صوت من الهامش
[email protected]
بظنه أن الشعب السوداني صدّق أن الإنقاذ اتى لإصلاح البلاد وخدمة العباد ، يؤكد د. قطبي المهدي أن رموز النظام لا يزالون سادرين في غيهم ، ومن الخطأ اعتقادهم أن المواطن لا يزال غافلا عن دوافعهم لسرقة السلطة بليل بهيم في يونيو 89 ، إذ أن اساليبهم الدنيئة للبقاء على مقاليد الحكم ، كشفت عن حقيقة نواياهم السلطوية البحتة، والتي باتت واضحة وجلية للعيان منذ أن جثموا علي صدره في تلك الليلة المشؤومة، منذ ذلك التاريخ ، ليس للنظام هم سوى إحكام القبضة على أنفاس المواطن ، وتعميق أنيابه في جسد الوطن.
وبافتراضه أن الإنقاذ دواء فقد صلاحيته، يدفعنا د. قطبي لطرح سؤالين اثنين ، اولاً من ذا الذي شخص علة البلاد قبل يونيو 89 وما هي الجهة التي وصفت “الإنقاذ” كدواء حتى يفقد صلاحيته؟ الجبهة الإسلامية القومية ليست لديها الرصيد النضالي المشرف التي ترقى بها إلى مقام اختصاصي يكشف الحالة الصحية العامة للوطن ، حيث أن عمرها آنذاك، لم يتجاوز العقدين ونصف منذ تأسيس نواتها “حركة الإخوان المسلمين” ، أي أنها لم تتجاوز مرحلة طبيب الامتياز، وليست لديها خبرة عملية كافية ، حيث أنها عملت كمتطوعة من نظام مايو البائد، ورسمياً شاركت “بمجاملة” وسوء نية في حكومة الديمقراطية الثالثة لبضعة اشهر فقط قبل ان تتآمر عليها ، وهنالك ملاحظات تقدح في شرفها ، منها احتكارها للسكر وإغراقها الخبز بدافع زعزعة إركان الحكم وإثارة البلبلة التي هيأت ظروف مشاركتها في السلطة بشكل مريب، وتسيس وادلجة القوات المسلحة.
وإن كانت الجبهة الإسلامية القومية قد نصبت نفسها استشارية وطنية على جسد البلاد ورقاب العباد ، فهي بذلك مثلت دور طبيبة نصابة أجهزت على شخص يعاني من صداع عرضي، وأقدمت على شل مناعته وسلب إرادته بغرض السطو، فالطبيب الواثق من نفسه والمتثبت من مقبوليته، ليس مضطراً لتقديم نفسه تحت ” يافطة” مزورة ، اللهم إلا أن كان “تمرجي” أو طبيب أعشاب رقي نفسه إلى استشاري تنكري ، وقام بإجراء جراحات دقيقة في جسد الوطن، بتر أوصاله ومزق نسيجه الاجتماعي، وهتك أعراض مواطنية عن قصد تحت التخدير العام، للتحكم في مقدراته في ظل تغييب وعي أولياء أمر هذا الوطن المأزوم في أبناءه والمعافى في بدنه.
ومن المعروف بداهةً، أن الطبيب يمارس مهنته محترماً عدة قوانين اخلاقية ، ومما جاء في القسم الذي اعده ابو الطب الإغريقي هيبوقراطس:”اقسم بالإله الطبيب، واهب الصحة والشفاء … على ألاّ أعطى دواءً قتالاً أو اشير به، أو لبوساً مسقطاً للجنين، واحفظ نفسي على النزاهة والطهارة واحافظ على السر الطبي والاّ اجري عمليات للمصابين بالحصي، وأن اترك ذلك للمتمرنين فيها.”
وبفرضية أن الجبهة الإسلامية، سمحت لنفسها ممارسة الطب الوطني دون مؤهل ، كان الأجدر بها على الأقل، الإلتزام بأخلاقيات المهنة المتوارثة، منذ ان عرفت الإنسانية هذه المهنة ، وقياساً على القسم عاليه، نجدها قد ارتكبت عدة مخالفات مميتة، فقد وصفت الشمولية البغيضة كعلاج لوعكة وطنية عارضة، ومن البديهي علمها المسبق انها دواءً قتالاً قضىت على اعتى الدول (الإتحاد السوفيتي)، ومن المخالفات المهنية أن الجبهة الإسلامية، عندما قدرت الجراحة كعلاج للصداع لم يتركها للمتمرين فيها، بل أنها لم تستشرهم حتى!! اجرتها بنفسها وبأدوات ملوثة، ووصفت لها لبوسا ضاراً، فأسقطت جنينا كامل النمو، وضاعفت من تردي الحالة الصحية لامه وهي لا تزال في حالة اللا وعي.
ظلت حكومة الإنقاذ المنبثقة عن الجبهة الإسلامية القومية تمارس الإستهبال السياسي والدجل الفكري، ولم تتوقف لحظة عن تلوين هذه الممارسات ، وهي ما نحن بصدد تفيد انها لا تزال ساري المفعول، وقوفا على نماذج عما فعلت منذ اتت بمقتضى ما تشعر به الحواس، وما هي الدوافع بموجب ما تقرره العقل السوي.
الإحالة للصالح العام: هي في الحقيقة إحالة لصالح منسوبي النظام، بغرض التمكين، هذه الإحالة لم تتوقف حتى اللحظة، فقط تغيرت اساليبها، وتبدلت الفئات المستهدفة، فبعدما تخلصت السلطات من المناوئين لها في الخدمة المدنية، اتجهت إلى المأجورين الذين أنهوا ما عهد إليهم من التآمر على مجتمعاتهم وكياناتهم السياسية، وكذلك المؤلفة قلوبهم من الذين تترددوا في الانخراط في صفوف حزب المؤتمر الوطني، ومن اساليبها المتجددة والمستمرة، مضايقة الكوادر البشرية المؤهلة ودفعها للهجرة والاغتراب، فقد اشتد هذا الأسلوب ضراوة هذه الأيام.
الخصخصة: الغرض الخفي منها، إحكام قبضة النظام على كافة مجالات المال والأعمال، وارغام الرأسمالية الوطنية على الاندحار او الانخراط في الطفيلية التجارية، ولتعزيز هذه الاستراتيجية، أهملت السلطات المرافق الخدمية العامة لفتح آفاق استثمارية جديدة تستوعب عضوية المؤتمر الوطني الخارجة عن المناصب الدستورية والوظائف الرسمية، وفي مجال التعليم على سبيل المثال، قصد النظام حرمان ابناء عامة الشعب من التأهيل العالي والخروج من المنافسة في الخدمة المدنية لإفساح المجال تلقائياً لأنباء منسوبيه، بدأ هذا المخطط باكراً، بوقف الابتعاث الخارجي. الخصخصة وصلت كهرباء “اسامة السدود” ونسبة القبول الخاص بالجامعات العريقة تزداد بوتيرة متصاعدة.
تدمير الأُسر: إستهل النظام هذه الاستراتيجية، بتشريد موظفي الخدمة المدنية، وتعمد قطع أرزاق الحرفيين وأصحاب الأعمال بالضرائب الاعتباطية والإتاوات الكيدية ، ومحاولات تشجيع الانحلال الخلقي من خلال تجويع الطلبة والطالبات بالجامعات والمعاهد العليا، وفتح داخليات جافة ومفتوحة ، وتأسيس حضانة المايقوما لتهوين الآثار المترتبة على للفاحشة، آخر ابتكارات النظام في هذا المجال، ترويج المخدرات وسط الطلاب، فقد قلل وزير الداخلية من تأثير حشيش البنقو وسخر من التقارير المنشورة حول تداولها وسط الطلاب، وليس من شك لدينا أن الأجهزة الأمنية قد وزعت القناطير المقنطرة من المخدرات مجناناً وسط الشباب، وإلا تعذر عليهم وهم أبناء الفقراء الحصول على ثمنها، سيما بعد اندلاع الانتفاضة الطلابية الأخيرة.
فرملة النمو السكاني: تهدف حكومة الإنقاذ من هذه الخطوة تقليل إلتزاماتها المادية على شحها تجاه المواطن، فقد افصح ربيع عبد العاطي في لحظة غباء سياسي عن هذا المخطط حين صرح عبر قناة الجزيرة أن إنفصال الجنوب سيريح حكومته من عبئ تسعة ملايين مواطن، آليات هذه الاستراتيجية فظة ومتنوعة، منها ترك المواطن يواجه الأمراض والأوبئة الفتاكة، من خلال تقليل الميزانيات المخصصة للخدمات العلاجية والدوائية والوقائية، مع رفع الدعم عنها، وإهمال الكوادر الطبية المؤهلة وإرغامها على مغادرة البلاد، ومن أساليبها عدم التردد في ممارسة الإبادة الجماعية تحت أي مسوغ، واستفزاز أصحاب المظالم التاريخية لحمل السلاح واشعال الحروب في مناطقهم، وهذه الأخيرة تخدم استراتيجية فرملة النمو السكاني بعدة طرق، منها النقص المباشر في الأنفس بالقتل العمد، وخلق ظروف غير مواتية للإنجاب ثم الإرغام على النزوح.
إفساد الذمم: من خلال تعمد انسياب المال العام، بتفشي هذه الظاهرة، أختلط حابل الفضيلة بنابل الرذيلة وسط المجتمع وأصبح النصاب شاطر، والمحتال “زول” حريف. حيث يسوء رموز النظام “الفسدة” أن يظل وسطتهم رجل نظيف وقيادي طاهر، والذي في فمه ماء سيلتزم الصمت الأبدي عما رأي بام عينيه وعما شاهد من خلال موقعه، ولهذا لم يتجاوز منسوبي المؤتمر الشعبي الخطوط الحمراء في نقدهم لرموز حزب المؤتمر الوطني، ما برح إفساد الذمم احدى الوسائل الفعالة في السيطرة على رموز المجتمع الذين تجاسروا على الدنو او دخول مظلة المؤتمر الوطني او خيمة النظام. والجدير بالتنويه أن ابتداع فقه السترة يعتبر فخ مضلل لهذه الاستراتيجية، ينسخونه عمن يحاول اللعب بذيله.
تقزيم رقعة السودان: بدافع تنقية الهوية من التنوع الإثني والعقائدي، لأنهم أعجز من تحويل هذا التنوع إلى قوة، لذا قد شرعوا منذ وقت مبكر في تغيير الخارطة الديمغرافية لعدة مناطق ملتهبة في دارفور تحديداً عن طريق توطين إثنيات عروبية من دول الجوار ومنحها الجنسية السودانية، وقد ابتهجوا بانفصال الجنوب وذبحوا القرابين، وبكل تأكيد سيكثرون من الذبائح ويكررون الاحتفال أن انفصلت أقاليم اخرى لا يختلف مواطنية كثيراً عن مواطني الجنوب، فقد أخذوا مثلث حمدي مأخذ الجد، وافتعلوا الحروب بكافة المناطق الواقعة خارج نطاق هذا المثلث العنصري, كما تغاضى النظام عن أراضي سودانية هامشية كعربون صداقة لأنظمة دول الجوار، النظام لم يتوقف على أثارة الأساليب التي دفعت مواطني الجنوب للانفصال خارج مثلث حمدي.
كافة الممارسات عاليه، تهدف إلى غاية واحدة، وهي السيطرة على إرادة الشعب ، والتحكم في مقدرات الوطن، هذه الأساليب بكل اسف سارية المفعول وسط مكونات المجتمع السوداني، والنظام لا يزال يحصد ثمارها في كل منعطف، وتأكيد هذه التنجية ما كشف عنها مؤخراً البطل رضوان داود في كلمته للجالية السودانية الأمريكية، حيث شرح كشاهد عيان ومشارك فاعل في الانتفاضة الاخيرة، كيف أن النظام استطاع بث الفرقة والكراهية وعدم الثقة وسط مكونات سكان العاصمة، ونتيجة ذلك تمكن من تحديد أبناء الهامش من المشاركة بفعالية في الانتفاضة الأخيرة.
د. قطبي المهدي يريد أن يوهمنا أن حكومة الإنقاذ قد تخلت عن اساليبها القميئة والمعروفة لدى الجميع، بعدما أخذ الجيل الجديد، جيل رضوان داود زمام المبادرة من عواجيز السياسة، وحمي وطيس المواجهة، وبعدما احست السلطات بأوجاع عمليات الجبهة الثورية السودانية المتتالية، وكأن النظام يقول “الروب” ، نعلم من الشهامة إيقاف الضرب على من يسقط على الأرض، لكن د. قطبي ونظامه ما هم إلا مخادعين وجبناء شيمتهم الغدر، وديدنهم الخيانة، ولم يستحقوا الشفقة بعد.
آفاق جديدة/ لندن