سلمى التجاني
(1)
القوَّة المُفرطة التي استخدمها النظام أمس ضدَّ المتظاهرين، هي ذات مقدار القوة القاتلة التي تَعَامَل بها مع متظاهري عطبرة والقضارف والخرطوم (بري وأمدرمان تحديداً) في بداية الثورة، وقد خلَّفت عدداً من الشهداء، وأذىً جسيماً لكثيرٍمن المشاركين، لكنَّ دافع استخدامها الآن يختلف عن البدايات.
في البدء تفاجأَ النظام بقوَّة وحجم التظاهرات، فاختار أن يتعامل معها بعنف، بغرض وَقْفِها، وإرهاب بقية المدن من الانخراط فيها، وفي مخيّلته ثورة سبتمبر 2013م؛ فيبدو أن أكثر قادة النظام تشاؤماً لم يتوقَّع أن تصمد المظاهرات لأكثرِ من شهر. استمرَّ في قمع المظاهرات بعد ذلك، باستخدام الغاز المسيل للدموع، والرصاص المطاطي، مع استعمالٍ أقلَّ للذخيرة الحية باصابات غير قاتلة، بينما استمرَّ في اعتقال وتعذيب المتظاهرين.
بعد هذه الهدنة، عاد أمس لاستخدم القوة المفرطة والرصاص الحي المصوَّب بدقة بغرض القتل، لأن النظام قد تأكَّد من أن وجوده مُهَدَّدٌ أكثر من أيّ وقتٍ مضى خلال عقود حكمه الثلاثة. فالمظاهرات تتمدد في مدن وقرى السودان، وتزداد قوة، والمتظاهرون يزدادون بسالةً وثباتاً، برغم القتل والاعتقالات، والتهديد بكتائب الظلّ وقطع الرؤوس، فكان تحدِّي مدير جهاز المخابرات الأخير هو قاصمة الظهر، عندما خرج المتظاهرون في مدن العاصمة المختلفة، ومدن وقرى الولايات، ما أصاب النظام بالرعب، وأدرك أنه يخسر رهانه على قلة المشاركين في الحراك.
(2)
هذا على الصعيد الداخليّ، على الصعيد الخارجي شعرَالنظام بالحصار الدولي الذي تجلَّى في الإدانات الدولية لاستخدام القوة المفرطة، فقد اضطرت قوة التظاهرات الإعلام العالمي (الناطق بالعربية والإنجليزية والفرنسية) لتغطيتها وتناولها بحجمها الحقيقي، حتى كتبت كُبريات الصحف العالمية كالواشنطون بوست والغارديان ومجلات عالية المصداقية عما يجري بالسودان، وعرضت قنوات غربية مشاهد من الرّعب الذي تثيره أجهزة النظام الأمنية أثناء قمعها للمظاهرات، بل خصَّصت بعض القنوات عالية المشاهدة في دول كبريطانيا، مساحةً لبرامج عن الثورة السودانية. كل ذلك أدخل المجتمع الدولي في حرجٍ من صمته المتواطئ، فجاءت مواقفه متفاوتة من حيث قوّتها في إدانة عسف النظام. ولعلَّ بيان الاتحاد الأوروبي، في الأسبوع الماضي، الذي ذكَّر البشير بكونه مطلوباً للعدالة الدوليّة، تبعته بعد ذلك صحف أمريكية وبريطانيَّة ركَّزت على ذات الأمر، ما أضفى مزيداً من الضغط على الدول الغربية التي تتمتع بعلاقات جيدة مع النظام، للتأكيد على أن هذه العلاقات رهينة بحسن سلوك النظام تجاه مواطنيه.
إقليمياً، لم تحقِّق زيارة البشير لدولة قطر قبل يومين، الطمأنينة التي كان يرجوها لمقابلة الضغط الشعبي الذي يطالبه بالرحيل، ليأتي بيان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين (إحدى واجهات التنظيم العالمي للأخوان المسلمين) حمَّالَأوجه؛ فبينما أدان سفكَ الدماء ودعى لمحاسبة المتورطين فيه، استصرخ في ذات الوقت الدول العربية لدعم النظام حتى يخرج من أزمته المستفحلة. ليس النظام وحده الذي ترهبه ثورة ديسمبر، فتنظيم الأخوان المسلمين العالمي ارتعبَ من فكرة زوال النظام؛ فالحكومة تشعر بخذلان الغرب والدول العربية لها في محنتها الحالية، لذلك كان خيارها (ما حَكَّجلدَك مثل ظفرك)، وأظفارها هنا هي الرصاص الحي والعصي الكهربائية والغاز المسيل للدموع.
(3)
أعظم ما حقَّقته ثورة 13 ديسمبر، أنها، حطمَّت أسطورة القبضة الأمنية التي لا تُهزم للنظام، فَعَلت ذلك بما يزيدعن (53) شهيداً، وأعداداً من الجرحى والمعتقلين، لكنها كشفت زيف ادعاءات الإنقاذ عن كتائب الظلّ والقوات الخاصة والأمن الشعبي، ما نراه الآن هو أقصى ما يستطيع فعله النظام من قمع؛ فعلى الرغم من استنفاره لجهاز أمنه، وقواته الخاصة، وكتائب الأمن الطلابي، لكنَّه فشل في السيطرة على الشارع السوداني الغاضب. يعود هذا الفشل إلى أن كل هذه القوات غير مدربة على التعامل مع الحشود الكبيرة، فقد ظنَّ النظام أن الشعب السوداني قد استكان لقَدَره، لذلك اقتصر دور هذه القوات على الاعتقالات والتعذيب بالمعتقلات، والتعامل مع الاحتجاجات الطلابية بالجامعات. لم يتوقع يوماً أن يُوَاجَهَ بمثل هذه الحشود، لذا، وللتدليلِ على بطشه، يغتال متظاهرين أو ثلاثة في كل مرة، ليقول للناس أنه باطش وقادر على تفريق التجمعات، مع الوضع في الاعتبار أن عزلة النظام الإقليمية والدولية، ودقة وضع رئيسه كمطلوب للعدالة الدولية، تضطره لعدم ارتكاب عيلات قتل بأعداد أكبر، وإلا قد يجد نفسه مواجهاً بمصيرٍ مجهولٍ، لم يتحسب له بإقامة تحالفات دولية قوية وموثوقة، إذ لا يمكنه، إن فكر في البقاء، تكرار ما حدث في سبتمبر 2013 من قتلٍ بالمئات، فبعد أن نجحت جهوده الدبلوماسية في رفع العقوبات الأمريكية، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من تحقيق صيغة “الهبوط الناعم” التي تضمن إفلات البشير من العدالة الدولة، وربما بقاؤه لفترة على رأس حكومة وفاق وطني؛ فلا يمكنه التضحية بكل ذلك والمجازفة بارتكاب مجازر تنتهي بزواله.
قوات النظام تقتل كلما كانت الحشود كبيرة، وقد بدا واضحاً في التسجيل (المُسرَّب) لمدير جهاز الأمن والمخابرات، أنهم يعانون من فوبيا الحشود، فكلما كثر عدد المتظاهرين كلما تضعضعت ثقة عضوية الحزب الحاكم وحلفائه في الداخل والخارج فيه، واهتزَّت ثقة النظام في قدرته على الصمود.
(4)
من الشواهد التي تؤكد أن النظام استخدم أقصى ما لديه من قوة لقمع المظاهرات، استعانته، ولأول مرة، بالنساء العاملات في جهاز الأمن؛ فقد ذكرت إحدى المعتقلات أن إحدى عضوات الجهاز كانت تضرب المتظاهرات بوحشية وتجبرهنَّ، تحت التهديد، لترديد عبارة (تقعد بس)، في الماضي، يبدو أن النظام كان يستعين بهن فقط في المهام الإدراية، بيد أنه الآن اضطر لاستخدامهن كآلات تعذيب لمقابلة الأعداد المتزايدة من النساء والفتيات المعتقلات.
بالمحصِّلة، فإن النظام لا يملك أن يكون أعنف مما كان في الأسابيع الماضية، وأن أسطورة قوته الأمنية التي لا تقهر قد سَبَقَته لمزبلة التاريخ.