عندما أصدرت هيئة التحكيم الدولية قرارها حول منطقة أبيي السودانية المتنازع على حدودها بين قبيلة المسيرية العربية المسنودة من حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وقبيلة الدينكا نقوك الأفريقية المسنودة من الحركة الشعبية الشريك الثاني في حكومة الخرطوم، سارع الطرفان وسنداهما بإعلانهما قبول الحكم والالتزام بتنفيذه، وساعتها لم يعل صوت مخالف غير صوت القاضي الأردني الجنسية عون الخصاونة عضو هيئة التحكيم الذي أصدر مذكرة من 70 صفحة أوضح فيها معارضته للحكم. وقال الخواصنة إن القرار توفيقي غير مقنع بني على أسس واهية تفتقر إلى الدقة في تحديد الحدود، مبينا أن قبيلة المسيرية لم تنصف إنصافا كاملا، مشددا على إن كان غرض القرار بناء سلام في المنطقة، فإن السلام الذي لا يقوم على العدل لا يمكن الحفاظ عليه.
والجدير بالذكر أن هيئة التحكيم الدولية في قضية أبيي تتكون من البروفسور بيار ماري دوبري «فرنسي»، والبروفسور غيرهارد هافنر «نمساوي»، والبروفسور ميخائيل رايزمان «أميركي»، والقاضي استيفان شوبيل «أميركي». «الشرق الأوسط» أجرت في فيينا حوارا مع قاضي محكمة العدل الدولية وعضو هيئة التحكيم في قضية أبيي، عون الخصاونة، الذي أجاب على مطلق الأسئلة التي تتعلق بمهمته كقاض، متحفظا على أسئلة أخرى اعتبرها سياسية تخص طرفي النزاع خارج حدود مهامه. وفي ما يلي نص الحوار:
* نبدأ بالسؤال العريض بحثا عن أقوى النقاط التي دفعت بكم لإصدار رأي خاص جاء في 70 صفحة تنتقدون فيه قرار التحكيم.. ومن ذلك وصفكم لرأي الأكثرية بأنه غير مقنع!! ليس ذلك فحسب بل وصفتم القرار بأنه أوهى من بيت العنكبوت. يفتقر إلى الدقة في تحديد الحدود، وانه صفعة لعلم تحديد الحدود..!! كما وصفتم المحكمة بأنها تنازلت عن مسؤوليتها بادعائها ضيق صلاحياتها، مشيرين إلى أنها بذلك ضيعت فرصة للمساعدة في إحلال السلام باتخاذها لحل وسط توفيقي.. لماذا كل هذا؟
– لقد أوضحت في رأيي المخالف لرأي الأكثرية أن الأساس القانوني، والمنطقي لقرار هيئة التحكيم غير متين ولا مقنع. لقد وصفته مستشهدا ببيت شعر لحافظ الشيرازي «بأنه قصر من الأماني مبني على الرمال» ومرد هذا رغبة الأكثرية في تحقيق 3 أهداف متناقضة أولها: تحصين تقرير لجنة الخبراء من الأبطال. ولهذا استندت الأكثرية إلى أن اختصاص الهيئة ضيق يقتصر على التأكد من أن الخبراء لم يتجاوزوا حدود مرجعيتهم والنظر فيما إذا كان الخبراء قد ارتكبوا أخطاء جسيمة في تحديد الحدود، وقد بني قرار هيئة التحكيم كله على هذا الأساس، فاقترحت الهيئة أن الخبراء أولى بتقدير الوقائع، وانه لا مجال للطعن في قراراتهم حتى ولو شكلت خطأ جسيما وأنه كان لديهم مساحة واسعة من الحرية في تفسير مرجعيتهم وغير ذلك من الأمور التقنية التي لا مجال للبحث فيها بشكل مفصل.
من جهة ثانية، قررت الأكثرية ولأسباب تتعلق بالوصول إلى حلول وسط أن تبطل قسما من نتائج تقرير لجنة الخبراء فأبطلت الحدود الشرقية والغربية لمنطقة أبيي كما حددها الخبراء. وأبطلت كذلك الحدود الشمالية التي كانت على خط 10 درجات و 22 دقيقة شمالا واستبدلته بخط العرض 10 درجات و10 دقائق شمالا والذي لم يكن الحدود الشمالية لمنطقة ابيي في تقرير الخبراء وإنما حدود المنطقة التي كان فيها للدينكا نقوك «حقوق أساسية».
بعبارة أخرى قامت الهيئة ببناء قراراتها على تحصين تقرير الخبراء ثم قامت بإبطال جزئي لذلك التقرير، فوقعت في تناقض أساسي إذ أن اختصاصها لا يسمح لها بالإبطال الجزئي، فإما أن تقوم بتأكيد التقرير ككل أو أن تبطله ككل وتقوم بنفسها عند ذلك بتحديد الحدود على أسس متينة من الوثائق والمستندات وغيرها.
من جهة ثالثة، قامت الهيئة بتحديد حدود بديلة أخرجت بموجبها حقول النفط في منطقة هجليج والمنطقة الواقعة بين خط العرض 10 درجات شمالا و22 دقيقة شمالا وخط العرض 10 درجات و10 دقائق شمالا. لكن المشكلة أن الحدود الجديدة ضمت مساحات شاسعة لم يكن فيها للدينكا نقوك وجود عام 1905 ولا حتى عام 1965. بعبارة أخرى قامت الهيئة بإبطال جزئي لخطوط الخبراء مستندة إلى أنها لم تكن مدعمة بالأسانيد والتسبب القانوني. وان قرار الهيئة المتعلق بتحديد الحدود قائم كله على مصدر واحد هو ما كتبه هاول الموظف البريطاني عام 1951 ومفاده أن الدينكا نقوك يعيشون تغريبا بين خطي الطول 29 درجة شرقا وخط طول 27 درجة و50 دقيقة. ولكن هاول لم يقل أبدا إن امتداده الشمالي يصل إلى خط العرض 10 درجات و10 دقائق شمالا بل على العكس قال في كتاباته إن النقوك يعيشون على (أواسط نهر العرب ورقبة أم بيرو والرقبة الزرقاء) وهذه كلها لا تصل إلى خط العرض 10 شمالا. ومن هنا فإن الأساس الذي أقامت عليه تحديد الحدود هو صفعة لعلم تحديد الحدود. ولم أسمع خلال فترة من العمل الدبلوماسي والقضائي بتحديد مثل هذا التحديد. الأسوأ من هذا أن هذه المناطق خاصة شمال وشرق الرقبة الزرقاء هي أراضي المسيرية، وحتى جنوب تلك المنطقة فقد أشرك الدينكا نقوك المسيرية فيها. وتقرير الخبراء يتابعه في ذلك قرار هيئة التحكيم، لا يأخذ وجودهم اعتبارا، إذ انه يعتبرهم مجرد بدو رحل لهم حقوق ثانوية في الأرض وهذا ما لا أستطيع أن أقبله.
* كيف تصفون وقوفكم مخالفين لرأي الأكثرية بما فيهم القاضي النمساوي الذي اختارته وإياكم حكومة السودان لتمثيلها؟
– أكن الاحترام لآراء الأكثرية بما فيهم القاضي النمساوي البروفسور هافنر وهم جميعا، بالمناسبة، من أشهر القانونيين في العالم، لكنني اختلف معهم في وجهة نظرهم اختلافا جذريا. ولا يضرني أن أكون في قلة أو أن أكون وحيدا.
* ما هو تفسيركم «إذن» لرد الفعل الإيجابي المباشر الذي قابل به الطرفان الحكم معلنين قبوله معلقين (لا غالب أو مغلوب).. مما أثر كثيرا في تخفيف درجة الاحتقان والترقب التي كان من الممكن أن تؤدي لاندلاع صراع مسلح في المنطقة وما ذلك بغريب عليها؟
– الطرفان أدرى مني بما فيه مصلحتهما وخيرهما. ولست في مجال تقييم ردود الفعل لديهما ولا أرجو أن يندلع صراع مسلح في هذه المنطقة التي طالما عانى سكانها على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم. وفي الوقت نفسه فإنني أعتقد أن السلام يجب أن يبنى على العدل وإذا لم يكن هناك عدل نحو طرف أساسي، هم قبائل المسيرية، مما قد يؤدي في المستقبل إلى حرمانهم من حقوقهم وهي أكثر من حقوق الرعي فلست أرى كيف يمكن في المدى الطويل الحفاظ على السلم.
* هل فاجأكم اختيار حكومة السودان لشخصكم لتمثيلها؟
– لم يفاجئني أبدا ما تطلبه مني دول خاصة في العالم العربي والإسلامي مشورة حول أمور مهمة لديها فأقوم بذلك حسب ما يقتضيه موقعي كقاض في محكمة العدل الدولية. وأنا شاكر لحكومة السودان ثقتها بي.
* كيف كان شعوركم وسيادتكم الطرف العربي الوحيد الذي شارك في القضية.. وهل أثر ذلك في أحاسيسكم تجاه المسيرية؟ وهل اعترت سيادتكم خشية أو قلق من شبهة اتهامكم بالانحياز؟
– إن الإنسان يجب أن يكون شجاعا في الحق، وان ديننا وتراثنا يطلبان أن نكون عادلين مع الناس كافة بمن فيهم العرب والمسلمين.
لم أقبل التمييز ليس لكوني عربيا بل لأن التمييز لا أساس له في القانون بل العكس فإن الاتجاه السائد في القانون هو عدم التمييز. وقد أقرت محكمة العدل الدولية بحقوق القبائل الرحالة في الصحراء الغربية، وكذلك فيما يتعلق بالمجموعات الراحلة في جزر ماليزيا وأقرته محاكم أخرى كمحكمة استراليا العليا عندما قالت إن لسكان استراليا الأصليين حقوقا أساسية. والبشر متساوون ولا يجوز أن نرضى للعرب بأقل مما يمنحه القانون لغيرهم من الأمم. لقد كان هذا من أهم الأسباب التي دعتني للمعارضة.
* ما هو القرار الذي كان سيكون الأمثل في نظركم؟
– لقد أوضحت في الرأي المخالف أن تقرير الخبراء كان يجب إبطاله وان أراضي الدينكا التسعة التي نقلت إلى دارفور عام 1905 تقع ضمن بحر العرب. وهنا أضيف أن السؤال الذي وجه إلى الخبراء لم يكن عادلا إذ أن دينكا نقوك كانوا إلى شمال نهر العرب وعلى النهر نفسه عام 1905 إنما لم يكونوا في المناطق التي أعطيت لهم بموجب تقرير الخبراء، وحتى المناطق التي أعطيت لهم من قبل هيئة التحكيم. أما بالنسبة للأمثل فهو ألا تقسم المنطقة على أساس قبلي وأكثر ما يدعو للحزن أن الدينكا نقوك والمسيرية الذين شاركوا في جلسات الهيئة كانوا يتصرفون كالإخوان.
* هل هناك تناقض في قبول حكومة السودان بتحكيم محكمة التحكيم الدولية بلاهاي والإعلان بالالتزام بحكمها حول أبيي فيما ترفض في ذات الوقت الانصياع للمحكمة الجنائية الدولية وقرارات المدعي العام لويس مورينو أوكامبو؟
– لا تناقض بين الموقفين، إذ أن السودان قبل الذهاب إلى هيئة التحكيم برضاه ومحكمة الجنايات الدولية ليس طرفا فيها.
* ماذا تملك هيئة التحكيم من صلاحيات لإلزام الطرفين بعدم التراجع عن الحكم؟
– لا تملك الهيئة أي صلاحيات لتنفيذ قراراتها وهناك أمثلة كثيرة على قرارات صادرة عن هيئات تحكيم لم تنفذ. ولكن ما يسمى بالمجتمع الدولي قد يلجأ إلى تصعيد الضغوط على الطرفين لتنفيذ قرار المحكمة.
* ما رأي سيادتكم في استحالة المعادلة بين ترسيم الحدود من دون الوقوع في خطأ سياسي بنقل القبائل على أسس عرقية إلى مديرية أخرى؟
– إذا كان المقصود بالسؤال ما حدث عام 1905 فالطرفان يقران أنه تم نقل جماعي للسكان «الدينكا نقوك»، أما إذا كان السؤال عاما فقد سبق لي أن قدمت تقريرا من 3 أجزاء إلى الأمم المتحدة بين عامي 1992 – 1995 حول النقل القسري للسكان، واعتقد أن القانون الدولي بشكله الحالي ونتيجة لأفكار حقوق الإنسان لا يسمح بذلك.
* هل تعتبر قضية أبيي سابقة بوقوف حكومة مركزية ضد حكومة إقليمية؟
– لا أستطيع الإجابة بشكل دقيق عن هذا السؤال من دون استعراض السوابق جميعا، وإن كنت أعتقد أن هناك كثيرا من التشابه مع قضية تيمور الشرقية.
* كيف تقيمون تجربة عملكم في قضية أبيي مقارنة بتجاربكم القضائية السابقة؟
– لم أكتب خلال عمل استمر لأكثر من 10 سنوات في محكمة العدل الدولية ولنحو 35 عاما من العمل الدبلوماسي رأيا كانت فيه بعض التعابير القاسية كما كانت تعابيري حول هذا القرار. ما يدل على معارضتي لهذا القرار وللأسباب التي بني عليها.
محطات من السيرة الذاتية للقاضي عون الخصاونة: أردني الجنسية.
تخرج في جامعة كمبردج، حيث نال درجة البكالوريوس في التاريخ والقانون، بالإضافة للماجستير في القانون الدولي.
عمل كدبلوماسي بوزارة الخارجية، وفي الفترة من 1980 إلى 1985 كان مسؤولا عن القانون الدولي والمنظمات الدولية.
عمل بالديوان الملكي، وفي الفترة من 1991 إلى 1994، كان عضوا بالوفد الأردني لمفاوضات السلام.
ما بين 1996 و1998 كان رئيسا للديوان الملكي.
عام 1999 تم انتخابه قاضيا بمحكمة العدل الدولية، وهذا الانتخاب يتم من قبل الجمعية العمومية للأمم المتحدة ومجلس الأمن، ثم أعيد انتخابه العام الماضي لدورة ثانية «9 سنوات».
بثينة عبد الرحمن
الشرق الاوسط