كان يوما بطعم السلام (فى ذكرى رحيل القائد المفكر د.جون قرنق)
ما زلت أذكر ذلك اليوم العظيم (السابع من يوليو 2005م ) والذى حدد يوما لمغادرة 1500 جندى من الحركة الشعبية بالجبهة الشرقية وهى القوى المنتخبةالتى ستشارك فى لواء قوامه ثلاثة الف جندى يكون من الحكومة والحركة الشعبية عبارة قوة منصوص عليها فى اتفاقية السلام على ان تكون عبارة عن لواء مشترك بالخرطوم للمشاركة فى احتفالات تنصيب النائب الاول وانشاء مؤسسة الرئاسة يوم 9/7/2005م. هكذا قال لى القائد / عبد العزيز ادم الحلو قائد القوة عندما سألته عن طبيعتها ومهامها.. تحركنا ضمن وفد من قيادات الحركة السياسية باسمرا يوم 5/7/2005م وصلنا الى مقر قيادة لواء
السودان الجديد ، كان فى استقبالنا القائد / عبد العزيز الحلو ومجموعة كبيرة من قيادات الحركة الشعبية بالجبهة الشرقية وبعد الترحيب جلسنا نتناول اطراف الحديث . فى بهو فناء الرئاسة (الحوش) كان الجو لطيفا ونسائم الوطن تنعش الحياة فينا ونحن على مرمى حجر من الاهل والاحباب … لم يكن الرجل متفائل كثيرا اى عبد العزيز الحلو … لم يكن متفائلا بالقدر الذى تتيحه معطيات تلك الايام … حكى لنا عن تجربة ذهابهم الى الخرطوم بعد توقيع اتفاقية السلام وكيف دخلوا الخرطوم فى الثانية صباحا بدلاً من الثانية ظهراً بعد ان رجع كل من كان يمكن ان يكون فى انتظارهم
بعد عودة كتب لها ان تكون بعد عشرون عاما وكيف لعبت السلطات الليبية دوراً فى ذلك وكيف عملت على تعطيل السفرية حتى بعد منتصف الليل، السلطات الليبية فى تلك الفترة والتى ظلت طوال عهدها تتأمر مع الانظمة الديكتاتورية ضد الشعب السودانى وأخرها الانقاذ التى تدعى اليوم أنها ساهمت فى إسقاط نظام القذافى.. ولكن برغم كل شىء كان الحلو كعادته قويا ، مرحاً … ومبتسماً . تناولنا العشاء وبعدها ذهبت الى البيت الذى يقيم فيه القائد / ياسر جعفر واسرته حيث كان يستضيفنى هذا البيت فى كل زياراتى الى الاراضى المحررة بالجبهة الشرقية ويمثل بالنسبة لى صفحة من
صفحات النضال وركناً من اركانها القصية برائحة الوطن وطعم الوطن وعيون الوطن، قضينا يومنا التالى فى الاعداد ليوم الغد، كان الفرح فى كل مكان
الفرح فى الاسر …..
الفرح فى الاطفال ….
الفرح فى الرفاق ..
فى حقائب العودة ….
وفى افواه البنادق التى باتت قريرة ….
وفى اليوم السابع من يونيو تحركنا فى الرابعة صباحا … كان الطريق يدفعنا وكأنه يختصر المسافات الى الوطن ويمنح القادمين البقاء … توجهنا الى الدفاعات الامامية لقوات لواء السودان الجديد، بقينا فيها حتى تكتمل تجهيزات الرحلة، كان يوما مغيماً كما نصفه نحن اهل السودان … تقاطر فيه على فترات متباعدة مطرا خفيفاً من النوع الذى نسميه بالرشاش .. لم تسطع الشمس بالقسوة التى نعرفها بها فى يوليو … وهكذا كان الجو طوال ساعات النهار تجولت كثيرا بين الجنود منهم من لم يرى الخرطوم قط ومنهم من يتوجس من الذهاب اليها .. ومنهم من يتشوق لذلك .. غير ان كل
هؤلاء يجمعهم شىء واحد وهو التوق الى السلام وبنائه، كما قضيت بعضاً من الوقت اتجول بين الاسر والاطفال … اطفال ولدوا على اصوات المدافع وحفرت ايامها وشماً على صدورهم وبحكم زياراتى المتكررة للاراضى المحررة كنت اعرفهم جميعا … لذا كان الحديث معهم يتخطى حواجز الاجيال ويقف على ابواب الفرح ومراسى الود فاحس احساسهم بطعم العودة .
وعند بوابة (شللوب ) الحدودية ودعتهم، كانت الساعة تجاوزت الرابعة قليلا .. وما زال الغمام يحجب عنا الشمس والرشاش يتقاطر علينا بين حين واخر، وفى طريق عودتى الى اسمرا ظللت استرجع تفاصيل تلك الرحلة وحلم الصبح يراودنى ذلك الحلم القديم بان نقشع الليل من الديار ونزرع الحب فى التراب ونبقى الزاد وعز الفخار هكذا كنا نردد ملحمة عيون الوطن ونحن طلاب بالجامعات المصرية ونرسم للوطن لوحة بلون البرتقال، بعد وصولى الى أسمرا تتبعت رحلتهم وكنت اتوق للحظات دخولهم ارض الوطن ووصولهم الى الخرطوم . كانت اول الاخبار هى استشهاد الرفيق معاوية وهم على مشارف
كسلا هزنى الخبر كثيرا ، معاوية ذلك الشاب الهادئ مريح القسمات والتعابير، رحل وكأنه ابى ان يعود الا ملتحفاً العلم الذى ناضل تحت رايته وبقايا ملابس تثقبها الطلقات، رحل ولم يتبقى سوى سويعات قليلة يرتمى بعدها بين احضان امه التى طال انتظارها سنوات بعد سنوات.. ولم يمضى الكثير الا وعلمت برحيل الرفيق داؤود ابو شنب ذلك المناضل الذى لا تفارق الابتسامة قسماته، .. ذهبوا وطعم العودة لم يتبين مذاقه بعد وكأنهم حملوا الموت فى حقائب السفر ورفضوا العيش فى قاع الزمان المنكسر ودائرة السلام المنقوصة مع شريك لا يعرف معنى السلام ولا يسمع غير طلقات
الرصاص، ظلّ ذلك اليوم وما زال يوماً بطعم السلام .. اكدت فيه الحركة الشعبية التزامها بتنفيذ بنود الاتفاقية وبالجدول الزمنى المحدد لها، وبدأ فيه الطرف الاخر ( المؤتمر الوطنى) تنصله من التنفيذ حيث ظلت هذه القوة تقف على مشارف كسلا ولم تدخل الى الخرطوم كما نصت عليه الاتفاقية للمشاركة فى احتفالات تنصيب النائب الاول وانشاء مؤسسة الرئاسة وتململ الجيش الشعبى الذى لا يعرف المهادنة وأنصاف الحلول، ولكن قابل د. جون قرنق العظيم ذلك الموقف بمزيدا من الحكمة والاصرار على الالتزام بالتنفيذ وفى التاريخ المحدد وذهب الى الخرطوم فى التاسع من يوليو
واستقبله الشعب السودانى إستقبال البطل المنتصر بأعداد زادت عن السبعة ملايين بالساحة الخضراء التى ستظل رمزاً من رموز ذلك البطل ولو كره الكافرون، وقام بأداء القسم فى موعده مفوتاً الفرصة على اعداء الحرية والسلام وأصبح النائب الاول.. وظلت القوة على مشارف كسلا حتى بعد ان استشهد دكتور جون فى الثلاثين من يوليو 2005م… وهكذا بدأت الحركة الشعبية مسيرتها فى رحلة السلام وبدأ المؤتمر الوطنى تنكره للحرية وللديمقراطية والسلام.. (نواصل ذكرى ذلك اليوم فى العدد القادم تحت عنوان: ( عبد العزيز الحلو.. رجل الحرب والسلام).. التحية لذكرى الرجل العظيم
دكتور جون فى ذكراه التاسعة، فاليرقد بسلام فرؤيته لا تموت الى أن يصبح الوطن حراً..