لماذا نحب الله والوطن والديمقراطية؟!

فتحي الضَّو
جاء العيد ومضى مثل سائر الأعياد والأيام، لا فرق. ولكني لم أر في حياتي أناساً حفظوا الود والوفاء لأبي الطيب المتنبي مثلما فعلنا نحن معشر السودانيين. فما إن تطل علينا هذه المناسبة وأمثالها، إلا وتجدنا نتبارى في ترديد بيت شعره الشهير (عيد بأية حالٍ عُدت يا عيدُ / بما مَضى أم بأمرٍ فيك تجديدُ) وعليه لا يخالجني أدنى شك في أننا طالعنا هذا البيت من خلال التهاني التي تقاطرت علينا مئات المرات، ورددناه لمن نحب أضعافاً مضاعفة، بل من فرط تكرارها تحسب أن التهنئة لن تكتمل بدون ذلك البيت العجيب، الأمر الذي يدعو للتأمل والتفكير ملياً في هذه الظاهرة البتراء. ولربما شاركنا الشعور نفسه أناس آخرين، تساءلوا مثلما تساءلنا نحن بحثاً عن إجابة شافية. علماً بأن الإجابة المشار إليها، ليست ألغازاً تَتَرى أو طلاسماً تُحكى. فنحن السودانيين نلمسها واقعاً مؤلماً تجري فصوله أمام أعيننا، فلا غرو أن أصبحنا بفضل الديكتاتوريات التعيسة نعيش حياة غير طبيعية، يتقاسم بؤسها الذين يرزحون داخل الوطن والمبعثرين خارجه. ومن عجبٍ، ذلك على عكس خلق الله، الذين يولون الأوطان أدبارهم، ويمموا وجوههم شطر أوطان الآخرين!

(2)
كنت أقف لحظة كتابة هذا المقال أمام منزلي في الهزيع الأخير من الليل، متأملاً خيوط الفجر الأولى، وهي تحاول التسلل من بين طيات الظلام. السكون الرهيب يُغلِّف المكان، تنتصب أمامي وحولي منازل من لحم ودم وعظام، يتشابه بعضها ويتنافر بعضها الآخر. أطيل النظر لشجر تطاول أمام عيني كأنه يريد أن يبلغ عنان السماء، في حين تبدو السماء نفسها صافية رغم العتمة، أحدق فيها بين الفينة والأخرى، كمن يريد أن يثقبها ضربة لازب. وأتساءل في سري هل يا ترى يوجد عرش الله حيث تناهى نظري، يتلعثم لساني كمن يحدث نفسه، فينقلب إليَّ البصر خاسئاً وهو حسير. هنيهةً ويباغتني ما قاله الحلاج يوماً فأبعد خواطري عن الفكرة الحمقاء، وأهرب بِكرِ البصر مرتين محدقاً في المنازل الصامتة كصمت القبور، وحدسي يقول لي إن ساكنيها يغطون في نوم عميق، بدليل السكون الذي يلف المكان. ولكن هب أنهم أيقاظ هل يا ترى ثمة أحد يفكر في ما أفكر فيه في تلك اللحظة؟ يجيب صوت خافت ليقطع الشك باليقين ويقول: لا أحد يدور بخلده مثل الذي يدور بخلدك، سواء في اليقظة أو الأحلام. فالذي تفكر فيه تضرب له أكباد الطائرات، وتقطع فيه بحور ومحيطات، وتنفصل فيه الروح عن الجسد، لو يعلمون!

(3)
من سنن الكون تراكم السنين، الواحدة تلو الأخرى. ولكن أدري آماد وقفتي تلك، فقد تكررت مراراً وإن اختلفت الأمكنة وتباينت الأزمنة. وتبعاً لذلك تكررت تساؤلاتها وإن تغيرت الوجوه وتبدلت الهموم. تتحول الرغبة إلى تأمل، والتأمل إلى مناجاة، والمناجاة تغزل حبلاً متيناً، اتجه به نحو سماء بلا عمد. حينذاك فاجأني صوت شرخ جدار الصمت كما البرق، وبات يردد: نحن نحبك يا الله حبين، حب الهوى وحب مؤداه أنك أهل لذاكا أو كما قالت رابعة العدوية. ويتردد صدى الصوت، نحن نعبدك بصدق وليس على حرفٍ كمن ذكرتهم في كتابك القويم. نحن يا رب لم نقتل ولم نكذب ولم ننافق ولم نؤذ أحداً، سلاحنا قلم ليس بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء. فإن كنت تحبنا يا الله مثلما نحبك فلماذا تدع هؤلاء الأبالسة يعبثون باسمك الكريم؟ يقولونك ما لم تقل، ويفعِلُونك ما لم تأمر به عبادك الصابرين؟ هم قتلوا وعذبوا ونكلوا واغتصبوا وسرقوا وأفسدوا وأنت تعلم، فحتام لا ترينا فيهم آياتك ووعدك الحق؟ هم يدَّعون أنك ابتعثتهم لإخراجنا من الظلمات إلى النور، ونحن لم نسفك دماً كما سفكوا، ولم نأكل سحتاً كما أكلوا، ولم نكذب زوراً كما فعلوا، فلماذا لا تُنزل عليهم سوط عذاب يُذكِّرهم بسوء ما عملوا وجرم ما ارتكبوا؟ فهل ما فعلوه أقل ذنباً مما اقترفه قوم نوح ولوط، وهل ما فعلوا أدنى كفراً من ما ادَّعي فرعون ذي الأوتاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد؟!

(4)
كنا في مدارج الطفولة، دلفنا فيها على المرحلة الابتدائية نتلمس علماً نافعاً. ولأن خير الزاد محبة الوطن، أصبحنا نتنافس في رسم خارطته. كنا مندهشين بكبر حجمه، ونشعر بالفخر والزهو لكأنما البلدان التي حوله محض أقزام. وكلما كبرنا كان يكبر في دواخلنا ويتمدد كما الجنين في بطن أمه. وحينما نتلو على مسامعه نشيد العلم كان يرقص طرباً، فتضطرب دواخلنا رهبة لم نكن ندري كنهها. وعندما صرنا في ميعة الصبا، لازمنا إحساس أنه ليس وطناً فحسب، وإنما هو أمك وأبيك والحضن الذي يأويك. ثمَّ أتى علينا حينٌ من الدهر تيقنا فيه أن له حق علينا، فلم يكن ثمة بد من استرخاص الروح، فحملناه وهناً على وهن إلى أن تماهت خارطته مع أجسادنا، فأصبح إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. لكن لم يشاء الذين في قلوبهم مرض أن يدعوه ينام، فأيقظوه عنوةً ووضعوا أحذيتهم الثقيلة على صدره، فتململ وهم غير عابئين، ثمَّ كرر أصحاب الأذقان سوء فعلتهم وهم مقمحون. جلسوا القرفصاء على جسده الغض، وصموا آذانهم عن أنينه الذي يقطع نياط القلوب، وأغمضوا عيونهم عن رؤية دموع انهمرت كسيل العرم. ولما لم تطق الخاصرة صبراً جراء العذاب المهين، قال لها الطواغيت جهراً، ويلك فإن العِرقَ أثقل من الدم السخين!

(5)
نحن نحب الديمقراطية لأن الحريات فيها كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً. لهذا لن تصمت ألسنتنا من الجهر بها ليل نهار وإن طال السفر. ونحن نحب الديمقراطية لأنها تحقق لنا دولة العدالة والمواطنة والرعاية الاجتماعية، يكون فيها المواطنون سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين أحد منهم وآخر إلا بالعطاء والتجرد والولاء للوطن. وفي الديمقراطية تصان الحقوق وتحفظ الواجبات ويشعر المواطن بكينونته وعزته وإنسانيته. في الديمقراطية لن نستجدي أحداً ليطعِمنا، ولن نتسول دولة كي تعطينا من فتات موائدها. فالديمقراطية شجرة سامقة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ينعم المواطن بظلالها الوارفة وثمارها اليانعة ومنافع لا تخطر على قلب بشر. في الديمقراطية يتهادى المواطن بلا خوف أو وجل في دولة آمنة كأنه يسير فوق السحاب، رأسه مرفوعة وكرامتة محفوظة. في الديمقراطية ستتفجر طاقات الشباب عطاءً وإبداعاً بعد أن أغرقتهم العُصبة في المخدرات والبطالة واللا مبالاة. في النظام الديمقراطي لن يجرؤ سارق على نهب المال العام, فهناك صحافة حرة تسلط أضواءها الكاشفة على فساد كل من تسول له نفسه. وهناك برلمان منتخب بلا تزوير أو تدليس أو إكراه، يطارد الفاسدين، وهناك قضاء نزيه يبسط موازيين العدالة، وويل حينئذٍ للمطففين. في الديمقراطية ستعود الطيور المهاجرة إلى وُكُناتها التي غادرتها مرغمة بظروف شتى، ستقبل وهي أكثر عزماً على إيفاء الوطن حقه، لكي يفيها حقها بلا منٍ أو أذىً. في الديمقراطية سيتحلق الناس حول تنوعنا الثقافي الذي يعد أعظم ثروة قومية نباهي بها أمم وشعوب العالم. ولأنه – أي التنوع – مبلغ علمهم وغاية همهم، سيسهر الناس على رعايته، لكي ينمو ويترعرع في الفؤاد (الحافظاه العناية)!

(6)
الديمقراطية منهج دنيا وأسلوب حياة، مهرت الإنسانية من أجلها سنوات طويلة وتجارباً كثيرة ونضالات ليست عبثاً (فمن خطب الحسناء لم يغلها المهر) فالبلدان التي ظفرت بها، طالت قامتها بين الدول، وازدان رقيها، وارتقت في سلم المجد والتقدم والتحضر. ولأننا اكتوينا بنيران العصبة ذوي البأس ستكون أولى مهام الديمقراطية تخصيص ما نسبته 70% من الميزانية للصحة والتعليم، فهما عماد الحياة وسبل المستقبل، سنقف فيها للمعلم ونوفِه التبيجل اللائق، فهو الرسول الذي لم يدرك السفهاء عظم رسالته، وسيكون الطبيب الذي يداوي عللنا محط اهتمام الدولة. وفي الديمقراطية ستخصص 10% للأمن والدفاع، إذ ليس لدينا أعداء نتوهمهم أو نخلقهم، فأمننا هو أن يأمن المواطن من الخوف الذي زرعه الجلاوزة في النفوس، ودفاعنا هو مُثلنا وقيمنا وأخلاقنا، ففي الديمقراطية ستصمت المدافع، وستضع الحرب أوزارها، وسنعلق وردة في فوهة كل بندقية. وفي الديمقراطية ستكون بلادنا قبلة يقصدها رؤساء محترمين، مثلما جاءها بالأمس ودرو ويلسون ونيلسون مانديلا وليوبولد سنغور والملكة اليزابيث وكوامي نيكروما وجمال عبد الناصر وجوزيف بروز تيتو والملك فيصل ونزار قباني وبيليه (سانتوس البرازيلي) وبوشكاش (الهونفيد المجري) وليفربول (البريطاني) وأم كلثوم وميريام ماكيبا وتلهون قيساسي. سوف تنعم البلاد بالاستقرار في ظل مصالح متبادلة واحترام حذوك الكتف بالكتف. ولن يكتمل عقد الديمقراطية إلا بإعادة المشاريع العملاقة لسيرتها الأولى، ستحلق الخطوط الجوية السودانية (سودانير) في السماوات البعيدة والقريبة، ستجوب السفن السودانية أعالي البحار والمحيطات، سينبت مشروع الجزيرة قطناً وقمحاً ووعداً وتمني!
فالديمقراطية نور ونار، من أراد أن ينعم بنورها فليصطل بنضالها!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *