بقلم د. سعاد مصطفي الحاج موسي
2 سبتمبر 2019
منذ اندلاع الثورة في الخرطوم في 19 ديسمبر 2018 ظللنا نتابع قوي الحرية والتغيير التي ظهرت فجأة لتتصدر مشهد إدارة التظاهرات وتتحدث بإسمها مدعية أنها من بادرت الي اشعال شعلة الثورة وتحريكها ولمّا كان الناس جميعهم في همٍ هرمٍ لسحق الانقاذ وفلوله، سموها “رضينا” ولكن الكثيرون، خاصة من أبناء الهامش، تحفظوا منها وساورتهم الشكوك حول طبيعة تكوينها واتجاهاتها ومدي حياديتها ومصداقية عدم ارتباطها بفلول النظام البائد. وعندما ارتكب العسكر الجرم المشهود علي الثوار باعتصام القيادة وما تبعه من اتهام لقحت بأنها علمت بها مقدماً فاختفت عضويتها من الساحة ولم تحرك ساكناً لتنبيه الثوار، تأكد للمرتابين شكوكهم وقصمت الحادثة ظهر تلك الثقه المتذبذبة التي أولاها لها الناس تجاوزا فصاروا يرون في قحت جسماً إن لم يكن كله معلولاً فهو بلا جدال مخترقٌ من فلول النظام البائد والنخبة المركزية بشقيها الاثني والطائفي، تلك الشبهة التي لم تبذل قحت جهداً كافياً لنفيها ولم تكترث البتة لتقديم ما يخالف ذلك.
ولكن بالرغم من ذلك وكعادة أهل السودان تبادلوا المشاعر ولسان حالهم يقول “باركوها يا جماعة” و “العترة بتصلح المشية” ولم يشأ الناس خلق معركة اخري في وقت كانت الثورة في أمس الحاجة الي التلاحم الشعبي والتركيز حول اسقاط نظام الانقاذ كهدف أسمي أملا في أن تستقيم تلك المشية العرجاء بعد حين.
ولكن تأبي قوي الحرية والتغيير إلاّ وتكشف عن عواراتها التي حاول الحادبين علي مصلحة السودان تغطيتها بكل ما توفر من أقمشة الستر المحلية والمستوردة. وبينما لم تنجح قحت في إدارة الخلاف مع الجبهة الثورية واتجهت بدلا عن ذلك الي طعنهم في وطنيتهم واثارة النعرات العنصرية ضد كفاح أبناء الهامش، نجدها لا تألوا جهدا في المزيد من إقصاء أهل الهامش كما يتبدي في قوائم ترشيحات الحكومة المدنية التي تأزمت بأقرباء عضوية قحت وأنسبائهم وأصدقائهم. واذا تركنا حظ الرجال معهم جانباً وتلمسنا جانب النساء، نتعجب ونقف محتارين مما حدث ولا يزال يحدث أمام ناظرينا من حلقات اجهاض استحقاقات أهداف الثورة وشعاراتها.
عندما نقول نساء الهامش ونطالب بحقوقهن كاملة غير منقوصة، نعني بدايةً تمثيلهن علي المستويات الثلاث – السيادية والتنفيذية والتشريعية تمثيلا عادلا فاعلاً كريماً. والتمثيل العادل الفاعل يعني أنترد لنساء الهامش ملكية أصواتهن والتعبير عن قضايا مجتمعاتهن واسرهن التي لا يعرفها الكثيرين من المهيمنين علي مجريات الأحداث داخل قوي الحرية والتغيير من الوسط النيلي ويعزُ عليهم استدراكها. الدور القيادي المعتبر للمرأة في الهامش هو الذي يريد قوي الحرية والتغيير، عبر اقصاء نساء الهامش، التعتيم عليه واحباطه ومحاولة افهام الناس أن الهامش فقير من نساء ذوي قدرات ومعرفة وكفاءآت وأنه من واجب نساء الوسط القيام علي توجيههن وقيادتهن واستعمارهن كما كان يحدث منذ استقلال السودان.
ونقولها لكم داوياً يا قوي الحرية والتغيير بأن هذا الهامش لم يتم تهميشه الا بسبب الخوف من كفاءآت نسائه ورجاله ومقدراتهم ساعة السلم وساعة الحرب، وايمانهم بحقوقهم وواجباتهم، ولذلك قدموا الغالي والنفيس من الروح والراحة من أجل أن يعتدل ميزان الحكم والحقوق في دولة قامت منذ أول يومها علي ثقافة الاخضاع والرفض والاقصاء والعنصرية ولم تبادر أية قوة حزبية أو مجتمعية من عموم الوسط النيلي لتغيير دفة تلك السفينة المهلكة والهالكة لا محالة، نحو ضفة العدالة بل سارعوا الي سحق كل محاولة أتت من الهامش لترسيم حدود للتعامل الانساني الكريم ومهاجمتها ورميها بالتوصيف العنصري.
نساء الهامش في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق والأنقسنا وحتي الاقليم الشمالي والشرقي، هن من يعرفهن عالم حقوق الانسان بأجمعه لأن العالم لا يهتم بالمتعلمات الموظفات اللائي تمتلئ بهن المكاتب الحكومية في المدن والمنعمات هادئات البال من نساء النخبة قاطنات الفلل والعمارات الشاهقات، ولكنه يهتم بمن عانت ويلات الحرب تشريداً ونزوحاً ولجوءاً ومن لا تزال تقاسي وتتكبد المشاق والانتهاكات، ولم يرد الي علمنا أن نساء العاصمة قد عانين عدم صرف المرتبات لستة أشهر تباعا لأكثر من عشرة أعوام متلاحقة! أو أن إحداهن نامت علي قارعة الطريق مع أطفالها الأيتام بعد أن حرق الانقاذ قطيتهم وقتل أباهم واغتصب اختهم ذات العشرة ربيعاً! مثل هذه المرأة هي موضوع عطف واشفاق وتعاطف اجتماعي عليها من نساء بلدتها اللاتي تشاركنها المحنة والمعاناة، وهي موضوع للثأر الشخصي والمجتمعي لرجال القبيلة والحلة والاقليم حين تقاعست الدولة عن دورها الدستوري وأبدلتها بدور الجلاد القاهر القاتل المغتصب لعقود خلت منذ الاستقلال ولا يزال.
تلك المرأة تهم نساء العاصمة المثلثة المتعلمات بقدر ما يمكن تحصيله من استثمار حالتها وهالة الكآبة والحزن المسيطرة عليها، في جني فرص العمل والاستشارات من المنظمات الدولية والاقليمية التي تقيم مكاتبها الرئيسية بالعاصمة، فرص الاسترزاق بدعوي تنمية النساء وتدريبهن وتوعيتهن بحقوقهن وحقوق الانسان وليس اهتماما انسانياً لأنها واحدة منهن سودانية مصابها مصابهن وقضيتها قضيتهن. وفي ذات الوقت نجد المنظمات العالمية التي أقامت مكاتبها في مناطق الهامش وظفت انسان الهامش وسلمته القياد وقيادة العمل الانساني والتنموي تحديداً وتخطيطاً وتنفيذاً ومتابعة وتقييم، وقدمت الكثير المثير المقدر من المعروف والعطايا الانسانية بلا منٍ ولا أذي، وانتشلت الضحايا وقت الحاجة من الجوع والبرد والمرض والحرمان والتشرد والسكني تحت ظلال الأشجار بعد أن وفرت لهم الماء والمأوي والعلاج ووجبة الافطار، ونجحت في رفع مستوي الوعي لديهم بالحقوق فصاروا أكثر إلماماً ببنود المواثيق الدولية لحقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق الانسان من عموم نساء السودان، مثلما صاروا أكثر معاناة من انتهاكات حكومات النخب المركزية لانسانيتهم وحقوقهم. أما المستشارين من قاطني العاصمة أمثال مدني عباس مدني فلم نجد لحضورهم المكثف أثراً يذكر في شوارع ورواكيب النازحات وكهوفهن وخيامهن المتهالكة!
فلماذا لا تمثل نساء الهامش في مجلس السيادة؟ ولماذا لا نري في ترشيحات مجلس الوزراء، والتي لا تزال تتأرجح في مرجيحة د. حمدوك، من أسماء تنتمي الي الهامش يا قوي الحرية والتغيير؟ فنساء مجلس السيادة الحالي ليست لهن علاقة بقضايا نساء الهامش وأحوالهن ولا يُعقل ولا يُقبل أن تخلو صفحة الترشيحات والتعيينات الوزارية أيضاً من نساء الهامش! فشكر ضحايا الهامش أيها الأصم لا معني له وهن ملقيات خارج منظومة الحكم الذي أتت به الثورة.
كلما حاولنا أن نحسن الظن بقحت ترتد الينا ثقتنا مهرولة ويبدو أن قحت تحاول حكم السودان أو لنقلها صراحة “حكم الهامش” بالريموت وتظن انّها الآمر الناهي في كل ما يخص مستقبله. ولكم نقول أن الهامش هو أرض الثوار والثورات وصانعيها، وأنه ليس هنالك أكثر سوءاً مما حدث لانسان الهامش منذ الاستقلال وهو ما فتئ يكافح من أجل الاصلاح السياسي والسلام والعدالة الاجتماعية والذي لا تظهر بوادر نضجها الي الآن، وأن المرأة في الهامش ليست هي تلك المغفل السطحي الذي تتصورونه، أو مثالا للتخلف والجهل والمرض وفقدان الارادة والاستسلام والخنوع والخضوع للظلم. فما لا تعرفه قوي الحرية والتغيير، وخاصة النساء العضوات في لجانه ذات العضوية الغامضة والمنهج المتعسر، أن الهامش بهامشيته وتظلماته به من النساء من لهن من المؤهلات والدراية والكفاءآت تقارع بل وتتفوق في الكثير من الأحايين علي نظيراتهن بالسودان وخارجه، ولهن إلمام وباع طويل في مخاطبة مشاكل مجتمعاتهن لا تتوفر لنساء من خارج حدودهن الجغرافية.
لا نريدكم قوي الحرية والتغيير أن تختلقوا معركة بين نساء الهامش ونساء المركز فقد شرب نساء وأُسر الهامش من كأس القهر المر واختزال ثقافاتهم المحلية واستخدامهم أدوات للكسب والاستغناء من رموز من داخل الوطن وخارجه، وآن الأوان لاسترداد الحقوق والكرامة وامتلاك القرار في تسيير الشأن الاجتماعي والتنموي والمحافظة علي الارث الثقافي والاجتماعي وتطويره استحقاقاً للثمن الذي سلف دفعه باهظاً. فنساء الهامش هن الأحق بالتمثيل والحضور في كل مؤسسات الحكم الانتقالي وهو استحقاق لما ظللن يسهمن به في تثبيت اقتصاد الدولة ومراعاة لمعاناتهن وصبرهن علي ما جنته النخب المركزية الحاكمة في حرمانهن من كل حقوق التنمية الانسانية، وعلي قوي الحرية تصويب هذا الخطأ الاستراتيجي ورد الحقوق الي أصحابها بالتمثيل العادل.