لابد من إقليم دارفور… وان طال السفر

      الفاشر -بقلم/حامد علي نور

[email protected]

حكومة الإنقاذ و الرهان الخاسر

 

شرعت الحكومة في تنفيذ خطتها بإجراء استفتاء في دارفور لتحديد وضعه الإداري : هل يعاد الإقليم كسلطة إدارية مع بقاء الولايات تحتها أم يلغى  الإقليم وتستمر الولايات التي أنشأتها الحكومة – دون سلطة إقليم و بحيث تتعامل الولايات الثلاث أو الخمس مع الخرطوم مباشرة. و معلوم أن الحكومة قد رتبت للأمر تماما والنتيجة معلومة مسبقا/ فان كانت الحكومة تريد  أن تبقى على نظام الولايات الذي أوجدته، فهي في غنىً  أصلا عن ضياع موارد البلاد بإجراء  استفتاء شكلي لا ضرورة له/ لكن الأهم من ضياع الموارد المالية هو ما سوف يفضي إليه  مثل هكذا استفتاء  من مشاكل بين أهل دارفور . ويكفي أهل دارفور ما هم فيه من صراعات و حروبات.   كما يكفي هذه الحكومة ما فعلته بهذا الوطن من أفاعيل أودت  بوحدته ومازالت تهدد مستقبل ما تبقى منه .و لعل في إدراك اى مواطن له قدر من الوعي السياسي وملم بأبجديات العمل العام بان مثل هذه السياسات لا تقود في نهاية الأمر إلا لتفتيت الوطن . ويبدوا و كأنما هذه الحكومة قد وطدت نفسها بان تكتفي من الوطن ( بمثلث حمدي). الذي أصبح أشبه ببرنامج استراتيجي يسعى النظام  الحاكم إلى تحقيقه ، فالسياسات التي تنتجها الحكومة لا تقود إلا إلى( المثلث) الذي يريدونه ان يصبح  الوطن المقدس في نهاية المطاف.

لماذا كل هذا اللغط حول إقليم دارفور؟

الواقع الموضوعي الذي لا خلاف عليه أن إقليم دارفور له خصوصية سياسية  واقتصادية واجتماعية وإستراتيجية تميزه عن غيره من أقاليم السودان الأخرى .  فإقليم دارفور  يمثل في الواقع المكون الثاني للسودان.  فالدولة السودانية إنما تشكلت بدمج استعماري قسري لدولتين  مستقلتين هما : – ” سلطنة الفونج” التي كانت تضم أقاليم السودان الأخرى (الشمالي والشرقي والأوسط و الخرطوم وجنوب السودان و تقلي بجنوب كردفان) و ” سلطنة دارفور”  التي كانت تشمل مملكة المسبعات شمال كردفان ولذالك أعدت السلطة التركية المصرية حملة غزو مكونة من جيشين : الجيش الأول بقيادة إسماعيل بن محمد علي باشا منوط به إسقاط دولة الفونج( سنار) وجيش ثاني  بقيادة محمد خسرو الدفتردار لإسقاط سلطنة دارفور إلا انه و لعدة أسباب إكتفت السلطة الغازية بإسقاط كردفان فقط ونزعها من سلطنة دارفور. وبسقوط سنار وكردفان عام 1821م–تشكلت لأول مرة كيان سياسي يسمى ” السودان التركي المصري” ثم بعد أكثر من نصف قرن وتحديداً في عام 1875 م تم غزو سلطنة دارفور وإسقاطها لحساب النظام الاستعماري وألحقت بالمستعمرة القائمة وأصبحت  سلطنة  دارفور إحدى مديريات ( السودان التركي المصري)  وبالتالي فان الكيان( الوطني) (الجغروسياسي ) الذي تكون بدمج سلطنة دارفور إلى سلطنة سنار هو الذي يعرف اليوم ” بجمهورية السودان ” هذه الحقيقة التاريخية يجب وضعها في الاعتبار لا لأنها مازالت مترسبة في وعي ووجدان إنسان دارفور  ، وإنما لمواجهة الحقيقة الموضوعية الهامة و هي  إن هذا الكيان” الجغروا سياسي”أو الدولة الافتراضية التي تسمى السودان- لم تصبح بعد وطنا لجميع شعوبه بعد  أكثر من نصف قرن من (الاستقلال الوطني) فقد فشلت السلطات الوطنية المتعاقبة أن تبني وجدانا مشتركا بين شعوبها أو ان تجعلها دولة مواطنة يجد فيها كل مكون من مكونات هويته و ذاته الثقافية و كبريائه الوطني. وما زال السودان بلد سادة وعبيد وراعي ورعية وبيعة قسرية.  وما زال كل طرف من أطرافه يبحث عن ذاته خارج حدود (الوطن) فتوجه أهل الوسط والشمال النيلي  توجه مصري و شرق أوسطي و توجه إنسان دارفور عموما توجه غرب أفريقي ومغاربي و أما توجه أهل الجنوب – ياحليلهم- فتوجه شرق أفريقي .

عمق وجدان السودان:

 والأمر الآخر حول دارفور الجدير بالوقوف عنده هو : أنه الإقليم الأكثر شبها بالسودان وهو في الواقع سودان مصغر، إذ هو الإقليم الوحيد الذي يتمتع بكل مزايا. ( وفي فهم العنصريين – رزايا) السودان: من حيث المساحة الشاسعة التي تمتد من الغابة  إلى الصحراء فتفرض تنوعا جغرافيا ومناخيا متميزا  وتعددا  في سبل كسب العيش .. ومن حيث التنوع في الأعراق والثقافات بين كياناته السكانية ( إذ أن هناك حوالي مائة وستين قبيلة  من جذور  ومنابت مختلفة تعيش  في دارفور ). ومع هذا التشابه في الشكل و المظهر فان لإقليم دارفور موروث ثقافي يختلف إلى حد كبير عن تلك( الثقافة السنارية) ففي دارفور  التقت الحضارة المشرقية  بالحضارة  المغاربية واختلطت مع الحضارة الأفريقية السودانوية ونتج عن ذالك  الإنسان الدارفوري بعاداته وتقاليده وأعرافه ومجمل ثقافته القائمة على الجهاد والتمرد على الظلم فأهل الغرب في دارفور و كردفان هم أول من قاوموا الغزو التركي المصري بجيش وطني في معركة بارا الملحمية بقيادة المقدوم مسلم وفي معركة سودري بقيادة اي لكليلك و في منواشي بقيادة السلطان البطل الشهيد  إبراهيم قرض و هم من أوائل الذين ساهموا في بناء أول دولة وطنية سودانية وساهموا في توطيد أركانها وحمايتها من المهددات  الداخلية والخارجية التي كانت تواجهها فظلت حرة مستقلة وعزيزة الجانب حتى تآمر عليها المتآمرون – ولم يسقطوها إلا بعد معركة ملحمية شهد لها العدو قبل الصديق . و أهل دارفور هم اول من حرق علم المستعمر البريطاني في رائعة النهار حينما كانت بريطانيا امبراطورية لا تغيب عنها الشمس و أهل دارفور هم أول من تمرد على كل الأنظمة الدكتاتورية و قاوموها ودارفور رغم بعده الجغرافي عن الوسط و تهميشه و إهماله التاريخي سيظل بكل المقاييس يمثل “عمق الوجدان الوطني السوداني “.

وحول  مشكلة دارفور:

أن أهل دارفور جميعا – الجغرافي منهم ( أي الذين يقيمون داخل إقليم دارفور) والاجتماعي (الذين هجروا الإقليم إلى إقاليم أخرى) ومهما اختلفت جذورهم و منابتهم العرقية ( افريقية كانت أو عربية) فهم جميعا يشعرون ويحسون بعمق واقع تهميشهم واستبعادهم الاجتماعي وحرمانهم المستمر من المشاركة في مجالات العمل والإنتاج والاستهلاك الحقيقي الذي تتطلع إليه الشعوب الحرة: كالمشاركة في الشأن العام ( الممارسة السياسية الحقيقية) ومن التفاعل الاجتماعي. هذا رغم أن التهميش لم يكن حصرا على أهل دارفور لوحدهم وإنما  طال  إقاليم ومناطق أخرى وقد عبرت جميعها عن رفضها للظلم والتهميش مدنياً و سياسياً و حتى عسكرياً.

ومن الأمور التي تجعل لدارفور خصوصيته هو أن الإقليم بكامله يصنف ضمن مناطق الإقتصاد التقليدي ذات الطبيعة الهشة إقتصادياًو ينقسم مجتمعاته ذات الطبيعةالعشائرية إلى قسمين أساسيين هما: الرعاة الجوالة والمزارعين و كلاهما يمارس كسب عيشه بوسائل ممعنة في التخلف فالرعاة متجولون ويرحلون بقطانهم مسافات بعيدة من الصحاري إلى الغابات – بحثا عن الكلاء والماء وهربا من الحشرات التي  تضر بحيواناتهم  ويمرون في مساراتهم  بالحيازات   الزراعية  لمزارعي القرى و الأرياف  وهي حيازات صغيرة تعتمد على العمل اليدوي لأفراد الأسرة  الواحدة في مجتمع قبلي ، وبأدوات إنتاج  متخلفة  ولم تتغير  منذ أن عرفوا الزراعة.  أما الآليات الإدارية فهي تتماثل مع النمط الإنتاجي والمعيشي لهذه  المجتمعات وموروثة منذ عهود السلاطين  وان طرا عليها بعض التغيرات  من حيث القوة أوالضعف – لكنها ظلت فاعلة وناجحة  في معالجة الصراعات العشائرية والمهنية  وحافظت على مدى قرون  على التعايش السلمي  و على المودة بين قبائل ومجتمعات دارفور  رغم هشاشتها الاقتصادية  و ضعف بنيتها الاجتماعية  ورغم التدهور البيئي الذي اثر سلباً على الموارد الطبيعية  وهي القاعدة الإنتاجية  لكل من الرعاة  والمزارعين،  ورغم تدفق الأسلحة الحديثة التي زادت من حجم ونوع الصراعات في المنطقة . كل هذه كانت عوامل مساعدة في انتشار  أزمة دارفور  ولم تكن سببا لها قطعاً.  السبب الأساسي الذي أحال دارفور  إلى محرقة هو التدخل غير الحميد للدولة و  تمثل ذالك التدخل في: تسييس الإدارات الأهلية والكيانات  القبلية المسالمة و في الاستقطابات السياسة والعسكرية للقيادات   العشائرية ثم التعبئة العسكرية لها و في حملة الكراهية العشائرية المنظمة بين أهل دارفور ليقاتل بعضهم  بعضا لصالح حكومة الخرطوم وبذالك أصبحت الحكومة طرفاً أساسياً في الكارثة التي حلت بدارفور . والمشكل الذي يواجه الحكومة في دارفور الآن ليس اولئك الذين حملوا السلاح ضدها،إنما أولئك الملايين الذين يعيشون في معسكرات النزوح واللجوء والذين يرون أن الحكومة وليس غيرها هي المسئولة عن كل ما حدث لهم من موت وحريق ودمار وتشرد. وهذه هي الحقيقة التي تسعى الحكومة أن تخفيها و تسعى عبر أجهزتها الإعلامية ان تزييف وعي الشعب السوداني و ان تخفي معالم ( أخطاءها). وهي تفاوض  الحركات المسلحة لتجد لها مخرجا عبرها ولا يبدوا أنها سوف تفلح لأنها درجت على التعامل مع أهل دارفور بقدر من التعالي و العنجهية و الإزدراء حتى بالقيادات الدارفورية التي تنسب إليها ناهيك عن تلك التي تعارضها.

سلام  دارفور:

إن كان سلام أهل دارفور هو من سلام الوطن و سلامته و بالتالي من الأمور التي سوف تضع حدا للتدخلات الدولية في بلادنا، فان ذالك السلام لن يأتي إلا بوحدة أهل دارفور  الذين نجحت الحكومة في تشتيتهم  أيدي سبأ . و يبدوا أنه ما زال هذا هو هدفها ومسعاها حتى اليوم حسب كل الدلائل و البينات. فالعمل الأساسي لأجهزة الدولة خاصة الأمنية منها هو خلق كل ما يشتت ويفتت أهل دارفور حتى إن بعض المحللين السياسيين الأجانب   كتب واصفا سياسات الحكومة في دارفور قد تجاوزت مرحلة منهج وسياسة ” فرق تسد”  Divide and Role” ” إلى مرحلة “فرق ودمر” Divide and destroy”

 وعلى الحكومة  أن تثبت تبرئة ذمتها من هذه التهمة. خاصة إن الكرة ما زالت في ملعبها كما يقولون لكن كعهدنا بها حتى الآن فإنها لا تحسن إلا لعبة البقاء في السلطة لوحدها و بأي ثمن طالما أن ذالك  الثمن يدفعه أهل دارفور وها هي تقود إقليم دارفور نحو مأزق آخر بقرارها إجراء الإستفتاء فالحكومة تعلم تمام العلم أن موضوع الإقليم الواحد ليس هو مجرد مطلب للمتمردين ضدها إنما هو في الواقع أحد المكونات الأساسية التي شكلت الهوية الوطنية لإنسان دارفور و هذا أمر وجداني لا يمكن أن ينتزع أو يلغى عبر هكذا سياسات. فهل تقوم أجندة الحزب الحاكم اصلاً على تدمير وجدان شعوب الوطن المتنوعة .لتعيش مغبونة أو تتفتت !! أليس الأجدى أن نبني وجدانا ًمشتركاً عبر نهج التآلف والتحالف بدلاً من القمع الفكري والمادي؟إن الحكومة ليست مضطرة أصلاً لإجراء استفتاء يعقد الأمور   بدلا أن يعالجها ! فهل استفتت الحكومة أهل دارفور حينما أنشأت الولايات اول مرة أو حينما فعلت كل ما فعلت بدارفور ؟

الإقليم هو الحل:

إن وحدة أهل دارفور بعد هذا التمزق في النسيج الاجتماعي تبدأ أول ما تبدأ بوحدة الإقليم و عودة سلطة الإقليم . فالإقليم الذي ظل  واحدا ككيان تاريخي واجتماعي  متعمق في وجدان أهل دارفور بل و أهل السودان هو الأقدر على تحقيق طموحات وأشواق أهل دارفور ورغباتهم. وليس (حكومات) ولايات لا رابط بينها غير الحكومة المركزية في الخرطوم. فمتى كانت حكومات االخرطوم مأمونة الجانب في أي أمر يختص بدارفور، ناهيك عن حكومة متهمة بأنها طرفاً في الأزمة التي دارت هناك و ذالك بتأجيج النعرة القبلية والصراعات المجتمعة في الإقليم وأنها مصنفة كعدو لأولئك الذين يرون بأنها المسئولة عما حاقت بهم من دمار وخراب فكل هذه الحقائق تؤكد بأن وجود حكومة إقليمية تمثل أهل دارفور تمثيلا ديمقراطيا ومتوازنا هي الأقدر لمعالجة الأزمة  وإخراج  أهل  دارفور  إلى بر السلامة وإنهاء التدخلات الدولية.

كما أن الحكومة الإقليمية المتنخبة هي الأقدر على التخطيط والعمل التنموي ، و الأقدر على جمع كل المواهب والخبرات لخدمة دارفور.كما تستطيع أن تتحرك وفق رؤية إستراتيجية شاملة لتنمية الإقليم عبر تكامل الموارد والقدرات الإقليمية أولا – ومن ثم الموارد القومية والإقليمية والدولية الأخرى  .

• الأمر الأخطر الذي نحذر منه وهو أن وجود ولايات بلا إقليم يعني بالضرورة ضياع قضية أهل دارفور، التي ناضلوا من أجلها منذ الاستقلال وهي المشاركة العادلة في السلطة والثروة. وبالتالي فإن ضياع سلطة الإقليم يعني ضياع فرصة أهل دارفور في التطور والنماء   والاندماج الوطني. فوضع دارفور كولايات بلا سلطة إقليم يعني أن تستمر الخرطوم في استقطاباتها السياسية والعرقية  والعسكرية و كما حدث في السابق فسوف يعرض على البعض المال والمصالح والوعود بمنافع أخرى  ليقف  ضد البعض  الآخر أو حتى على الحياد إزاء سعي الخرطوم لتأديب الآخر أو حتى تدميره ! ومن يظن أنه لا يوجد في داخل الوطن أو خارجه من يسعى لتدمير دارفور و تدمير السودان ككل فهو واهم واهم ! إن التاريخ القريب وليس البعيد ملئ بمثل هذا المسلك وليس من غير المحتمل أن يقع مجددا مثلما ما وقع علينا أو على غيرنا من قبل. أليس غياب الإقليم والسلطة الإقليمية الفاعلة هو الذي جعل من دارفور أكثر هشاشة وأكثر عرضة للتهميش والاستقطاب الإثني والسياسي والعسكري ؟  وأدى إلى تصغير شأن دارفور وأهله وتدمير همتهم حتى لايكون لهم شأن أو يكون لهم دور و حضور في قضايا الوطن كله ولهم حقوق متساوية مثلما لغيرهم!

إن وحدة أهل دارفور التي تبدأ و لا تنتهي بوحدة إقليم دارفور هي  السبيل الوحيد  الضامن لمستقبل ما تبقى لهذا الوطن الذي بدأ وكأنما يتآكل من الأطراف وبفضل الوحدة وحدها يستطيع أهل دارفور أن يحبطوا كل المكائد والأجندات الداخلية والخارجية التي تخطط لضياع دارفور وأهل دارفور و الوطن جميعا .

لعل من الأسباب الغريبة التي أشار إليها بعض أولئك الذين يتفقون مع توجه الحكومة في مسعاها لإلغاء الإقليم هو الخوف من هيمنة بعض القبائل على حكومة الإقليم ! وهذا أمر غريب لا منطق فيه ولا مبرر له/ فالخوف – كل الخوف إنما  يكون من وجود حكومة غير صالحة في اي مستوى من مستويات الحكم المختلفة ( محلي ولائي إقليمي أو اتحادي ) فالحكومة غير الصالحة وغير المؤهلة أو التي لا شرعية لها و لا أمان منها! أوالتي تفتقر إلى الوازع الأخلاقي ، هي التي يجب أن نخافها ونحاربها ! أما إن كان الخوف هو من سيطرة عناصر أو قبائل(أو حتى قبيلة بعينها) من داخل دارفور على الحكومة الإقليمية  فسيكون أهل دارفور إذن أفشل الفاشلين إن لم يستطيعوا وضع الأسس لمعالجة أمر كهذا!!  ثم أليس مثل هذا التخوف قائما في إطار تشكيل حكومات الولايات أو حتى المحليات ؟ ما قيمة أهل دارفور إذن، إن ظلوا يتخوفون  من أوهام صنعوها لهم – وهم القوم أصحاب الحكمة والحكم…

أليست الحكومة حينما أنشأت هذه الولايات الثلاث وحتى  الولايتين الاخيريتين  التي شرعت بإنشائهما في دارفور قد أقامتها أصلاً وسوف تقومها على أسس قبلية ؟أي هيمنة كيانات قبلية بعينها على كل ولاية  فمن البدهي إذن إن مثل  هذه  الولايات  المصطنعة على  مثل هكذا أسس وفي ظل غياب سلطة إقليمية جامعة لكيانات دارفور –سوف لن تغدوا جارات أمينات لبعضها البعض  في ظل حكومة اتحادية غير محايدة درجت على الاستقطاب ألاثني الانتقائي وعلى تعبئة مليشيات عسكرية قبلية موالية لها وضد قبائل وكيانات أخرى بالمنطقة مصنفة على أنها معادية-  بالضرورة لحكومة الخرطوم  فالنتيجة الطبيعية  لمثل هذا النهج السياسي العنصري أن تنظر كل ولاية في دارفور إلى الأخرى بصفتها  عدوا محتملا : يخشونه ويتحسبون لعداوته ومن شأن مثل هذه المشاعر إلى جانب عامل المغريات السلطوية من مال وجاه من المركز . سوف تدفع حكومات الولايات إلى عمل كل ما تظن أنه يقلل من أهمية الولايات الأخرى. يجب أن يكون المرء مغرقاً في التفاؤل والخيال إن ظن أن هذه الولايات التي تفككت من الإقليم سوف لن تقع فريسة التنازع فيما بينها ، فهذا النظام قادر قطعاً على شحن القيادات السياسة بالولايات بالعداوات الوهمية ، وما أكثر الخصومات التي سوف تنشب بين كل منها والأخرى خاصة وأن أسباب العداء – المصطنعة منها، والحقيقة أكثر من أن تحصى  وقد مهدت حملة الكراهية العرقية التي تم التخطيط لها و تنفيذها بدقة في دارفور مهدت الطريق إلى الفتنة/وستظل المنافسات والصراع على الموارد الطبيعية التي أهملت و أصبحت شحيحة الآن مصدرا مستمرا  لبذر المنازعات والشقاق. خاصة وأن هذه الموارد متداخلة بين الولايات –فالرعاة لا يكتفون بالعشب والماء في ولاية واحدة – إنما هم مرتحلون عبر الولايات مما يتطلب وجود حكومة للإقليم نعمل على الاهتمام بالموارد وتكاملها من أجل التنمية والبناء والاستقرار. أما بدون حكومة إقليم فإن كل ولاية سوف تتبع مسلكاً خاصة بها في احتكار مواردها وفي السياسات الخارجية ( خارج الولاية )والاقتصادية – ومن شأن مثل هذا التباين أن يخلق تمايزات و أفضليات ثم عداوات فيما الهدف أصلا التكامل بين اقتصاديات المنطقة و تدامج أهلها إقليمياً ووطنياً.

أليست التمايزات  والافضليات هي التي خلقت الأزمات التي يعاني منها السودان اليوم؟

نضيف إلى  كل ذالك أن الحكومة الإقليمية في دارفور – متى ما تشكلت على أسس من الديمقراطية الحقيقية و التراضي بين أهل دارفور ودون هيمنة من سلطة دكتاتورية ذات نزعة عنصرية في المركز – فسوف تكون أقدر على معالجة مشكلات الإقليم بما في ذالك التمردات  والانفلاتات الأمنية . لأنها سوف تضع نصب عينها التعايش السلمي بين القبائل والكيانات المجتمعية الأخرى وليس  كما فعلت الحكومة الاتحادية حينما هجمت بغلظة ودون رحمة من الارض و من السماء على ملايين المواطنين الأبرياء في قراهم ومزارعهم فدمرت حياتهم و زرعهم و ضرعهم و شردتهم إلى المناطق الداخلية والخارجية – فهل من أجل حفنة متمردين – كما تم وصفهم بحرق إقليم دارفور من الغابة إلى الصحراء!!.

ولعل من  الواضح أيضاً أن احد أهداف الحكومة في إيجاد ولايات بلا  سلطة إقليمية  هو إضعاف تمثيل  أهل  دارفور في الحكومة الاتحادية ( ونعني التمثيل  الفاعل  الحقيقي وليس الشكلي كما هو موجود الآن )  فولايتي الشمال النيلي ( الشمالية ونهر النيل) وهما الأقل حجما وعددا من حيث السكان والمساهمة في الاقتصاد الوطني هما الأكثر احتكارا لمفاصل السلطة ومصادر الثروة ثم يأتي بعدها الإقليم الأوسط و كيف حدث ذالك؟

سوف نتناول ذالك في مقال لاحق كما سنتناول كيف أن :

إلغاء إقليم دارفور وبعثرته إلى ولايات هو مسعى لإخضاع نهائي لأهل دارفور وإلغاء لقضيتهم ولطموحهم التي ناضلوا من أجلها منذ الإستقلال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *