهة الثورية السودانية), وهذا تأكيدا ما نشر في جريدة الانتباهة.
وانا شخصيا لست مستغربا من هذا التصريح من نظام الابادة الجماعية في الخرطوم اتجاه ابناء دارفور, وعندما تم قتل 39 من ابناء دارفور وجرح العشرات من النساء والاطفال, المعتصمين بميدان مصطفي محمود بالقاهرة في شهر ديسمبر 2005, صرح علي كرتي وكان وقتها وزير الدولة بالخارجية بان( السلطات المصرية لا خيار لهم سوي التعامل مع الوضع بهذه الطريقة). وايضا ابان الازمة الليبية علق مئات السودانيين وتهددت حياتهم جراء التدهور الامني الذي لازم انهيار نظام القذافي وجراء استهداف الدارفوريين, حيث الخارجية السودانية في الخرطوم اطلقت تصريحات تحريضية لقتل الدارفوريين بليبيا حينما قالت أن مجموعات تقاتل بجانب قوات القذافي, واعلنت ذلك أمام الملا.
لم تكن مواقف الاحزاب السياسية السودانية واضحا بما فيه الكفاية علي ماحصل في مجزرة بانتيو, حتي حلال ثلاث ايام قد اقامت ندوتين سياسيتين بالعاصمة للاحزاب المعارضة لم تذكر شيئا عن هذه حادثة اليمة, حتي ذكروا شهداء هبة سبتمبر, ومعروفا ان بعض احزابنا مواقفهم غير واضحة حتي في الازمة والكارثة التي حلت بدارفور, عن الجرائم الانسانية والتطهير العرقي وجرائم الحرب ضد المدنيين بشكل انتقائي, ولم تدلوا بدلوها عن المذكرة التي اصدرتها محكمة جنائيات الدولية للقبض علي راس النظام, وآخرين. كما يقول المثل أن السكوت رضا, فهل هم راضيين بالاوضاع التي آلت اليها ابناء السودان في بانتيو؟
ولكن عندما اختطف الارهابيون بعض منسوبي السفارة السودانية ببغداد قبل سنوات قيلة ماضية هاجت الخرطوم وماجت للارهابين بقفل سفارة السودان هناك حسب مطالبهم ودفعت لهم الملايين مقابل اطلاق سراح المختطفين الذين تم استقبالهم باحتفالات رسمية عند عودتهم الخرطوم . وفي 30 يونيو ماضي عندما انتفض الشعب المصري,وتم عزل محمد مرسي, قد هاجت وهتفت الخرطوم بمظاهرات عارمة في مقدمتهم كبار شيوخ السياسة والدين في السودان تأييدا لمرسي المعزول. وايضا هناك مظاهرات ابان أحداث في دولة افريقيا الوسطي في شهور الماضية.
ولكن لم نسمع اي تنديد او مظاهرة من هؤلاء عند مجزرة بانتيوبشكل انتقائي, ولا عن مجازر الجنجويد في هذه الايام في دارفور وجبال النوبة, ولا عن قتل اللاجئين في مصر وليبيا .. وهكذا لست مستغربا من الصمت الشعبي او من هرطقات وزير الداخلية .. المشد السياسي في السودان الآن يمر بمرحلة مثيرة, يصل في بعض الآحيان لما يثير آهات الاعجاب, وفي آحيان آخري ما يجبر علي علامات التعجب. انه استعراض للجمباز السياسي !!!
احمد قارديا خميس