قراءة لظاهرة انسلاخ بعض قيادات التمرد
عندما يطول عمر النضال يفعل الزمن مفعوله فى بعض القيادات :
دعونى ابدا بالاعتراف بان قيادات الحركات المسلحة – و فى دارفور بصورة خاصة صارت تمثل اشكالية فى نضال المهمشين – بل تصنف بانها تمثل (نقطة ضعف) فى ثورة المهمشين خاصة عندما تجلت هذه الاشكلية فى شكل تشرزم الحركات وانقساماتها – حتى اصبحت ظاهرة مقلقة لدرجة الاشفاق من قطاعات عريضة من الشعب السودانى ممن يعلقون امالا عريضة على العمل المسلح وذلك فى ضوء امتصاص الشارع العاصمى لحمى زيادة اسعار المحروقات وارتفاع الاسعار مما نتج عنه (موجة جديدة من الهجرة هروبا من البلد) ولعل الهدف من هذا المقال هو منح القارئ الكريم تفسيرا (وليس تبرير) لهذه الظاهرة – الانسلاخ — خاصة حينما يتعلق الامر بحركة العدل والمساواة التى اتشرف بالانتماء اليها وذلك حسب القراءة التالية:
اولا: يلزمنى ان اوضح للقارئ ان هذا المقال ليس الغرض منه باى حال من الاحوال المساس باشخاص القيادات المنسلخة من الحركة او ممارسة اى شكل من اشكال اغتيال الشخصية لها — فهذه الامور ممنوعة فى ادبيات حركة العدل والمساواة — وانما الهدف هو اعطاء تفسير حقيقى لظاهرة انسلاخ بعض قيادات التمرد .
ثانيا : العمل فى الحركات الاسلحة هو نشاط طوعى يعمل فيه (المقاتل من اجل الحرية) بدون راتب شهرى – خلافا للجندى المحترف فى الجيش وخلافا ايضا لمقاتل الدفاع الشعبى الذى يتلقى مكافات مالية من الدولة – وله منظمات ترعاه هو وترعى اسرة الشهيد.
ثالثا : عندما يطول عمر النضال المسلح يفعل الزمن مفعوله فى كل عناصر ( القضية) ولكن بشكل متفاوت — ويلزمنا فى هذا المقام ان نوضح ان القضية لها اركان تتمثل فى (اطراف الخصومة – واسباب القضية – وطلبات الخصوم) – وكذلك القضية لها (اثار) تتمثل فى النزوح واللجؤ – الخ – وشاهدنا ان الزمن يفعل مفعوله فى (أطراف القضية وفى الطلبات وفى اثار القضية ) ولكن اسباب القضية عادة لا تتغير الا من سئ الى اسوا — وذلك لشئ بديهى هو ان الحرب تفاقم من اسباب (المشكلة) التى تتمثل فى (التهميش) و التوزيع غير العادل للثروة وللسلطة – الخ مما ينتج عنه عادة مزيد من الفقر والبؤس
رابعا : طول امد الحرب يجعل القيادات (تشيخ) – ويصيبها الفتور:
1- عندما يطول امد الحرب ليصل الى عقد من الزمان – وتنسد افاق السلام والمفاوضات الى اشعار اخر—هنا — (يدخل الغتور فى النفوس وتشيخ) – والحق يقال — الناس لها ظروف مقدرة – فعلى سبيل المثال لا الحصر – فان من حق الانسان المناضل – الذى قاتل – واسر – وحوكم بالاعدام وافرج عنه ان يتزوج وينجب وتكون له اسرة – ولكن هذا يجب الا يكون (على حساب القضية) – فى شئ اسمه (استراحة محارب) – وفى الثقافة العربية قبل الاسلام توجد ثقاة الاشهر الحرم — لا قتال فيها بين الاعداء – وهى فترة راحة من القتال بغرض السماح للمحارب ان ينتج كل حسب مهنته وحرفته – وقد اقر الاسلام هذه الثقافة – فما احوجنا لهذه الثقافة خاصة وان حروب الهامش تدور حوالى مناطق السافنا ومناطق الانتاج الزراعى والحيوانى.
2 – القتال والنضال فى صفوف حركات المهمشين هو عمل وطنى وليس (بزنيس) – وبالتالى اذا قرر العضو لاسباب ذاتية تخصه ان ياخذ (استراحة محارب) – فليس من حقه ان ياخذ نصيبه (عيننا) من اموال الحركة — كأن ياخذ القائد المنسلخ (خمشة اى كمية) سيارات ويهرب بها – وذلك لان الحركة ليست (شركة) يقبض منها الشريك المنسحب قيمة حصته من اصول الشركة عينا او نقدا – وانما هى مؤسسة وطنية ملك للشعب السودانى .
3- كذلك لا يجوز للقائد الراغب فى الاستراحة ان يبيع نفسة لحكومة المؤتمر الوطنى ويقبض منها ثمن نضاله ( على حساب القضية) وسمعة الحركة. معلوم ان حروب التحرير تاخذ زمنا طويلا قد يمتد الى اربعة اجيال (كل جيل بواقع10 سنوات— بمايعادل 40 سنة) – المطلوب فى هذه الحالة من كل جيل ادى ضريبته الوطنية (تسليم الراية) للجيل الذى يليه – ليتراكم النضال حتى التحرير – لتتكامل جهود (جيل البطولات) بجهود (جيل التضحيات) — حتى جيل النصر.
4- عندما يقرر القائد المنسلخ بيع نفسه للمؤمر الوطنى فان عملية الييع تتم وفقا لشروط امن الحكومة – ووفقا لتفاصيل و( اخراج) جهاز الامن – وما يريده جهاز الامن هو ان يسجل انتصارات وهمية لنفسه امام الحكومة والراى العام بانه قادر على اختراق الحركات – وكذلك يريد مادة يضلل بها الراى العام ويملا بها العناوين الرئيسة للصحف بالاعلان عن انقلاب وعزل رئيس حركة – فجهاز الامن يدرك تماما ان الانقلاب فى (الميدان) يختلف تماما عن الانقلاب فى الخرطوم – فالانقلاب فى الخرطوم يعنى فقط ان تسيطر على (اماكن) لها رمزية مثل القيادة العامة والمطار والاذاعة والتلفزيون – واذاعة ( بيان) مسجل – وتامين الكبارى – وفرض حظر التجول – اما فى الميدان فلا عبرة بالمكان – فلا انقلاب ولا يكن عزل لرئيس الحركة الا بعتقاله.
5- مكابر من يعتقد ان الحركات وقياداتها بلا عيوب — ولكن يجب ان نميز بين قائد (فتر من النضال) ويريد ان يقبض ثمن نضاله من الحكومة او دولة مجاورة تتربص بالحركة لتقبض هى الاخرى الثمن من حكومة الخرطوم – وبين فرد او مجموعة (تريد الاصلاح) — فالقائد الذى يريد الاصلاح لا يتوجه للحكومة – وانما يطرح برنامجه الاصلاحى عبر مؤسسات الحركة – وفى مطلق الاحوال لا يتوجه للعدو وانما يتجه لتاسيس حركة جديدة لتحقيق اهداف القضية – او يتجه للحركات الاخرى التى تعمل على تحقيق ذات الاهداف .
6- المشروع الاصلاحى الجدير بالذكر فى هذا المقام هو ( مذكرة السبعة ) بقيادة د ادريس ازرق – وانا هنا احييه انى كان واحى رفاقه – وذلك عملا من طرفى باحكام النظام الاساسى للحركة – واستلهاما لقيم الحركة وميثاق الشرف الذى تواثقت عليه الحركة –واقول اننا اخطانا جميعا بشان فكرة الاصلاح من الداخل – وفى التعامل مع مذكرة السبعة – واى بيان لاحق فى هذه المقال ليس القصد منه سحب هذا الاعتراف وانما تمليك القارئ للمعلومات وتمليك تجاربنا للاخرين – والشاطر من يتعلم من تجارب غيره – فالحركة وتجاربها ملك للشعب السودانى — ولمزيد من البيان اضيف النقاط التالية:
(أ) اخطا اصحاب المذكرة زمانا وتوقيتا حيث تم طرحها فى وقت كانت القيدة مشغولة بالفاوضاة و (بالقضية ) نفسها – كما اخطاوا فى (الاخراج) حيث تم نشر المذكرة للاعلام وللجمهور قبل مداولتها ومناقشتها داخل مؤسسات الحركة .
(ب) فى تقدبرى اخطات قيادات الحركة فى معالجة (ملف مذكرة السبعة) حين اختارت اقصر الطرق (الفصل) و(البتر) – ومرجعية الخطا — حسب تقديرى المتواضع- هى ان اعضاء الحركة وقياداتها – وان انتقدونا – هم (اكبادنا يمشون) – فالانسان لا يستاصل كبدته الا فى حالة الياس ومجموعة السبعة من الرجال الذين ستظل الحركة تعتز بهم .
(ج) الذين كتبوا مذكرة السبعة كانوا يعيشون فى اوروبا ومن ثم فان رؤيتهم (للمؤسسية) مستمدة من منظور (مدنى — ملكى ) – ومن هذا المنطلق فان لديهم (قضية) جديرة بالبحث وذلك بغض النظر عن نتائج التدقيق والبحث فى فحوى المذكرة.
(د) المجموعة التى نظرت فى المذكرة ممن هم حول الرئيس — وقررت بتر اصحاب المذكرة نظرت للموضوع من مرجعية (الميدان) — من منظور اننا فى حركة مسلحة – وان هذه المذكرة هى مشروع انقلاب – الخ – هذه المجموعة رايها له وجاهته – ولكن ذلك لا يعنى انه الراى الصائب او القرار المثالى – وفى مطلق الاحوال القرارات يحكم عليها فى سياقها التاريخى – والهدف هو تفادى تكرار مثل هذه التجربة.
(و) حزننا العميق على جراحة البتر لاصحاب مذكرة السبعة مصدره عرفاننا لهم بريادة المشاركة فى تاسيس الحركة – وفى ذاكرتنا اليالى الجميلة والمحاضرات المغلقة الثرة التى لم يفسد فيها الخلاف وتباين وتنوع وجهات النظر للود قضية — تلك التى كانت مصاحبة لكتابة النظام الاساسى والمؤتمر العام الاول نهاية عام 2004 فى ليبيا . وشاهدنا ان المؤسسية لا تنزل علينا كمائدة جاهزة من السماء – انما نزرعها – ونحشها – ونحصدها – (ونشربوا بالعافية) كما يقول اهل دارفور – فالمؤسسية تاتى بالصبر داخل (الحركة) – والنقد داخل الحركة — وتكريس حق النقد والتقويم بالداخل . لقد تضررت حركة المهمشين كلها من الاخراج الغير موفق لمذكرة السبعة ونشرها للجمهور قبل البت فيها داخل مؤسسات الحركة وما تبع ذلك من فصل للذين وقعوا عليها — لان وجودهم فى داخل الحركة كقيادات رائدة كان سيعين كثيرا فى توطين المؤسسية وتوسيع قاعدة الشورى .
(ى) الحديث عن المؤسسية (فى حركة العدل والمساواة) لا يمكن النظر اليه بمعزل عن الظروف الموضوعية للحركات المسلحة قاطبة — فاذا نظرنا الى الحركة الشعبية الجنوبية باعبارها ( دكو) الحركات – بمعنى الابن الاكبر) للحركات المسلحة – والى الحركة الشعبية قطاع جنوب كردفان – جبال النوبة – وهى تمثل (سمبو) الحركات اى الابن الثانى) – والى قطاع الحركة الشعبية النيل الازرق وهم (يرو) الحركات—اى الابن الثالث) – وقارنا هذه الحركات بملف دارفور (كدو) الملفات – اى الابن الاصغر ) — وليعذرنى القارئ فى اختزال ملف دارفور لغرض هذا المقال فى حركة العدل والمساواة — لان المجال مجال نقد ذاتى يسمح بمثل هذا الاختذال – فحركة العدل والمساواة (كدو الحركات اى الابن الاصغرترتيبا ) – هى افضل هذه الحركات من حيث المؤسسية ووضوح الرؤية منذ الكتاب الاسود – ولها نظام اساسى مجاز من المؤتمر العام منذ عام 2004 وقد شهدت الدنيا كلها لحركة العدل بالمؤسسية عند استشهاد مؤسس الحركة ورائدها الشهيد د خليل . وقد كانت قراءة كل المحللين بما فى ذلك الكتاب الذين استضاتهم القنوات السودانية ان الحركة سوف تجتاز هذه المحنة بنجاح لانها حركة منظمة ولديها مؤسسية. ولم تخيب الحركة ظنون المحللين بها – فقد تولى د الطاهر – رئيس المجلس التشريعى رئاسة الحركة خلال الفترة الانتقالية عملا باحكام النظام الاساسى – ثم اختارت الحركة من خلال مؤتمرها العام الاستثنائى رئيس الحركة (د جبريل) – ومن خلال هذا المؤتمر العام الشرعى والدستورى جددت الحركة شرعية كافة مؤسساتها وفقا للدستور. فحركة العدل والمساواة تمتلك كل مميزات الشخصية النمطية ل (الكدو- الابن الاصغر فى البيت) من الشطارة والعناية المركزة لدرجة الدلال – فملف دارفور نال رواجا دوليا لدرجة الدلال وتحدث بوش الابن عن (الجنجويد) — وزار دارفور اكثر 40 وزيرخارجية بما فيهم كوفى عنان الامين العام للامم المتحدة وكولن باول وكوندا ليسا رايس – وصدرت قرارات لا تحصى من مجلس الامن بشان هذه القضية – وفى منبرالدوحة كان الدلال الحقيقى للدارفوريين قاطبة من كل الحركات التى ارتضت المشاركة فى المنبر – واصحاب المصلحة كمان – هاك يا تذاكر درجة اولى واحيانا طيارات خاصة – وهاك يا فنادق خمسة نجوم مع النثريات ومصاريف الجيب – فتزوج القادة وانجبوا داخل الفنادق خمسة نجوم واطفالهم (مواليد الدوحة) – وقد طاب المقام ببعضهم فقرر ان يمضى فترة استراحة المحارب بالدوحة – تحت شماعة غياب المؤسسية فى الحركة– اننا لا ندعى الكمال – بل نعرف غيوبنا ونقائصنا ونتحدث عنها من خلال قنوات الحركة ونعمل بكل جد لتطوير انفسنا ومؤسستنا ولكنا نربء بالذين (فتروا من النضال) ان يتخذوا من حكاية (غياب المؤسسية المزعوم) سببا للذهاب الى احضان المؤتمر الوطنى لقبض ثمن نضالهم.
(ط) سيكون مقالى القادم – بحول الله – عن الركن الثالث للقضية (بند الطلبات) اى الهدف – واعنى بذلك دراسة مفعول الزمن على الهدف اى العقيدة القتالية للمتمردين.
ابوبكر القاضى
الدوحة
28 سبتمبر 2012
[email protected]