(الجريدة) تحاور دكتور كمال الجزولي المحامي والخبير الدولي والقيادي الشيوعي
نقطة الضعف في الدعوة للحوار الوطني من قبل الرئيس في أنها جاءت بشروط النظام
واهم من لا يرى في «الإقصاء الشكلي المؤقت» لعلي عثمان ونافع والجاز وبقية «الأبناء» «ثمن» مصالحة الترابي مع البشير.
لابد من إرادة سياسية كافية لقيام وضع انتقالي كامل، بما فيه الحكومة القومية الانتقالية، ومهامها
السلطة تحتجز منسوبي العدل والمساواة كرهائن ـ ليس معتقلين أو محكومين سياسيين
قرارات الرئيس (حبال بلا أبقار).. وحسن النية الذي بذله لا معنى له
الترابي يريد أن يرى خصومه الذين أطاحوا به في خواتيم تسعينات القرن المنصرم مسحوقين حتى آخر قطرة
لولا الوضع المعقد لحزب البشير بظهور تيارات معارضة لما فكر في الحوار الوطني
الصادق المهدي استيأس من حلفائه السابقين، ويريد أن يذهب ويخوض مغامرة وفاق مع البشير بعيداً عن صقوره بما يتسق ومزاجه السياسي
الحوار الوطني هو القاسم المشترك في دالة الحراك السياسي السوداني ما بين مؤيدين له ومعارضين وضعوا شروطاً للانخراط كعربون لتهيئة المناخ للحوار.. ومن المعارضين للحوار بدون إجراءات لتهيئة المناخ المحامي الخبير في القانون الدولي والمحلل السياسي، والقيادي بالحزب الشيوعي السوداني دكتور كمال الجزولي إلا أنه في هذا الحوار تحدث بلسان المحامي والمحلل السياسي، واعتبر نقطة الضعف في ادعوة للحوار الوطني هي أنه جاء بشروط النظام، وطالب في في حوار مطول مع (الجريدة)، طالب بضورة إلغاء القوانين المقيدة للحريات، وقال إنها تمثل سيفاً مشرعاً فوق الرؤوس وأيد دعوة د. غازي إلى ضرورة غل يد جهاز الأمن من الإشراف على النشاط السياسي، وقال إن السلطة تحتجز منسوبي العدل والمساواة كرهائن ـ ليس معتقلين أو محكومين سياسيين، ووصف عبارة وفقاً للقانون بأنها « تعبير بلاستيكي يحتمل الأمر وضده. وطالب الجزولي بإلغاء ماسمه الوضع التشريعي الشاذ الذي تمثله هذه القوانين الاستثنائي، ونعت قرارات الرئيس بأنها (حبال بلا أبقار)، وأن حسن النية الذي بذله لا معنى له. وقال: لابد من إرادة سياسية كافية لقيام وضع انتقالي كامل، بما فيه الحكومة القومية الانتقالية، ومهامها، ووصف تجاوب الترابي مع الحوار ليس إلا تطلعاً لأن يرى خصومه الذين أطاحوا به في خواتيم تسعينات القرن المنصرم مسحوقين حتى آخر قطرة، وقال الجزولي: واهم من لا يرى في «الإقصاء الشكلي المؤقت» لعلي عثمان ونافع والجاز وبقية «الأبناء» «ثمن» مصالحة الترابي مع البشير. وأضاف لو لا الوضع المعقد لحزب البشير بظهور تيارات معارضة لما فكر في الحوار الوطني، واعتبر الصادق المهدي استيأس من حلفائه السابقين، ويريد أن يذهب ويخوض مغامرة وفاق مع البشير بعيداً عن صقوره بما يتسق ومزاجه السياسي.
وتحدث الجزولي في قضايا عدة مرتبطة بالرهان السياسي.. فإلى مداخل الحوار.
حوار فاطمة غزالي: تصوير حواء رحمة
* ما هو تقييمك للحوار الوطني وقرارات رئيس الجمهورية في آخر لقاء مع قادة الأحزاب والتي أتبعها بقرار جمهوري لممارسة الأحزاب لنشاطاتها بحرية؟
ـ ابتداءً، من المفترض أن الدعوة للحوار الوطني تستبطن نية التوصل إلى مصالحة وطنية. ولا يبدو من اللائق لمن يدعى للحوار بنية المصالحة الوطنية أن يرفض قائلاً أفضل العراك الوطني! هذا طبعاً غير معقول. القاعدة هنا هي قبول الحوار المفضي للمصالحة متى توفرت شروطه الموضوعية. لكن نقطة الضعف في الدعوة الراهنة هو أنها معروضة بشروط النظام الذاتية، بمعنى أن النظام يدعو خصومه للحوار دون أن يتحمل استحقاقات هذه الدعوة.
* ما هي هذه الاستحقاقات؟
ـ إنها الاستحقاقات التي بحت حنجرة المعارضة من تكرار المطالبة بها تحت عنوان «تهيئة أجواء الحوار»، وتتلخص في اتخاذ ما يلزم من التدابير الابتدائية باتجاه وقف الحرب ومعالجة الأوضاع الإنسانية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وإلى ذلك إلغاء كل القوانين والمواد القانونية المقيدة لحريات التعبير والتنظيم، وإبداء الإرادة السياسية الكافية باتجاه قيام وضع انتقالي كامل، بما فيه الحكومة القومية الانتقالية، ومهامها المتمثلة في الدستور والانتخابات والعدالة الانتقالية، وإطلاق سراح ليس فقط المعتقلين السياسيين، وإنما أيضاً المحكومين لأسباب سياسية، خصوصاً محكومي حركة العدل والمساواة منذ 2008م.
* لكن الحكومة ومؤيديها يقولون إن هذه موضوعات للحوار وليست شروطاً لتهيئة أجوائه!
ـ حسناً! الحوار يعني المساومة والأخذ والعطاء.. فهل يعقل، مثلاً، أن يكون وقف الحرب، أو كفالة حق التعبير أو التنظيم، أو إلغاء القوانين المقيدة للحريات، خاضعاً للمساومة والأخذ والعطاء؟!
* في ما يتصل بالحرب.. الحكومة تقول إنها ترد على هجمات الحركات المسلحة؟
ـ ليس صحيحا ولا نريد أن ندخل في غلاط، فمن المعلوم لكل المراقبين أن الحكومة إذا وجدت أية فرصة للمبادأة بالهجوم فإنها لا تتردد، لأن استراتيجيتها الأساسية هي القضاء على الحركات. ولكن هذه الحركات ليست عصابات نهب، إنما تنظيمات تطرح بالسلاح مطالب ورؤى سياسية لم تتح لها وسيلة أنجع لتحقيقها، فعلى الحكومة إذن أن تتحمل مسؤوليتها تجاه عدم تيئيسها من جدوى الوسائل الأخرى بغرض إيقاف الحرب. أما القول إن الحكومة، كي تفعل ذلك، تحتاج للتفاوض، فيتطابق مع القول بأن الحكومة، لكي توقف قتل الناس، وتهديم مساكنهم، وتحطيم أدوات طعامهم، وسبل كسب عيشهم، وتشريدهم بين معسكرات اللجوء والنزوح، إنما تحتاج أولاً للتفاوض
* الإجراءات التي أعلن عنها الرئيس تشمل فعلياً الحريات السياسية والصحفية وإطلاق سراحالمعتقلين!
ـ «وفقاً للقانون».. علماً بأن القانون غير العدالة! تعبير «وفقاً للقانون» تعبير بلاستيكي يحتمل الأمر وضده، لكنني ألاحظ أن الكثير من الجهات الحزبية والصحفية التي تريد أن تقبل بطرح الرئيس تسقط ذكر هذا التعبير، للأسف، وكأنه غير موجود، على طريقة «ويل للمصلين»، وفي هذا خداع بائس للنفس! هذا التعبير يوحي شكلاً بضمان إطلاق الحريات لكنه عملياً يبقيها في أيدي الأجهزة الأمنية، إن شاءت منحتها وإن شاءت منعتها، على العكس من تعبير «وفقاً للتدابير القانونية السليمة ـ according to the due process of law» المستخدم في النصوص الدستورية الديموقراطية. ثم إن قرارات الرئيس لا تشمل وقف الحرب، ولا معالجة الأوضاع الإنسانية، كما ولا تشمل إلغاء القوانين المقيدة للحريات، أو إطلاق سراح المحكومين السياسيين، أو إبداء أية إرادة سياسية باتجاه حكومة قومية انتقالية، وما إليه.
* ومع ذلك فإن كثيراً من الأحزاب رحبت بهذه الإجراءات واعتبرتها كافية؟
ـ ذلك لأنهم أصلاً يريدون أن يرحبوا بها حتى لو جاءت أقل من ذلك! ودونك ترحيبهم بخطاب الرئيس في يناير الماضي رغم اتفاق أغلب المراقبين على أنه خطاب غير مفهوم! ما جرى بقاعة الصداقة في يناير وأبريل من هذا العام هي، في تقديري، أمور متفق عليها مسبقاً في الغرف المغلقة، ومن تحت الموائد! ومن وافق عليها فعل ذلك من باب العشم في تحقيق أجندة خاصة به وبحزبه، ولكنه سيكتشف عما قريب أنه اشترى الترام، وقبض الريح!
* تقول إن البعض استبشر بخطابات وقرارات الرئيس لأنه يريد ذلك بأجندات خاصة.. ما المقصود؟!
ـ أعتقد أن الصادق المهدي استيأس من حلفائه السابقين، وأضحى يريد، منذ زمن طويل، أن يذهب بطريق آخر، أن يخوض مغامرة وفاق مع البشير بعيداً عن صقوره بما يتسق ومزاجه السياسي.. لكنني أخشى أنه لم يحسب في هذا حساب رغبات أنصاره وقواعد وجماهير حزب الأمة، كما ولم يعتبر جيداً بعبرة تجربته السابقة في مصالحة نظام النميري عام 1977 ـ 1978م. لقد تململت جماهيره، يوم ذاك، من الدخول في تلك المصالحة، ثم لم تخف فرحتها بعد خروجه منها، فحملته على الأعناق، وهللت له، ومنحته أقصى تأييدها حتى الانتفاضة. إن أقل ما سينتج عن هذه المغامرة، إذا لم يتراجع الصادق عنها سريعاً كما فعل أواخر سبعينات القرن المنصرم، أن يقع انشقاق جديد في هذا الحزب العريق! أما الترابي فأهم أجندته أن يرى خصومه الذين أطاحوا به في خواتيم تسعينات القرن المنصرم، مسحوقين حتى آخر قطرة، ومن يعتقد أن للترابي الآن قضية سوى هذه واهم، وواهم أيضاً من لا يرى في «الإقصاء الشكلي المؤقت» لعلي عثمان ونافع والجاز وبقية «الأبناء» الذين تسببوا في عزله بعض «ثمن» مصالحته مع البشير، أو من لا يرى دوافع البشير لقبول تلك «الشروط» من أجل استعادة تحالفه مع «الكبير» في قلب أزمة الحراكات التي قادها داخل الحزب الحاكم مدنيون وعسكريون على رأسهم جماعة «سائحون»، وصلاح قوش، وود إبراهيم، ثم غازي العتباني، دع الطيب زين العابدين والتجاني عبد القادر وعبد الوهاب الأفندي وغيرهم كثر، جماعات وأفرادا! وربما لولا هذا الوضع المعقد لما فكر البشير أصلاً في مصالحة الترابي. وأما الميرغني فمن رابع المستحيلات أن يستمر في علاقة طيبة مع نظام تغضب عليه مصر والسعودية، ناهيك عن الإمارات وغيرها في الخليج! ولعل البيان الذي أصدره حزبه قبل أيام قلائل، بشروطه الصارمة، يمثل «زغاريد الزفة» لموقفه المتوقع، اللهم إلا إذا جدَّ جديد في علاقات مصر والسعودية مع النظام!
* كيف يكون الاستبشار بتلك القرارات قبضاً للريح، في حين تم مثلاً إطلاق سراح عدد من المعتقلين السياسيين فعلياً؟
ـ عدد منهم، وليسوا كلهم، كما ولم يشمل الإفراج، كما قلت لك، المحكومين السياسيين. وحتى الذين تم إطلاق سراحهم ليست ثمة ضمانات للحيلولة دون اعتقالهم مجدداً أو اعتقال غيرهم، وهو ما حدث بالفعل، حيث جرى اعتقال بعض منسوبي حزب غازي العتباني حتى قبل أن تتبدد أصداء كلمات الرئيس من فضاءات قاعة الصداقة! الاعتقال طاحونة لن يوقف جعجعتها سوى إلغاء القوانين الاستثنائية المقيدة للحريات!
* أصدر الرئيس لاحقاً أمراً أباح بموجبه حرية النشاط لجميع الأحزاب؟
ـ حرية العمل الحزبي ليست مما يُضمن بأوامر رئاسية، وإنما بعدم وجود أي قوانين تقيده، ابتداء من التسجيل نفسه الذي ينبغي أن يلغى ليحل محله الإخطار. ولقد رأينا، عملياً، كيف تعاني الأحزاب من مثل هذه القوانين والأجهزة التي تقوم على إنفاذها، والتي تمثل سيفاً مشرعاً فوق الرؤوس! نعم.. لا بد من إلغاء هذه القوانين، كما وأؤيد دعوة د. غازي إلى ضرورة غل يد جهاز الأمن من الإشراف على النشاط السياسي.. لا بد من فصل الأمن عن السياسة!
* ألا تعتبر أن موقف الحزب الشيوعي هذا يؤدي إلى عزلته ويجعله يغرد خارج السرب!
ـ الحزب الشيوعي يعتبر بالتاريخ، ولقد سبق أن سمعنا مثل هذا الكلام على أيام مصالحة النميري عامي 1977 ـ 1978م. وقتها رفض الشيوعيون، أيضاً، الانخراط في تلك المصالحة التي كان من شأنها فقط أن تطيل عمر نظام مايو، وبالمقابل طرحوا على الأحزاب الوطنية مقترحاً بديلاً هو تكوين «جبهة للديموقراطية وإنقاذ الوطن». ورغم أن تلك الخطة لم تجد رواجاً أول أمرها إلا أنها، مع الزمن، أثبتت سدادها، حيث خرج الناس زرافات ووحدانا، ما عدا الترابي ورهطه، من تلك المصالحة المايوية للتنسيق والتصعيد باتجاه الانتفاضة والإضراب السياسي والعصيان المدني.
* هل تتوقع تكرار ذات السيناريو؟
ـ ليس توقعاً من باب ضرب الرمل السياسي، ولكنني أؤكد لك من استقراء التاريخ أن الأزمة الوطنية الراهنة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، فلا بد أن تبلغ في النهاية إلى مآل محدد بالحوار، أو بالانقلاب، أو بالانتفاضة. القوى الغالبة متفقة على إقصاء خيار الانقلاب، رغم أنه وارد كما قد رأينا خلال الفترة الماضية! فإذا لم يستجيب النظام لمقتضيات الحوار، ستنفجر انتفاضة الجماهير، حسب دروس التاريخ، سلمية كانت أو مدعومة بعمل مسلح، وقد تفشل أكثر من مرة، لكنها ستنتصر حتماً في نهاية المطاف مهما بلغ حجم التضحيات. قبول النظام بالحوار وفق أشراطه الموضوعية سبيلاً للتسوية هو وحده ما سيخفف كثيراً من هذه الآلام العريضة المتوقعة.
* كأنك تقول إن قرارات الرئيس لا تغير شيئاً في المناخ السياسي؟
ـ نعم، ودعينا نعتبر بالتاريخ كما قلت لك. النميري أيضاً أباح وأتاح ومنح، ليس فقط بموجب قرارات، بل بنصوص دستوره «الدائم» لسنة 1972م، والدوام لله! لكنها كانت جميعها نصوصاً مقيدة بعبارة «وفق القانون» الركيكة، سيئة السمعة، والتي لولاها لكان ذلك الدستور من أفضل الدساتير في باب الحريات، غير أن تلك الصياغة صيَّرته ورقة رثة لا قيمة لها حتى لديكتاتورية الفرد المطلقة التي لا تحتاج أصلاً إلى دستور! إذن.. وما دامت قرارات الرئيس مقيدة بالقانون فإن تهيئة المناخ تكون هي والعدم سواء.
* أليس من الحكمة أن تمسك المعارضة بالقليل الذي وجدته، ثم تبني عليه؟
ـ لكن بماذا تمسك المعارضة؟! قرارات الرئيس (حبال بلا أبقار)، وحسن النية الذي بذله لا معنى له في وجود القوانين المقيدة للحريات. لا مناص أولاً من وقف الحرب، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، وإطلاق سراح المعتقلين والسجناء كافة، والتعهد بقبول الوضع الانتقالي والحكومة القومية الانتقالية، كي ندخل بعد ذلك وليس قبله في التفاوض حول بناء نظام سوداني مغاير.
* هل معنى هذا أن الحزب الشيوعي لن يقبل على الإطلاق بالحوار بناء على هذه القرارات؟
ـ أنا يا عزيزتي فاطمة لست ناطقاً باسم الحزب الشيوعي، وليس مخولاً لي أن أصرح نيابة عنه. أنا مجرد مراقب وكاتب ومحلل سياسي، وإن كنت من جهة أتمنى كشيوعي أن يظل حزبي ثابتاً على موقف واحد يعتبر هذه القرارات معيبة من حيث الشكل وغير كافية من حيث المضمون، ويضغط في سبيل تعديلها وتطويرها جذرياً، ويرفض، بالتالي، الدخول في أي ترتيبات للحوار بناءً عليها كونها بحالتها الراهنة غير مستجيبة لأي شرط من شروط الحوار أو التفاوض الجاد، كما أتمنى، من جهة أخرى، أن تتسق تصريحات قادة الحزب مع بعضها البعض حتى لا تربك قواعده وجماهيره، فبعض هذه التصريحات يوحي بالترحيب بتلك القرارات، لكن معظمها يذهب في اتجاه التعبير عن العكس.. الوضوح القاطع في مثل هذه الظروف واجب مقدم، سواء كنت على صواب أو خطأ!
* تقول: إذا لم يستجب النظام لمقتضيات الحوار، ستنفجر انتفاضة الجماهير، سلمية كانت أو مدعومة بعمل مسلح. فهل البيان المشترك الذي تم توقيعه مؤخراً بين فاروق أبو عيسى الأمين العام للإجماع الوطني وبين مالك عقار رئيس الجبهة الثورية هو بداية التنسيق للثورة؟
ـ أتمنى ذلك، إذ لا يعقل أن تبقى المعارضة مكتوفة الأيدي إلى الأبد ريثما ترسو خيارات النظام على بر! لقد تعودت المعارضة، في الغالب، على انتظار المبادأة من النظام لتصدر هي رد فعلها بعد ذلك. لكن ما فعله السيدان فاروق ومالك، على نفس طريق وثيقة «الفجر»، ليس كفراً، إنه من المبادآت النادرة، وفي الوقت الصحيح تماماً، حيث ألقت كلتا المعارضتين السلمية والمسلحة بالكرة في ملعب النظام بانتظار رؤية طريقته في التعامل معها. ومن أهم مقاصد البيان الاستعراض العلني للمستوى من التنسيق الذي يمكن أن تبلغه، موضوعياً، جبهتا المعارضة، وهو تنسيق سبق أن وصفناه، في مناسبات أخرى، خصوصاً من خلال تعليقنا على وثيقة «الفجر»، بأنه مطلوب على الأقل لأجل إدخال الجبهة المسلحة في المناخ السياسي. ودعونا نكون واضحين.. الاتفاق مع الجبهة الثورية لا يعني الاتفاق مع عدو خارجي، بل مع جهة وطنية من داخل السودان تمثل جزءاً من شعوبه ومن حراك المعارضة فيه. وكما تريد السلطة الآن أن يبرم معها تحالف الإجماع اتفاقاً، فإن من حق تحالف الإجماع أن يبرم اتفاقاً مع الجبهة الثورية يقنعها من خلاله بالمشاركة في العملية السياسية، علماً بأن واجب إقناع حاملي السلاح بتركه واعتماد استراتيجيات سياسية سلمية إنما يقع في المقام الأول على عاتق الحكومة، لأن الحكومة هي المالكة للسلاح، والمالكة للجيش، والمالكة لكل قوى العنف، فأنت لا تطلب المبادرة بالسلام من المستضعف، بل من القادر.
* ولكن حاملي السلاح لم يبدوا حتى الآن قبولهم بقرارات الرئيس رغم أنها تشمل ترتيباً يتيح لهم أن يحضروا ويحاوروا، ويضمن لهم إذا لم يصلوا إلى نتيجة أن يعودوا من حيث أتوا دون أن تتعرض لهم السلطة.
ـ وكيف لهم أن يطمئنوا لهذا الترتيب بينما لا تزال نفس السلطة تحتجز منهم رهائن ـ ولا أقول معتقلين أو محكومين سياسيين ـ وأعني بهم عناصر العدل والمساواة الذين ترفض السلطة إخلاء سبيلهم.
* لماذا وصفتهم بالرهائن .. لا بالمعتقلين أو المحكومين؟
ـ لأنهم يعيشون أوضاعاً غاية في الغرابة من الناحية القانونية.
* كيف؟
ـ لقد تمت محاكمتهم بموجب قانون الإرهاب، عام 2008م في إثر اقتحام قوات العدل والمساواة لأم درمان في 10 مايو من ذلك العام، وحكم عليهم بالإعدام، وزج بهم في سجن كوبر انتظاراً للتنفيذ، وقدمت استئنافات بشأنهم منذ ذلك التاريخ، لكن السيد رئيس القضاء لم يشكل حتى الآن، وعلى مدى ست سنوات، دائرة استئنافية خاصة بقضايا الإرهاب للنظر في تلك الاستئنافات كما يستوجب القانون، رغم الأوضاع القاسية التي يعاني منها المحكومون بالإعدام، عادة، في السجن، من تحديد للحركة، وقيود حديدية في الأرجل، وعزلة في زنازين انفرادية، وضغوط نفسية هائلة، ورغم القواعد الفقهية السماوية والوضعية التي تقضي بأن «العدالة المؤجلة إنكار للعدالة»، ورغم العديد من المذكرات التي تم تقديمه في بابا التنبيه لذلك! في الأثناء أبرم اتفاق إطاري في أنجمينا تمهيداً لمفاوضات الدوحة بين الحكومة وبين العدل والمساواة، وقضى بتبادل الإفراج عن الأسرى. وعلى حين أوفت العدل والمساواة بما يليها في الاتفاق، تقاعست الحكومة عن الإفراج سوى عن بعض محكومي العدل والمساواة، خارقة للاتفاق الدولي الذي سقطت بموجبه العقوبة عن جميع المحكومين، فالمسلمون عند شروطهم، ودينهم يلزمهم بأن يوفوا بالعهود. وهكذا لم يعد من لم يفرج عنهم، وفيهم د. عبد العزيز عشر الأخ غير الشقيق للمرحوم د. خليل إبراهيم، لا محكومين ولا معتقلين، ولم يعد ثمة وصف يليق بهم غير وصف الرهائن، وفي ذلك إخلال كبير جداً بالعدالة ترتعد له فرائص أي قانوني يحترم علمه ومهنته. ولعل من المفارقات المضحكة المبكية في هذا المقام أن أحد المحكومين الذين تمتعوا بقرار الإفراج ما لبث أن ظهر، بعد فترة قصيرة، كرئيس لوفد الحركة المفاوض بالدوحة، مما يعمق من غرابة وضع الذين لم يتم الإفراج عنهم!!
* إذا قامت الحكومة اليوم بإلغاء القوانين المقيدة للحريات فهل هناك قوانين بديلة؟
ـ ولماذا تكون هناك قوانين بديلة أصلاً؟!
* لا أعني بالطبع قوانين لقمع الحريات، بل قوانين تحكم التجاوزات، إذ لا يمكن أن يكون هناك فراغ قانوني.
ـ في القانون الجنائي ما يكفي لمعالجة أية حالة من هذه الحالات، وفي قانون الإجراءات الجنائية ما يكفي لتنظيم طرق وأساليب هذه المعالجة، وليست ثمة حاجة لقانون استثنائي خاص موضوعي أو إجرائي يقيد الحريات، أو يستبدل القمع بقمع آخر. المطلوب باختصار إلغاء الوضع التشريعي الشاذ الذي تمثله هذه القوانين الاستثنائية.
* أنت أحد الخبراء الذين وقع عليهم الاختيار للمشاركة في مفاوضات أديس أبابا بين الحكومة وبين الحركة الشعبية ـ قطاع الشمال.. فهل تتوقع الوصول لاتفاق؟
ـ أنا بطبيعة الحال أتمنى أن يتوصل الطرفان لاتفاق عادل، وبالتالي فمن واجبي أن أسخر مشاركتي كخبير في القانون الدولي للمساهمة في الدفع باتجاه مثل هذا الاتفاق.
* هل الأجواء مساعدة حقاً للوصول لمثل هذا الاتفاق بعد حديث الرئيس عن الحوار الوطني؟
ـ دعينا نتفاءل يا عزيزتي فاطمة بأن يتوصل الطرفان لاتفاق برغم كل المصاعب والمعيقات!
* هل تؤثر العلاقة بين الحركة الشعبية قطاع الشمال ودولة الجنوب على ملف التفاوض بين هذه الحركة وبين الحكومة؟
ـ لا أرى وجهاً للتأثير.. فبعد الانفصال لم تعد ثمة علاقة «عضوية» بين الحركة الشعبية الأم هناك في دولة الجنوب وبين الحركة الشعبية قطاع الشمال هنا في جمهورية السودان. لذا ليس ثمة معنى لأي وساوس حول تأثير كهذا.
* ولكن الجانب الحكومي درج على الغمز من طرف بوجود مثل هذه العلاقة.. فما مدى تأثير ذلك على مهمتك كخبير في التفاوض؟!
ـ رؤيتي لقطاع الشمال هو أنه فصيل سياسي سوداني في حالة نزاع مسلح مع حكومة البلاد، ومقدم الآن على التفاوض حول تسوية سلمية لهذا النزاع، وبهذا المعنى أتعامل معه، وقبلت الدعوة لكي أكون أحد خبرائه في التفاوض، مثله مثل حركة العدل والمساواة التي سبق أن رشحتني فقبلت تعييني من جانب الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لمعاونتها في التفاوض بالدوحة. هذه واجبات وطنية ألبيها كلما أمكنني ذلك.
* ألا ترى من ناحية أخرى أن من الصعوبة بمكان التوصل لاتفاق بين الحكومة وقطاع الشمال خصوصاً حول قضايا جنوب كردفان والنيل الأزرق؟
ـ أرى صعوبة، ولكنني لا أرى استحالة! المحك هو مدى توفر الإرادة السياسية لدى طرفي المشكلة، وتوفر الرغبة والنية الخالصة للمساعدة لدى الميسرين. على الجميع أن يتحلوا بالصبر، وبالاستعداد للحفر في الصخر.
* أبناء جبال النوبة يطالبون بخصوصية في تناول قضيتهم لكونهم دفعوا فاتورة إنسانية غالية.. ما رأيك؟
ـ أتفهم هذا تماماً.. مثلما أتفهم مطالبة قطاع الشمال بأن يبدأ التفاوض بالملف الإنساني.. فعندما يتعلق الأمر بحياة الناس وموتهم، وبمعاناة الأطفال والنساء والشيوخ، فليس مقبولاً أن نضيع الوقت في جرجرة الأقدام بين صفحات الملفات السياسية أو حتى الأمنية على أهميتها. لوقف موت الأطفال وترويع الآمنين والشيوخ لا بد من إيلاء الأولوية للملف الإنساني، حيث يجدر بالحكومة ألا تسمح لقطاع الشمال بأن يسجل في هذه الناحية نقطة انتصار أخلاقي على حسابها، وذلك بأن تثبت جديتها في الحدب على مواطنيها، قبل أن تثبت عزيمتها في منازلة خصومها!
* المجتمع الدولي اعترف بالجبهة الثورية ولكن ما يزال ملف الأزمة السودانية في حالة شتات ما بين قطاع الشمال وحركات دارفور.. أليس بإمكان المجتمع الدولي أن يلعب دوراً نحو توحيد ملفات التفاوض؟
ـ القضية ليست في ما يمكن أن يفعله المجتمع الدولي، بل في ما ينبغي أن نفعل نحن. هناك خصوصية لبعض القضايا، ولكن الحكومة هي التي فرضت منذ البداية وضع الأمور بهذا الشكل من التقسيم والتعامل بالمفرق. أنا أحد الذين سخروا أقلامهم منذ زمن بعيد للمناداة بأن توافق الحكومة على التعاطي مع كل قضايانا الوطنية كحزمة واحدة.. لكن هنا أيضاً يحتاج الأمر لإرادة سياسية قوية، على غرار ما جرى مثلاً في جنوب أفريقيا مطلع التسعينات من القرن الماضي. لقد أمكن فقط أخذ قضايا ذلك البلد حزمة واحدة، بمعنى سياق المعالجات الواحد المتسق، عندما اقتنع نظام الأقلية البيضاء، وتكونت لديه إرادة سياسية، بعدم جدوى تجزئة القضايا على تعقيدها، بما في ذلك وضع حد لسياسة الفصل العنصري، وانفراد البيض بالسلطة والثروة، وترتيبات مشروع العدالة الانتقالية. ولا يمكن لأحد أن يزعم أن قضايانا السودانية أكثر تعقيداً من قضايا جنوب أفريقيا.. فإذا وافقت الحكومة يمكن معالجة كل القضايا حزمة واحدة، وإلا فليس أمام الوسيط الأفريقي والدولي غير المضي فيها على هذا الحال من التجزئة.
* مواقف المجتمع الدولي من الوفاق الوطني مختلفة.. هل بإمكانه أن يلعب دوراً فاعلاً في تحقيق هذا الوفاق؟
ـ المقصود غالباً بدارج مصطلح المجتمع الدولي «الدول الغربية».. وهذه الدول لها «أجندات وطنية» خاصة تخدمها بأكثر مما يعنيها تحقيق وفاقنا الوطني الذي هو مسؤوليتنا نحن. ومعلوم أن من يسمح لهذه الدول بتكريس قضاياه في خدمة قضاياها هي لا يعود لديه الحق في أن يلومها على ذلك. لكن، مع أن تدويل قضايانا صار للأسف واقعاً لا مهرب منه، إلا أن أقصى ما نستطيع أن نحسن به صنعاً لأنفسنا، إن لم نستطع مناوءة هذا التدويل، هو أن نجعل المجتمع الدولي يدفع النظام باتجاه إدراك أن إثارة الحرب على مواطنيه وترويعهم طريق ليس فيه خير للأمن والسلم الدوليين باعتبارهما ضمن مسؤوليات هذا المجتمع الدولي.[/SIZE]